المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العبر والعظات: تعتبر غزوة حنين هذه درسا في العقيدة الإسلامية وقانون - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌ ‌العبر والعظات: تعتبر غزوة حنين هذه درسا في العقيدة الإسلامية وقانون

‌العبر والعظات:

تعتبر غزوة حنين هذه درسا في العقيدة الإسلامية وقانون الأسباب والمسببات من نوح ذلك الدرس الذي أوحت به غزوة بدر، بل متمما له.

فإذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا في جنب كثرة أعدائهم، إذا كانوا صابرين ومتقين، فإن غزوة حنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضا لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين. وكما نزلت آيات من كتاب الله تعالى في تقرير عبرة (بدر) ، فقد نزلت آيات منه أيضا في تقرير العبرة التي ينبغي أن تؤخذ من (حنين) .

كان المسلمون في بدر أقل عددا منهم في أي موقعة أخرى ومع ذلك فلم تضرهم القلة شيئا بسبب صدق إسلامهم ونضج إيمانهم وشدة ولائهم لله ولرسوله.

وكان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي موقعة أخرى خاضوها من قبل. ومع ذلك فلم تنفعهم الكثرة شيئا، بسبب تلك الجماهير التي لم يتمكن الإيمان بعد في نفوسها، ولم يتغلغل معنى الإسلام بعد في أعماق أفئدتها.

لقد انضمت تلك الجماهير إلى الجيش بجسومهم وأشكالهم، بينما لا تزال الدنيا وأهواؤها تتخطف أفئدتهم ومستولي على نفوسهم. وهيهات أن يكون لتعداد الجسوم والأشكال أي أثر في النصر والتوفيق.

فمن أجل ذلك أدبرت هذه الجماهير وارتدت على أعقابها متفرقة في متاهات وادي حنين، حينما فوجئوا بكمائن العدو تخرج في وجوههم، وربما امتدت ظلال هذا الهلع إلى أفئدة كثيرة من المؤمنين الصادقين أيضا بادئ الأمر.

ولكن ما هو إلا أن سمع الأنصار والمهاجرون صيحات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونداءه لهم حتى كرّوا عائدين، يلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخوضون معه معركة حامية الوطيس، ولم يكن هؤلاء يزيدون على المئتين! ..

ولكن بهؤلاء المئتين عاد النصر إلى المسلمين، ونزلت السكينة على قلوبهم، وهزم الله عدوهم شرّ هزيمة، بعد أن كانوا اثني عشر ألفا فيهم كثير من الأمشاج الذين لم يغنوا عن أنفسهم شيئا! ..

وأنزل الله تعالى هذه العظة البليغة في كتابه الكريم:

وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 25- 27] .

ص: 289

وإليك الآن ما يؤخذ من هذه الغزوة من العظات والأحكام.

أولا- بثّ العيون بين الأعداء لمعرفة شأنهم وأخبارهم:

سبق أن ذكرنا أن هذا عمل جائز، بل هو واجب إن دعت إليه الحاجة، وهذا ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، فقد بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليتحسس أخبار العدو ويأتي المسلمين بالخبر عن عددهم وعدّتهم، وهو ما لم يقع فيه خلاف بين الأئمة.

ثانيا- للإمام أن يستعير أسلحة من المشركين لقتال أعداء المسلمين:

ومثل الأسلحة في ذلك ما يحتاجه الجيش من عدّة الحرب والقتال، ومثل الاستعارة تملكها منهم مجانا أو بثمن، وهذا ما فعله رسول الله في هذه الغزوة، حينما استعار أسلحة من صفوان بن أمية وكان لا يزال مشركا إذ ذاك.

وهذا داخل في عموم حكم الاستعانة بالكفار عند الحرب، وكنا قد ذكرنا هذه المسألة عند تعليقنا على غزوة أحد. ويتبين لك الآن أن الاستعانة بالكفار تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول: الاستعانة بأشخاص منهم للقتال مع المسلمين، وهذا ما مضى الحديث عنه في غزوة أحد، وقد قلنا إذ ذاك إنه جائز إذا دعت الحاجة إليه، واطمأن المسلمون إلى صدق وأمانة أولئك الذين سيقاتلون معهم.

النوع الثاني: الاستعانة ببعض ممتلكاتهم كالسلاح وأنواع العدّة، ولا خلاف في أن ذلك جائز بشرط أن لا يكون فيه خدش لكرامة المسلمين، وأن لا يتسبب عن ذلك دخول المسلمين تحت سلطان غيرهم أو تركهم لبعض واجباتهم وفروضهم الدينية. وأنت تجد أن صفوان بن أمية حينما أعار الأسلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان في وضع المغلوب الضعيف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المركز الأقوى «89» .

ثالثا- جرأته صلى الله عليه وسلم في الحرب:

وإنك لتبصر صورة نادرة حقا لهذه الجرأة، عندما تفرقت جموع المسلمين في الوادي وقد ولوا الأدبار، ولم يبق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط حومة الوغى حيث تحف به كمائن العدو التي فوجئوا بها. فثبت ثباتا عجيبا امتد أثره إلى نفوس أولئك الفارّين من أصحابه، فعادت إليهم من ذلك المشهد رباطة الجأش وقوة العزيمة.

روى ابن كثير في تفسيره خبر غزوة حنين ثم قال:

«قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة. إنه في مثل هذا اليوم، في حومة الوغى، وقد انكشف عن جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري ولا تصلح لفرّ

(89) انظر زاد المعاد: 2/ 190، ومغني المحتاج: 4/ 221

ص: 290

ولا لكرّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما بأنه سينصره ويتمّ ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان» «90» .

رابعا- خروج المرأة للجهاد مع الرجال:

فأما خروجها لمداواة الجرحى وسقي العطاش، فقد ثبت ذلك في الصحيح، في عدة غزوات: وأما خروجها للقتال، فلم يثبت في السّنة وإن كان الإمام البخاري قد ذكر في كتاب الجهاد بابا جعل عنوانه: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال. إذ إن الأحاديث التي ساقها في هذا الباب ليس فيها ما يدل على اشتراك النساء مع الرجال في القتال، قال ابن حجر:«ولم أر في شيء من ذلك (أي الأحاديث الواردة في هذا الموضوع) التصريح بأنهن قاتلن» «91» .

أما ما ذكره الفقهاء في حكم خروج المرأة للقتال، فهو أن العدو إن داهم بلدة من بلاد المسلمين وجب على جميع أهلها الخروج لقتاله بما فيهم النساء، إن تأملنا منهن دفاعا وبلاء، وإلا فلا يشرع ذلك «92» ، أما الخنجر الذي كان مع أم سليم فقد كان لمجرد الدفاع عن نفسها كما قالت.

وعلى هذا ينزّل ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال:«جهادكن الحج» ، فالمقصود الذي استأذنت به عائشة رضي الله عنها، إنما هو المشاركة في القتال لا الحضور للمداواة والخدمة وما أشبه ذلك، فهو مشروع، إذا توفرت شروطه، باتفاق.

وعلى كل فإن خروج المرأة مع الرجال إلى الجهاد مشروط بأن تكون في حالة تامة من الستر والصيانة، وأن يكون خروجها لحاجة حقيقية إلى ذلك، فأما إذا لم تكن ثم حاجة حقيقية أو كان ذلك يعرضها للوقوع في المحرمات فخروجها محرم لا يجوز إقراره.

والمهم أن تعلم أن الأحكام الإسلامية منوطة بعضها ببعض، فلا ينبغي تخيّر ما توحي به الأهواء منها لأسباب معينة مع الإعراض عما يتعلق به من الأحكام والواجبات الأخرى. إن مثل هذا يعتبر بلا ريب مصداقا واضحا لقول الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 85] .

ومن المكر القبيح لدين الله تعالى ما يعمد إليه بعض الناس لأغراض دنيوية حقيرة، من

(90) تفسير ابن كثير: 2/ 45

(91)

راجع فتح الباري: 6/ 51

(92)

راجع مغني المحتاج: 4/ 219

ص: 291

التقاط ما قد يطلب منهم من الفتاوى الشرعية بعد أن يشذبوا منها كل القيود والشروط ويقطعوا عنها ما قد يتعلق بها من التتمات، حتى تخرج موافقة للمطلوب خاضعة لأهواء السادة الموحهين.

ثم يقدمون هذه الفتاوى إليهم على طبق من المداهنة والنفاق! ..

خامسا- تحريم قتل النساء والأطفال والأجراء والعبيد في الجهاد:

فقد دلّ على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى المرأة التي قتلها خالد بن الوليد، وقد اتفق العلماء والأئمة كلهم على ذلك.

ويستثنى منه ما إذا اشتركوا في القتال وباشروا في مقاتلة المسلمين، فإنهم يقتلون مقبلين، ويجب الإعراض عنهم مدبرين.

كما أنه يستثنى ما إذا تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، ولم يمكن ردّ غائلتهم إلا بقتلهم، فإن ذلك جائز، وعلى الإمام أن يتبع ما تقتضيه المصلحة «93» .

سادسا- حكم سلب القتيل:

قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن في هذه الغزوة أن من قتل قتيلا فله سلبه، قال ابن سيد الناس:

«فصار ذلك حكما مستمرا» .

قلت: وهذا متفق عليه، ولكن وقع الخلاف بين الأئمة في نوع هذا الحكم الثابت المستمر، أهو من أحكام الإمامة أم الفتوى؟

أي هل أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مبلغا عن الله عز وجل حكما لا خيرة له ولا لأحد فيه كتبليغه أحكام الصلاة والصيام أم أعلنه حكما مصلحيا قضى به بوصف كونه إمام المسلمين يقضي فيهم بما يرى أنه الخير والمصلحة لهم؟

فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه حكم قائم على أساس التبليغ والفتوى وعليه فإن المجاهد له في كل عصر أن يأخذ سلب من قتل على يده من أهل الحرب ولا حاجة في ذلك إلى إذن الإمام أو القائد.

وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أنه حكم قضائي قائم على أساس الإمامة فقط، فيتوقف جواز أخذ السلب في كل عصر على إذن إمامه. فإن لم يأذن، أضيفت الأسلاب إلى الغنائم وسرى عليها حكمها «94» .

(93) الأحكام السلطانية: 4، مغني المحتاج: 4/ 223

(94)

انظر الأحكام السلطانية: 139 والأحكام للقرافي: 38

ص: 292

سابعا- الجهاد لا يعني الحقد على الكافرين:

وقد دلّ على ذلك ما ذكرناه من أن بعض الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند منصرفهم من حصار الطائف: «ادع الله على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» . وهذا يعني أن الجهاد ليس إلا ممارسة لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي مسؤولية الناس كلهم بعضهم تجاه بعض، لمحاولة إعتاق أنفسهم من العذاب الأبدي يوم القيامة.

ومن ثم فإن الدعاء من المسلمين لا ينبغي أن يتجه إلى غيرهم إلا بالهداية والإصلاح، لأن هذه الغاية هي الحكمة من مشروعية الجهاد.

ثامنا- متى يتملك الجند الغنائم؟

ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد هوزان حينما جاؤوه مسلمين: لقد استأنيت بكم، أي أخرت قسم الغنائم آملا في إسلامكم.

وهذا يدلّ على أن الجند إنما يملكون الغنائم بعد تقسيم الحاكم أو الإمام لها، فمهما دامت قبل القسمة فهي لا تعتبر ملكا للمقاتلين. وتلك هي فائدة تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لتقسيمها بين المسلمين.

كما أن هذا يدل أيضا على أن للإمام أن يعيد الغنائم إلى أصحابها إذا جاؤوه مسلمين إذا لم يكن قد قسمها بين الجند، وقد كان هذا ما يفضله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويدل موقفه صلى الله عليه وسلم من وفد هوازن وأموالهم التي غنمها المسلمون، على أن ما قسم من هذه الأموال بينهم، لا يجوز للإمام أن يسترد شيئا منه إلا بطيب نفس من صاحبه دون أن يتأثر بأي جبر أو إكراه.

وتأمل في مدى دقته صلى الله عليه وسلم في أمر هذا الاستئذان من أصحاب الأموال فإنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يكتفي بصيحاتهم الجماعية المرتفعة: قد طيبنا ذلك يا رسول الله (أي طابت بإرجاعه نفوسنا) ؛ بل أصرّ على أن يعلم أمر هذا الرضى ويستوثق منه بواسطة السماع من كل شخص على حدة أو السماع من وكلائهم وعرفائهم.

وهذا يعني أنه ليس للحاكم أن يستعمل شيئا من صلاحياته وسلطانه في حمل الناس على أن يتنازلوا عن شيء من حقوقهم وممتلكاتهم المشروعة، بل إن الشارع لم يعطه شيئا من هذه الصلاحيات والامتيازات، حتى ولو كان رسولا.

وتلك هي العدالة والمساواة الحقيقية الرائعة! .. فلتدفن نفسها في الرغام كل دعوى باطلة تريد أن تخب- بالألفاظ والشعارات- وراء هذه المثل والقيم الإلهية العظيمة.

تاسعا- سياسة الإسلام نحو المؤلفة قلوبهم:

لقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص أهل مكة الذين أسلموا عام الفتح بمزيد من الغنائم عن

ص: 293

غيرهم، ولم يراع في تلك القسمة قاعدة المساواة الأصلية بين المقاتلين. وهذا العمل منه صلى الله عليه وسلم من أهم الأدلة التي استدل بها عامة الأئمة والفقهاء على أنه يجوز للإمام أن يزيد في عطاء من يتألف قلوبهم على الإسلام بالقدر الذي تدعو إليه مصلحة تألف قلوبهم، بل يجب عليه ذلك عندما تدعو إليه المصلحة، ولا مانع من أن يكون هذا العطاء من أصل الغنائم.

ومن هنا كان لهؤلاء الناس سهم خاص باسمهم في الزكاة، يجتمع تحت يد الحاكم ليعطي منه (كلما دعت الحاجة) لمن يرى أن المصلحة الإسلامية تدعو إلى تألف قلوبهم.

عاشرا- فضل الأنصار ومدى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم:

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» ، فقد أراد الشيطان أن يبث في نفوس جماعة من الأنصار معنى النقد على السياسة التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في توزيع الغنائم، وربما أراد لهم الشيطان أن يتصوروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدركته محبة قومه وبني وطنه فنسي في جنبهم الأنصار! ..

فماذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبر بذلك؟

إن الخطاب الذي ألقاه عليهم جوابا على هذه الوساوس، ليفيض بمعاني الرقة والذوق الرفيع، ومشاعر المحبة الشديدة للأنصار، وهو يفيض في الوقت ذاته بدلائل التألم من أن يتهم من قبل أحب الناس إليه بنسيانهم والإعراض عنهم.

عد إلى خطابه هذا فتأمله.. فسترى أنه قد ضمنه أدق خفقات قلبه وألطف إحساساته!.

ولقد لا مست هذه الرقة والخفقات مشاعر الأنصار فهزتها هزا، ونفضت منها ما كان قد علق بها من الوساوس والهواجس، فارتفعت أصواتهم بالبكاء فرحا بنبيهم وابتهاجا بقسمتهم ونصيبهم.

فما المال وما الشياه والغنائم، في جنب حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يعودون به ويعود بهم إلى ديارهم ليكون المحيا والممات فيما بينهم؟ وأي برهان منه عليه الصلاة والسلام ينطق بالوفاء وخالص المحبة والود أكثر من هذا.. أي أكثر من أن يدع وطنه ومسقط رأسه ليقضي بقية أيامه فيما بينهم؟!

ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا على التقدير والحب؟!

إنه أعطى قريشا كثيرا من الأموال والغنائم.. فهل خصّ نفسه بشيء من ذلك أم جعل نصيبه منه كنصيب الأنصار؟ لقد عمد إلى (الخمس) الذي جعله الله خاصا برسوله يضعه حيث شاء، فوزعه بين أولئك الأعراب الذين كانوا من حوله.

وتأمل فيما قاله لهم، وهم يحدقون به ويستزيدون في العطاء:«أيها الناس، والله ما لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» .

ص: 294