الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسا دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي لا يكون تداول المال محصورا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط.
والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وإن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائها إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبّقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعا مكتفون، ليس فيهم كلّ على آخر وإن كانوا جميعا يتعاونون.
والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل حكمة شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسبابا معينة ألزمنا باتّباعها وعدم الخروج عليها. أي، إن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معا، فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية، فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجا على كل من الغاية والوسيلة معا، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلا إلى تلك الغاية، والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد.
هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود والمنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك
…
فهذه السورة من أهم ما يمكّنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها.
غزوة ذات الرقاع
وقد كانت في السنة الرابعة للهجرة، بعد مرور شهر ونصف تقريبا على إجلاء بني النضير، على ما ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي. ورجّح البخاري وبعض المحدثين أنها كانت بعد غزوة خيبر.
وسببها ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى، فخرج عليه الصلاة والسلام قاصدا
قبائل محارب وبني ثعلب، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه. وعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان بنجد من أرض غطفان يسمى (نخل) ، ولكن الله تعالى قذف في قلوب تلك القبائل الرعب- وقد كانت كما يقول ابن هشام جموعا كبيرة- فتفرقوا بعيدا عن المسلمين، ولم يقع أيّ قتال.
غير أن في قصة هذه الغزوة- مع ذلك- مشاهد تستأهل النظر فيها وأخذ الدرس منها، فلنجتزئ عن ذكر القصة كلها، بذكر هذه المشاهد:
أولا: روي في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، قال: فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي وسقطت أظافري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، قال: كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه» .
ثانيا: روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف، وأن طائفة صفّت معه، وطائفة وجاه العدو. فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلّم بهم «47» .
ثالثا: روى البخاري أيضا عن جابر رضي الله عنه: «أنه لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة (وقت القيلولة) في واد كثير العضاه (نوع من الشجر) فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله، فها هو ذا جالس
…
ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم» «48» .
رابعا: روى ابن إسحاق وأحمد عن جابر رضي الله عنه، قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فأصيبت امرأة من المشركين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
(47) رواه البخاري في 5/ 53 باب: غزوة ذات الرقاع، ورواه مسلم في 2/ 214 باب صلاة الخوف وزاد مسلم فروى بعد ذلك عن جابر أنه نودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين. قلت: ووجه التوفيق بين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرة، فصلاها مرة على النحو الأول وصلاها مرة أخرى على النحو الثاني وحديث مسلم يدل على أن المسافر يجوز له أن يتم الرباعية ويقصرها وهو مذهب الشافعي ومالك والإمام أحمد، خلافا للحنفية..
(48)
صحيح البخاري: 5/ 52 و 53 و 54
قافلا وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين وآخر من الأنصار «49» فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي.
فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أيّ الليل تحب أن أكفيكه؟
أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله. فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال:
وأتى الرجل فلما رأى شخص الأنصاري عرف أنه ربيئة القوم (الطليعة الذي يحرسهم) فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه الأنصاري وثبت قائما يصلي، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه وثبت قائما، ثم عاد له بالثالثة فنزعه، ثم ركع وسجد، وأهب صاحبه (أيقظه) قائلا: اجلس فقد أثبتّ، قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذر به «50» فهرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله، أفلا أيقظتني أول ما رماك، قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها. فلما ثابر عليّ الرمي ركعت فآذنتك. وايم الله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» «51» .
خامسا: روى البخاري ومسلم، وابن سعد في طبقاته، وابن هشام في سيرته، عن جابر بن عبد الله قال:
وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك، قال: لا ولكن بعنيه، قلت: فسمنيه يا رسول الله، قال: آخذه بدرهم! قلت:
لا، إذن تغبنني يا رسول الله. قال: فبدرهمين؟ قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمنه حتى بلغ الأوقية. فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال:
قد أخذته.. ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيّبا أم بكرا؟
(49) زاد ابن إسحاق: وهما عمار بن ياسر، وعباد بن بشر.
(50)
نذر به: أي اكتشف أمره.
(51)
رواه أحمد والطبري وأبو داود عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر بن عبد الله.
(52)
يواهق: أي يسابق.