الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العذاب والألم سيرا في الطريق ودنوا من النصر. وسينصرن الله هذا الدين حتى يسير الرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله» وفي رواية بزيادة: «والذئب على غنمه» .
وهذا المعنى نفسه هو السر في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشّر أصحابه بأن الله سيفتح لهم بلاد الفرس والروم، ومع ذلك فلم تفتح عليهم هذه البلاد إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بزمن غير يسير ولقد كان من مقتضى فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه ومدى محبة الله عز وجل له، أن تفتح كل تلك البلاد في حياته وبقيادته وتحت إشرافه، بدلا من أن يسجل التاريخ فتحها بقيادة أحد أتباعه.
لقد كان هذا قريبا من مقتضى محبة الله لرسوله، لولا أن النصر مرتبط بالقانون الذي ذكرناه.
لم يكن المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد دفعوا، من أجل انتصارهم في بلاد الشام والعراق، أقساط الثمن كله. ولا بد قبل النصر من دفع كامل الثمن. لا بدّ من ذلك ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا بينهم. وليست المسألة أن ترتبط الفتوحات باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتم بقيادته وتحت إشرافه من أجل عظيم محبة الله تعالى له. ولكن المسألة هي أن يبرهن المسلمون الذين بايعوا الله ورسوله على صدقهم في هذه المبايعة، وأن يصدقوا فيما عاهدوا الله عليه يوم أن وقعوا بالقبول والرضا تحت قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] .
سياسة المفاوضات
جاء في ما يرويه ابن هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدا ذا بصيرة ورأي في قومه- قال في نادي قريش: «يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم.. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع.
قال يا بن أخي: إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم.. قال: فاسمع مني. ثم قال:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت 41/ 1- 6] .
ثم مضى رسول الله في القراءة وعتبة يسمع حتى وصل إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت 41/ 13] فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفا مما تضمنته الآية من تهديد.
ثم عاد عتبة إلى أصحابه فلما جلس بينهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش:
أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم» .
وروى الطبري وابن كثير وغيرهما أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم وأن يزوجوه أجمل أبكارهم على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه عاداتهم، فلما رفض إلا الدعوة إلى الحق الذي بعث به، قالوا: فتعبد آلهتنا يوما ونعبد إلهك يوما، فرفض ذلك أيضا ونزل تعليقا على ذلك قوله تعالى:
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 109/ 1- 6] .
ثم إن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة والمال، وعرضوا عليه الطب إن كان هذا الذي يأتيه رئيّا من الجان.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» .
فقالوا له: «فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليفجر لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من