الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يشغل شطر حراسته من الليل بركعات خاشعة يقف فيها بين يدي ربّه جل جلاله، وقد انصرفت مشاعره كلها إلى مناجاته بآيات من كتابه الكريم.
وكان من الطبيعي جدا أن لا يبالي بذلك السهم الذي أسرع فانحطّ في جسمه، ولا بالسهم الثاني الذي تبعه، لأن بشريّته كلها إنما كانت في تلك الساعة مطويّة ضمن مشاعره المنصرفة إلى ربّه جل جلاله وقد غمرتها لذّة المناجاة بين العبد وخالقه.
ولما ارتدّ شعوره إليه وأخذ يهتم بما قد أصابه، لم يكن ذلك لمزيد من الألم بدأ يشعر به، وإنما للمسؤولية المنوطة به مخافة أن يضيّعها بضياع حياته واستمرار سكوته. فكان ذلك هو الذي اضطره إلى أن يلتفت فيوقظ صاحبه ليستلم منه أمانة الثغر الذي أنيط بهما حفظه.
وتأمل يا أخي المسلم في قوله رضي الله عنه: «وايم الله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» (أي الصلاة) .
تلك هي طبيعة الجهاد الذي تكفل الله لأربابه بالنصر والفوز، مهما كانت القوى المتألبة عليهم المتجمعة من حولهم.
فقارن- ليتقطع منك الكبد حسرة وأسى- بين ذلك الجهاد و (الجهاد) الآخر الذي نفخر باسمه وشعاراته اليوم.
قارن، لتقف على مدى عدالة الله في الأرض، ولتعلم أن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
ثم ارفع يديك إلى السماء متوسلا أن لا يهلكنا الله بما فعل المبطلون، واجهد أن تسكب قطرات حارة من دمع عينيك فيهما. فلعل في ذلّ العبودية إذ نتسربل به صادقين أمام الله، ما يردّ عنا نقمة حقت علينا بتقصيرنا وما جنيناه من سيء الأعمال على نفوسنا.
غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع
ذكر ابن إسحاق وبعض علماء السيرة أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي ذهب إليه عامة المحققين أنها كانت في شعبان من العام الخامس للهجرة، ومن أبرز أدلة ذلك أن سعد بن معاذ كان حيا في هذه الغزوة، وله ذكر في قصة الإفك التي سيأتي تفصيلها إن شاء الله، وقد توفي سعد بن معاذ في غزوة بني قريظة متأثرا بجرحه الذي أصيب به في الخندق، وقد كانت
غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة كما سيأتي بيان ذلك. فكيف يكون سعد حيّا بعد عام من وفاته «58» ؟!
وسببها ما بلغ النّبي صلى الله عليه وسلم من أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن ضرار، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء يقال له (المريسيع) . فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على المقاتلين للراجل سهم وللفارس سهمان «59» .
وخرج مع المسلمين في هذه الغزوة عدد كبير من المنافقين، كان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، وذلك بما رأوا من اطراد النصر للمسلمين وطمعا في الغنيمة.
وقد روى البخاري ومسلم من طريقين مختلفين أن بعض الصحابة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن العزل في هذه الغزوة- وذلك عند ما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم السبي- فقال لهم: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهي كائنة» .
وروى ابن سعد في طبقاته وابن هشام في سيرته، أن غلاما لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اسمه جهجاه بن سعيد الغفاري تنازع مع سنان بن وبر الجهني، وهما مع جمع عند ماء المريسيع أثناء مقام النّبي صلى الله عليه وسلم هناك، وكادا أن يقتتلا، فصرخ الجهني:«يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فسمع بالأمر عبد الله بن أبي بن سلول، فغضب وقال للرهط ممن معه: أو فعلوها؟! .. قد نافرونا وكاثرونا في دارنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش (يقصد المسلمين من قريش) إلا كما قالوا: سمّن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» .
وكان ممن سمع كلامه زيد بن أرقم، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الأمر، وكان عنده عمر رضي الله عنه، فقال: «يا رسول الله مر به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال له عليه الصلاة والسلام: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذنتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما. وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي» .
(58) راجع للوقوف على تفصيل الدليل في هذا فتح الباري: 7/ 304، وزاد المعاد لابن القيم: 2/ 112، وعيون الأثر لابن سيّد الناس: 2/ 93
(59)
طبقات ابن سعد: 3/ 106، وسيرة ابن هشام: 2/ 290