الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» .. وظل يناشد الله متضرعا وخاشعا وهو يبسط كفيه إلى السماء حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، فالتزمه من ورائه وقال له:«يا رسول الله! أبشر فو الذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك» . وأقبل المسلمون أيضا يستنصرون الله ويستغيثونه ويخلصون له في الضراعة «3» .
وفي صبيحة يوم الجمعة لسنتين خلتا من الهجرة بدأ القتال بين المشركين والمسلمين، وأخذ النّبي صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال:«شاهت الوجوه» ، ثم نفحهم بها فلم يبق فيهم رجل إلا امتلأت عيناه منها، وأيّد الله المسلمين بالملائكة يقاتلون إلى جانبهم «4» ، وانحسر القتال عن نصر كبير للمسلمين، وقتل في تلك الموقعة سبعون من صناديد المشركين، وأسر سبعون، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا.
وألقيت جثث المشركين الذين صرعوا في هذه الغزوة- وفيهم عامة صناديدهم- في قليب بدر وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضفة البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا؟» ، فقال عمر:«يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» «5» .
واستشار النّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم فدية من المال تكون قوة للمسلمين ويتركهم عسى الله أن يهديهم، وأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم لأنهم أئمة الكفر وصناديده، ولكن النّبي صلى الله عليه وسلم مال إلى ما رآه أبو بكر من الرحمة بهم وافتدائهم بالمال، وحكم فيهم بذلك. غير أن آيات من القرآن نزلت عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وتأييدا للرأي الذي رآه عمر من قتلهم، وهي من قوله تعالى:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «6» [الأنفال 8/ 67] .
العبر والعظات:
تنطوي غزوة بدر الكبرى على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله ونصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم.
(3) ابن هشام: 1/ 205، وزاد المعاد: 2/ 87، وحديث استغاثة الرسول بربّه في غزوة بدر متفق عليه.
(4)
حديث تأييد للمؤمنين بالملائكة في بدر متفق عليه.
(5)
البخاري: 5/ 8، وروى مسلم نحوه في 8/ 163
(6)
صحيح مسلم: 5/ 157- 158
ونحن نجمل هذه الدلائل والدروس فيما يلي:
1-
يدلنا السبب الأول لغزوة بدر أن الدافع الأصلي لخروج المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع قصد الاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام تحت إشراف أبي سفيان، غير أن الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم، وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يقصدها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه، وفي هذا دليل على أمرين:
الأمر الأول: أن عامة ممتلكات الحربيين تعدّ بالنسبة للمسلمين أموالا غير محترمة، فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منها، وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتبر ملكا لهم.
وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء، على أن للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم في مكة عذرا آخر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض- أو شيء من التعويض- عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم.
الأمر الثاني: أنه على الرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصدا أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هنا كان النصر العظيم حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته، بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليف قريش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين. وإن هذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين لتتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال 8/ 7] .
2-
وعندما نتأمل كيف يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليشاورهم في الأمر الذي فوجئوا به بعد أن أفلت منهم العير وطلع عليهم النفير العظيم المدجج بالسلاح الكامل، نقف على دلالتين شرعيتين لكل منهما أهمية بالغة:
الدلالة الأولى: التزامه صلى الله عليه وسلم بمبدأ التشاور مع أصحابه، وإذا استعرضنا حياته صلى الله عليه وسلم، وجدنا أنه كان يلتزم هذا المبدأ في كل أمر لا نص فيه من كلام الله تعالى، مما له علاقة بالتدبير والسياسة الشرعية، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أن الشورى في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنّة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. أما ما ثبت فيه نص من الكتاب أو حديث من السّنة أبرم به الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه، فلا شأن للشورى فيه ولا ينبغي أن يقضى عليه بأيّ سلطان.
الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح بين المسلمين وغيرهم لما يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم ب (حكم الإمامة) . وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية. غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان المحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة.
فإذا رأى الحاكم أنّ من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبّت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصّا من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد. وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب.
وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلّت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعمّ الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط الحاجة وتوفر مقومات التكليف.
ثم إن الصحيح الذي اتفق عليه عامة الفقهاء أن هذه الشورى مشروعة ولكنها ليست بملزمة، أي إن على الحاكم المسلم أن يستنير بها في بحثه ورأيه، ولكن ليس عليه أن يأخذ بآراء الأكثرية مثلا لو خالفوه في رأيه.. ويقول القرطبي في هذا:
3-
ولا شك أن الباحث ليتساءل: لماذا لم يقع جواب أبي بكر وعمر والمقداد موقعا كافيا من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، وظل ينظر في وجوه القوم، حتى إذا تكلم سعد بن معاذ، اطمأن وطابت نفسه عند ذاك؟
والجواب، أن النّبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يريد أن يعرف رأي الأنصار أنفسهم في ذلك الأمر: ترى هل سيصدرون في آرائهم وأحكامهم عن المعاهدة التي تمت بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حيث إنها معاهدة خاصة تستوجب الالتزام بها، وإذن فليس من حقه أن يجبرهم على القتال معه والدفاع عنه إلا في داخل المدينة كما تنص على ذلك المعاهدة. أم سيصدرون
(7) الجامع لأحكام القرآن: 4/ 252
عن مشاعرهم الإسلامية ومعاهدتهم الكبرى مع الله تعالى؟ إذن فمن حق النّبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الأمين فيهم على هذه المعاهدة ومن واجبهم أن يبذلوا حقوق هذه المعاهدة ويقوموا بمسؤولياتها كاملة.
ولدى التأمل فيما أجاب به سعد بن معاذ، نعلم أن المبايعة التي ارتبط بها الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، لم تكن إلا مبايعة مع الله تعالى، ولم يكونوا يتصورون وهم يلتزمون الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يهاجر إليهم إلا دفاعا عن دين الله تعالى وشريعته.
فليست القضية مسألة نصوص معينة اتفقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فهم لا يريدون أن يلتزموا بما وراءها، وإنما المسألة أنهم إنما وقّعوا بذلك تحت صك عظيم تضمن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ..
[التوبة 9/ 111] .
ولذلك كان جواب سعد رضي الله عنه: «لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. فامض لما أردت فنحن معك» . أي فنحن نسير معك وفق معاهدة أعظم من تلك التي اتفقنا عليها معا، في بيعة العقبة.
4-
يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، يبثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم وليتبيّنوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد. ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، بشرط أن لا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من مصلحة الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتما أو نوعا من المخادعة أو التحايل. وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه واسطة لا بد منها لمصلحة المسلمين وحفظهم.
وقد جاء في كتب السيرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قريبا من بدر، ركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله النّبي صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم.
5-
(أقسام تصرفاته صلى الله عليه وسلم : ويدلنا الحديث الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والحباب بن المنذر في شأن المكان الذي نزل فيه (وهو حديث صحيح الإسناد كما رأيت) أن تصرفات النّبي صلى الله عليه وسلم ليست كلها من نوع التشريع، بل هو في كثير من الأحيان يتصرف من حيث إنه بشر من الناس يفكر ويدبر كما يفكر غيره، ولا ريب أننا لسنا ملزمين باتباعه في مثل هذه
التصرفات، فمن ذلك نزوله عليه الصلاة والسلام في المكان الذي اختاره في هذه الغزوة. فقد وجدنا كيف أن الحباب أشار بالتحول عنه إلى غيره ووافقه عليه الصلاة والسلام في ذلك، وذلك بعد أن استوثق الحباب رضي الله عنه أن اختيار النّبي صلى الله عليه وسلم لذلك المكان ليس بوحي من عند الله.
ومن ذلك كثير من تصرفاته التي تدخل تحت السياسة الشرعية والتي يتصرف فيها النّبي صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إمام ورئيس دولة لا من حيث إنه رسول يبلغ عن الله تعالى، مثل كثير من عطاءاته وتدابيره العسكرية. وللفقهاء تفصيل واسع في هذا البحث، لا مجال لعرضه في هذا المقام.
6-
(أهمية التضرع لله وشدة الاستعانة به) : لقد رأينا أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، حتى إنه كان يشير إلى أماكن متفرقة في الأرض ويقول:«هذا مصرع فلان» ، ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فما تزحزح أحد في مقتله عن موضع يده كما ورد في الحديث الصحيح.
ومع ذلك فقد رأيناه يقف طوال ليلة الجمعة في العريش الذي أقيم له، يجأر إلى الله تعالى داعيا ومتضرعا، باسطا كفيه إلى السماء يناشد الله عز وجل أن يؤتيه نصره الذي وعد حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر، والتزمه قائلا:«كفى يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد» . فلماذا كل هذه الضراعة ما دام أنه مطمئن إلى درجة أنه قال: «لكأني أنظر إلى مصارع القوم» ، وأنه حدّد مصارع بعضهم على الأرض؟
والجواب؛ أن اطمئنان النّبي صلى الله عليه وسلم وإيمانه بالنصر، إنما كان تصديقا منه للوعد الذي وعد الله به رسوله، ولا شك أن الله لا يخلف الميعاد، وربما أوحي إليه بخبر النصر في تلك الموقعة.
أما الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء، فتلك هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وذلك هو ثمن النصر في كل حال.
فما النصر- مهما توفرت الوسائل والأسباب- إلا من عند الله وبتوفيقه، والله عز وجل لا يريد منّا إلا أن نكون عبيدا له بالطبع والاختيار، وما تقرّب متقرّب إلى الله بصفة أعظم من صفة العبودية، وما استأهل إنسان بواسطة من الوسائط استجابة دعاء من الله تعالى، كما استأهل ذلك بواسطة ذلّ العبودية يتزيّى ويتبرقع به بين يدي الله تعالى.
وما أنواع المصائب والمحن المختلفة التي تهدد الإنسان في هذه الحياة أو تنزل به، إلا أسباب وعوامل تنبهه لعبوديته، وتصرف آماله وفكره إلى عظمة الله سبحانه وتعالى وباهر قدرته، كي يفرّ إليه سبحانه وتعالى ويبسط أمامه ضعفه وعبوديته، ويستجير به من كل فتنة وبلاء، وإذا استيقظ الإنسان في حياته لهذه الحقيقة وانصبغ سلوكه بها، فقد وصل إلى الحدّ الذي أمر الله عباده جميعا أن يقفوا عنده وينتهوا إليه.
فهذه العبودية التي اتخذت مظهرها الرائع في طول دعاء النّبي صلى الله عليه وسلم وشدة ضراعته ومناشدته لربّه أن يؤتيه النصر، هي الثمن الذي استحق به ذلك التأييد الإلهي العظيم في تلك المعركة. وقد نصّت على ذلك الآية الكريمة إذ تقول:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . ويقينا منه صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية لله عز وجل، كان واثقا بالنصر مطمئنا إلى أن العاقبة للمسلمين. ثم قارن مظهر العبودية التي تجلت في موقفه صلى الله عليه وسلم ونتائج ذلك، مع مظهر ذلك الطغيان والتّجبر الذي تجلى في موقف أبي جهل حينما قال:«لن نرجع عن بدر أبدا حتى ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا» ، وتأمل في نتائج ذلك التجبر والجبروت! ..
لقد كانت نتيجة العبودية والخضوع لله تعالى، عزة قعساء ومجدا شامخا خضع لهما جبين الدنيا بأسرها، ولقد كانت نتيجة الطغيان والجبروت الزائفين قبرا من الضيعة والهوان أقيم لأربابهما حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر وتعزف عليهم القيان. وتلك هي سنة الله في الكون كلما تلاقت عبودية لله خالصة مع جبروت وطغيان زائفين.
7-
(الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) : انطوت بدر على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين الصادقين. فقد أمدّ الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم. وهذه حقيقة ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب والسّنة الصحيحة. روى ابن هشام أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على النقع» ورواه البخاري أيضا بلفظ قريب منه «8» .
ومن أوضح الأدلة القاطعة على أن التعبير بالملائكة في بيان الله عز وجل ليس المقصود به ما يتوهمه بعضهم من المدد الروحي أو القوة المعنوية أو نحو ذلك- أقول من أوضح الأدلة القاطعة على بطلان هذا الوهم- ضبط البيان الإلهي الملائكة بعدد محدود وهو الألف، في قوله عز وجل:
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . إذ العدد من مستلزمات الكم المنفصل في الأشياء، ولا يكون ذلك إلّا في الأشياء المادية المحسوسة.
ومن هنا نعلم أن تقييد البيان الإلهي الملائكة بعدد معين ينطوي على حكم باهرة من أجلّها قطع السبيل على من يريد أن يتناول الآية، ويفسر الملائكة بالمعنى الذي يروق له وهو مجرد الدعم المعنوي.
(8) ولفظه في البخاري، أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل آخذ بزمام فرسه عليه أداة حرب. راجع صحيح البخاري: 5/ 14
ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين- إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم، واستجابة حسية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يقفون مع أول تجربة قتال في سبيل الله، لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد. وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك. ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معلّلا نزول الملائكة: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 8/ 10] .
8-
(الحياة البرزخية للأموات) : في وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على فم القليب ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعدما ماتوا، وفيما قاله لعمر رضي الله عنه إذ ذاك، دليل واضح على أن للميت حياة روحية خاصة به، لا ندري حقيقتها وكيفيتها، وأن أرواح الموتى تظل حائمة حول أجسادهم، ومن هنا يتصور معنى عذاب القبر ونعيمه، غير أن ذلك كله إنما يخضع لموازين لا تنضبط بعقولنا وإدراكاتنا الدنيوية هذه، إذ هو مما يسمى بعالم الملكوت البعيد عن مشاهداتنا وتجاربنا العقلية والمادية. فطريق الإيمان بها إنما هو التسليم لها بعد أن تصلنا بطريق ثابت صحيح.
9-
ثم إن مسألة الأسرى، بما تضمنته من مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنهم، وما أعقبها من حكم افتدائهم بالمال ثم نزول آيات تعتب على النّبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه اتخاذ ذلك الحكم، نقول إن لهذه المسألة دلالات هامة:
أولا: (الأسرى واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم : دلّتنا هذه الواقعة على أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد، والذين ذهبوا إلى هذا- وهم جمهور علماء الأصول- استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر.
وإذا صحّ أن يجتهد، صحّ منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر، بل لا بدّ أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم قد وقع على ما هو الحق في علم الله تعالى.
قال شارح اللمع: «وقد كان الخطأ عليه جائزا، إلا أنه لا يقرّ عليه، بل ينبّه عليه سريعا» ، وقال أبو إسحاق الشيرازي:«ومن أصحابنا من قال: ما كان يجوز عليه الخطأ، وهذا خطأ، لقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيدل على أنه أخطأ» «9» ، [التوبة 9/ 43] .
وقال الأسنوي في شرحه على المنهاج: «واختار الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقرّ عليه. ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث» «10» .
وقال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
(9) انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي: 824
(10)
الأسنوي على المنهاج: 4/ 537
[الأنفال 8/ 67] الآية.. «والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرّون عليه» .
وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم أو الانحراف أو نحو ذلك مما يتنافى مع العصمة الثابتة للأنبياء. غير أن المقصود بالخطأ هنا عدم مطابقة اجتهاده صلى الله عليه وسلم لما هو الكمال الثابت في علم الله عز وجل. وهو لا يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم، بل هو مثاب من الله تعالى عليه. والناس مكلفون باتباعه في ذلك ما لم تتنزل عليه آية تصرفه إلى حكم آخر شأنه شأن الحاكم إذا اجتهد. وهكذا فإن اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه وحي يتعلق به، له طرف ناظر إلى الناس، وطرف آخر يتعلق بعلم الله تعالى. فأما اجتهاده بالنسبة للطرف الأول، فلا يوصف بالخطأ البتة، لأن الناس مكلفون باتباعه على كل حال كاتباعهم لسائر المجتهدين من بعده، إذ لا سبيل لهم للاطلاع على الخفي الثابت في علم الله عز وجل. وأما اجتهاده بالنسبة للطرف الثاني أي المتعلق بعلم الله عز وجل، فخاضع لوصفي الصحة والخطأ، إذ هو قابل لموافقة ما هو الكمال الثابت في علمه عز وجل، ولعدم موافقته له. والكمال المطلق إنما هو لله عز وجل. ولقد كان عليه الصلاة والسلام يرقى في الكمالات متجاوزا المراحل التي كانت تبدو له نقصا وتقصيرا بالنسبة لما ارتقى إليه من بعد، وكان يستغفر الله من تلبسه بها كاستغفارنا من الذنوب، ويقول:«إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» .
ثانيا: كما أن غزوة بدر هي أول تجربة للمسلمين في التضحية والقتال في سبيل الله تعالى وهم على ما كانوا عليه من الضعف والقلة، فكذلك هي أول تجربة لهم في رؤية الغنائم والأموال أمامهم في أعقاب المعركة، وهم على ما كانوا عليه من الفقر والحاجة. وقد عالجت الحكمة الإلهية تجربة القتال مع الضعف بأن ثبّت الله قلوبهم وطمأن نفوسهم- كما ذكرنا- بالخوارق الدالة على النصر.
ثم عالجت الحكمة الإلهية تجربة رؤية الغنائم والأموال مع الحاجة والفقر، بوسائل تربوية دقيقة، جاءت في وقتها المناسب، وقد تجلى أثر هذه التجربة في مشهدين، على أعقاب هذه الغزوة. أما المشهد الأول فحينما انهزم المشركون وتركوا وراءهم أموالهم المختلفة، فقد تسابق بعض المسلمين إليها واختلفوا بعضهم مع بعض في كيفية استحقاقهم لها وكادوا يشتجرون على ذلك، ولم يكن قد نزل بعد حكم توزيع الغنائم بين المقاتلين فراحوا يسألون النّبي عليه الصلاة والسلام وينهون إليه خصومتهم في الأمر. وعندئذ نزل قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 1- 2] .
فأنت تدري أن الآيتين لا تنطويان على جواب سؤالهم، بل فيهما صرف لهم عن الموضوع كله، إذ هي تقول: إن الأنفال ليست لأحد منهم، بل هي لله ورسوله، أما هم فعليهم إصلاح هذا الشقاق الذي وقع فيما بينهم وإطاعة الله في أوامره، واجتناب نواهيبه، فتلك هي وظيفتهم، أما المال والدنيا، فليعتمدوا فيهما على الله تعالى. فلما ثاب هؤلاء المسلمون إلى هدي هاتين الآيتين وصرفوا النظر عما اشتجروا من أجله نزلت آيات أخرى تقرر كيفية تقسيم الغنائم بين المقاتلين على اختلافهم. وهذه من أبرع الوسائل التربوية الدقيقة كما ترى.
وأما المشهد الثاني، فهو عندما تشاور النّبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في شأن الأسرى، فقد سكنت نفوسهم إلى افتدائهم بالمال. وقد كانت الملاحظة في ذلك هي الجمع بين الرحمة والرفق بالأسرى، عسى أن يرعووا ويؤمنوا بالله، والتعويض عما فات المهاجرين من أموالهم التي تركوها في مكة عسى أن يقع موقعا لديهم ويساعدهم على إصلاح شؤون دنياهم. وهذا الرأي الذي سكنت إليه نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مدى شفقته على أصحابه. وهذه الشفقة هي التي جعلت يده صلى الله عليه وسلم ترتفع بالدعاء للمهاجرين لما رآهم لدى خروجهم إلى بدر، وإن علائم الحاجة والفقر بادية عليهم قائلا:
«اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، وإنهم جياع فأشبعهم» «11» .
ولكن الحكمة الإلهية لم ترد للمسلمين أن يجعلوا من النظرة إلى المال ميزانا أو جزء ميزان للحكم في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها مهما كانت الحال والظروف، إذ يوشك، لو تركوا لهذه النظرة وهم أمام أول تجربة من هذا النوع، أن يجري ذلك مجرى القاعدة المطردة فتستولي النظرة المادية على مثل هذه الأحكام التي ينبغي أن تظل متسامية في علياء لا يطولها شيء من أغراض الدنيا على اختلافها، ومن الصعب لمن سار وراء الدنيا أشواطا واستطاب مذاقها أن يرتد عنها ويفطم نفسه عن مذاقها.
روى مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى بافتداء الأسرى فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. فقلت يا رسول الله: «أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» ، (شجرة قريبة من النّبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «12» [الأنفال 8/ 67- 69] .
(11) أبو داود. عن جمع الفوائد: 2/ 90
(12)
مسلم: 5/ 158