الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعا (شابا قويا) ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.
واختلف في الزمن الذي فتر فيه الوحي فقيل ثلاث سنوات، وقيل أقل من ذلك، والراجح ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستة أشهر «22» .
ثم روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:
العبر والعظات:
حديث بدء الوحي هذا، هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته. وفهمه واليقين به هما المدخل الذي لا بدّ منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النّبي صلى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية ذلك أن حقيقة (الوحي) هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذي يبلغ عن ربّه دون أن يغيّر أو ينقص أو يزيد.
من أجل هذا يهتم محترفو التشكيك بالإسلام، بمعالجة موضوع الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم، ويبذلون جهدا فكريا شاقّا، في تكلّف وتمحل، من أجل التلبيس في حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضا. وذلك لعلمهم بأن موضوع (الوحي) هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله. فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتي.
من أجل هذه الغاية، أخذ محترفو الغزو الفكري، يحاولون تأويل ظاهرة الوحي وتحريفها عما يرويه لنا المؤرخون وتحدث به صحاح السّنة الشريفة، وإبعادها عن حقيقتها الظاهرة وراح كل منهم يسلك إلى ذلك ما يروق لخياله من فنون التصورات المتكلفة الغريبة.
فمن متصور بأن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يزل يفكر.. إلى أن تكونت في نفسه بطريقة
(22) راجع فتح الباري: 1/ 21
الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية، ومن مفضل على ذلك إشاعة القول بأنه صلى الله عليه وسلم إنما تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، ومن قائل بأن الأمر ليس هذا ولا ذاك ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم كان رجلا عصبيا أو مصابا بداء الصرع «23» .
ونحن حينما ننظر إلى مثل هذه التمحلات العجيبة التي لا يرى العاقل مسوغا لها إلا التهرب من الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام، ندرك في جلاء ووضوح الحكمة الإلهية الباهرة من بدء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي استعرضناها الآن، في حديث الإمام البخاري.
لماذا رأى رسول الله جبريل بعيني رأسه لأول مرة، وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟
لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه والحيرة في فهم حقيقته، وقد كان ظاهر محبة الله لرسوله وحفظه له يقتضي أن يلقي السكينة في قلبه ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي تمثل له في الغار أتيا من الجن، ولم يرجح على ذلك أن يكون ملكا أمينا من عند الله؟
لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدة طويلة، وجزع النّبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى إنه كان يحاول- كما يروي الإمام البخاري- أن يتردى من شواهق الجبال؟
هذه أسئلة طبيعية بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة باهرة، ألا وهي أن يجد المفكر الحر فيها الحقيقة الناصعة الواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري والتأثر بأخيلتهم المتكلفة الباطلة.
لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مردّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلقّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصوّر، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط.
ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى، حتى إنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائدا إلى البيت يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوفا للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثّها في العالم، وأن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر في باله، وإنما طرأت طروءا مثيرا على حياته، وفوجئ بها دون أي توقع
(23) راجع حاضر العالم الإسلامي: 1/ 38 و 39
سابق. ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه- بطريقة الكشف التدريجي المستمر- عقيدة يؤمن بالدعوة إليها! ..
ثم إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية، لا يستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون. وليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير والتأمل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى. وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة.
وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها- حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكس ذلك.
ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه صلى الله عليه وسلم، في توهمه بأن هذا الذي رآه وغطّه وكلّمه في الغار قد يكون أتيّا من الجن، إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر:«لقد خشيت على نفسي» أي من الجانّ. ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة.
وقد كان الله عز وجل قادرا أن يربط على قلب رسوله ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا من أركان العقيدة الإسلامية أو التشريع الإسلامي لم يطبخ في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام سابقا ولم يتصور الدعوة إليه سلفا.
ثم إن فيما ألهم الله خديجة من الذهاب به عليه الصلاة والسلام إلى ورقة بن نوفل، وعرض الأمر عليه تأكيدا من جانب آخر بأن هذا الذي فوجئ به عليه الصلاة والسلام إنما هو الوحي الإلهي الذي كان قد أنزل على الأنبياء من قبله، وإزالة لغاشية اللبس التي كانت تحوم حول نفسه بالخوف والتصورات المختلفة عن تفسير ما رآه وسمعه.
أما انقطاع الوحي بعد ذلك، وتلبّثه ستة أشهر أو أكثر، على الخلاف المعروف فيه، فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة. إذ في ذلك أبلغ الرّد على ما يفسر به محترفو الغزو الفكري الوحي النّبوي من أنه الإشراق النفسي المنبعث لديه من طول التأمل والتكرار، وأنه أمر داخلي منبعث من ذاته نفسها.
لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة، وأن يستبدّ به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن
يكون الله عز وجل قد قلاه بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه وراحت تحدثه نفسه، كلما وصل إلى ذروة جبل، أن يلقي بنفسه منها! ..
إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه في حراء، وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يقول:
«يا محمد أنت رسول الله إلى الناس» . فعاد مرة أخرى وقد استبدّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. [المدثر 74/ 1- 2] .
إن هذه الحالة التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجعل مجرّد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا، ضربا من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.
إذن فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام. وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عز وجل.
وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟
والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلّا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جل جلاله وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد:
ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي:
1-
التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنّبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما الحديث فمعناه
(24) الظاهرة القرآنية: 127
وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2-
كان النّبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها، وربّما مرّ على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
3-
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف.. وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليمّ.. وقصة فرعون.. ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أميّا: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت 29/ 48] .
4-
إن صدق النّبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم، من قبل ذلك، صادقا مع نفسه، ولذا فلا بدّ أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره.
وكأن هذه الآية جاءت ردّا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس 10/ 94] .
ولذا روي أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل» «25» .
(25) رواه ابن كثير عن قتادة.