الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندئذ تسوروا عليه الدار، وسقطوا عليه من أعلى المنزل، وأقبلوا عليه تتناوشه سيوفهم حتى قتلوه.. وبلغ الخبر عليا رضي الله عنه فأقبل مغضبا، وقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير.
وهكذا، فقد كان مقتل عثمان بابا لسلسلة من الفتن امتدت حلقاتها إلى غير نهاية.
مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:
خرج عليّ رضي الله عنه من دار عثمان مغضبا لما قد وقع، وجاءه الناس يهرعون إليه وقالوا له: لابدّ لنا من أمير، فمدّ إلينا يدك نبايعك. فقال لهم عليّ: ليس ذلك إليكم، وإنما ذلك إلى أهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلّا أتى عليا، فقالوا له:
ما نرى أحدا أحقّ بها منك، مدّ يدك نبايعك، فبايعوه.
وما أن استتب الأمر لعليّ وتمت مبايعته، حتى هرب مروان وولده. وجاء عليّ إلى امرأة عثمان يسألها عن قاتلي عثمان، فقالت: لا أدري، دخل عليه رجلان لا أعرفهما ومعهما محمد بن أبي بكر، فدعا عليّ محمدا فسأله عما ذكرته امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب قد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكّرني أبي فقمت عنه، وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته.
فقالت امرأته: صدق، ولكنه أدخلهما.
وأخرج ابن عساكر عن كنانة مولى صفية وغيره، قالوا: قتل عثمان رجل من أهل مصر، أزرق أشقر.
وأخرج ابن عساكر أيضا عن أبي ثور الفهمي، قال: دخلت على عثمان وهو محاصر، فقال:
لقد اختبأت عند ربي عشرا، إني لرابع أربعة في الإسلام، وجهزت جيش العسرة، وأنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى، وما تغنيت، ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة، إلا أن يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام قط، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن قتل عثمان كان في أوسط أيام التشريق من عام خمسة وثلاثين.
العبر والعظات:
أولا- من أهم الفضائل والمزايا التي يتسم بها عهد عثمان، كثرة الفتوحات واتساعها في هذا العهد، فقد فتحت خراسان كلها، وفتحت أفريقيا، وامتدّ الفتح إلى الأندلس. هذا إلى جانب أعمال جليلة أخرى، قام بها عثمان، كجمعه الناس على الرسم القرآني الموثق، بعد أن سرت العجمة
إلى الألسن، وخيف على القرآن من جراء ذلك. وكتوسيعه الكبير لمسجد المدينة المنورة.
وما ضرّ أن اعتمد عثمان في كثير من فتوحاته على عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأمثاله فإن الإسلام يجبّ ما قبله، ولعلّ ابن سرح، كفّر بأعماله الجليلة هذه ما كان قد بدر منه من قبل.
والمعلوم أنه قد استقام من بعد على سبيل الرشد، وكان من أفضل الناس دينا.
ثانيا- مهما توجه النقد إلى عثمان رضي الله عنه، بسبب اختياره الولاة والأعوان أو أكثرهم، من أقاربه من بني أمية، فإنّ علينا أن نعلم أن ذلك كان اجتهادا منه، وقد دافع عن رأيه في ذلك أمام كثير من الصحابة. ومهما كان موقفنا من رأيه ودفاعه عنه، فما ينبغي أن يدفعنا النقد إلى سوء أدب في التحليل أو القول، وما ينبغي أن ينسينا خطؤه في ذلك- إن اعتبرناه خطأ- مكانته الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له يوم تبوك:«ما ضرّ عثمان ما صنع بعد اليوم» .
وينبغي أن نعلم أن مناقشة الصحابة له واعتراضهم عليه فيما فعل من ذلك، شيء، واجترارنا اليوم للأمر ذاته، بدافع من النقد والانتقاص شيء آخر.
اعتراض الصحابة عليه، معالجة لأمر قائم يمكن تغييره وإصلاحه؛ فالبحث فيه وإن كان على أساس النقد والتخطيء، عمل إيجابي مفيد. أما حديثنا نحن اليوم، وقد طوي الأمر وأصبح حدثا من أحداث التاريخ، فإنه إنما يغدو مجرد تطاول رخيص على الصحابة الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذّر من الإساءة إليهم، لا سيما الخلفاء الراشدون.
ويكفي، لمن ابتغى الأمانة العلمية في رواية الأحداث، أن يقف من بيانها والحديث عنها عند الحدود التي التزم بها الكتّاب والمؤرخون الثقات من أمثال الطبري وابن كثير وابن الأثير..
ثالثا- مع ظهور مقدمات الفتنة في أواخر عهد عثمان، يظهر اسم عبد الله بن سبأ على مسرح الأحداث، ويبرز دوره جليا في تأجيج نيران هذه الفتنة.
وعبد الله بن سبأ في أصله يهودي من اليمن. جاء إلى مصر في عهد عثمان، وأخذ يستثير الناس على عثمان ويتظاهر بحب عليّ وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول للناس فيما يقول:
أليس محمد أفضل من عيسى عند الله عز وجل؟ .. إذن فإن محمدا أحق بالعودة إلى الناس من عيسى، وإنما يعود محمد إليهم في شخص ابن عمه عليّ الذي هو أقرب الناس إليه «3» .
وقد استطاع أن يخدع بهذا التدجيل أناسا في مصر، بعد أن ردد أقواله هذه في اليمن دون أن يؤيده فيها أحد. وهؤلاء الذين خدعوا بكلامه، هم الذين توجه بهم إلى المدينة ليثوروا على عثمان، ولكن الذي ردّهم على أعقابهم إنما هو عليّ رضي الله عنه كما قد رأيت.
(3) البداية والنهاية: 7/ 167
ومن هنا تعلم أن ميلاد انشطار الأمة الإسلامية إلى شطريه: السني والشيعي، إنما بدأ في هذه الفترة، وأن ذلك إنما تمّ على يد عبد الله بن سبأ. وهذا بقطع النظر عن الأذى أو الظلم الذي حلّ بآل البيت أو بشيعتهم بعد ذلك على يد الأمويين وغيرهم. المهم أن أيا من هذين الواقعين اللذين يدخلان في ألف باء الحقائق التاريخية ما ينبغي أن ينسينا الواقع الآخر.
رابعا- مرة أخرى ينبغي أن نتبيّن حقيقة العلاقة التي كانت قائمة بين عثمان وعليّ في مدة هذه الخلافة الثالثة، وحقيقة الموقف الذي كان يقفه عليّ من عثمان رضي الله عنهما.
لقد رأيت أن عليا رضي الله عنه بادر إلى مبايعة عثمان بالخلافة، بل لقد ذهب كثير من المؤرخين، كما قال ابن كثير إلى أنه كان أول المبايعين له.. ثم رأيت كيف قال عليّ لعثمان- وقد سمع بالحشد الذي توجه به عبد الله بن سبأ إلى المدينة ليؤلب الناس عليه-: أنا أكفيك شرهم، فانطلق إليهم رضي الله عنه ووافاهم عند الجحفة، فردّهم وأنّبهم وشتمهم، فرجعوا وهم يلومون أنفسهم، وقال بعضهم: هذا الذي تحاربون الخليفة بسببه وتحتجّون به عليه؟! «4» ولقد رأيت كيف كان يمحضه النصح في شفقة بالغة وغيرة صادقة وكيف وقف إلى جانبه إلى آخر لحظة، ورأيت كيف جنّد ابنيه الحسن والحسين لحراسته من أولئك الذين أحدقوا به.
إذن، فلقد كان عليّ خير دعامة لعثمان في خلافته، وكان خير نصير له في محنته، وما قسا عليه أخيرا في النصح إلّا حبا له وغيرة عليه.
فاعلم هذا جيدا، لتعلم أن عظيما من الناس كعليّ ينبغي أن يكون إنسان عين كل مؤمن بالله ورسوله، وأن يكون مهوى فؤاد كل إنسان سويّ في إنسانيته وشعوره. وإنما دليل الحب صدق الاتباع والاستقامة على الاقتداء. وقد كانت هذه هي سيرة علي رضي الله عنه، مع من كان قبله من الخلفاء، فلتكن سيرته خير قدوة لنا، وأبلغ بيان يعبر عن صادق حبنا له.
(4) البداية والنهاية: 7/ 171