الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال عديّ: فرأيت اثنتين: الظعينة، وكنت في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة» «128» .
العبر والعظات:
كان قدوم عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبر إسلامه، في الفترة التي قدم عليه فيها الوفود من كل جهة وصوب ونستطيع أن نعده في مجيئه هذا واحدا من تلك الوفود الكثيرة التي سعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلن إسلامها.
غير أنّا آثرنا إفراد خبر عديّ بالتفصيل والتأمل، لما فيه من العبر الهامة المتعلقة بأسس العقيدة الإسلامية، ولما فيه من تحليل دقيق، بل وتجسيد واضح لشخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصية التي ظهرت جلية واضحة لعديّ بن حاتم، مصفّاة عن شوائب الزعامة والملك وحب الإمارة أو الكبرياء والجاه، لا يتراءى فيها سوى الإعلام بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين، فكانت أساس إيمانه وسرّ هدايته.
فلنتأمل فيما تأمل فيه عدي.. ولنعتبر بما اعتبر به عديّ، لنزداد إيمانا ويقينا بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولنزداد يقينا بمعنى المكيدة التي تكمن خلف دراسات محترفي الغزو الفكري في العالم الإسلامي.. ولنقف قليلا أمام السمة التي صوّر بها عديّ شخصية النبي عليه الصلاة والسلام كما رآها فتأثر بها، فكانت سرّ إيمانه.
أجل فما أبعد الطامع بالملك أو المؤمل في الزعامة والمجد الدنيوي، عن الصبر على مثل هذه الوقفة. ولئن صابر نفسه فتصنع لذلك وقسرها على ما تكره، فما أسرع ما تظهر دلائل المصانعة من ضجر وتأفف. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت هذه سجيته وطبيعته، في كل حال. فما كان يتميز على أصحابه في مجلس، وما كان يعلو في معيشته وحياته من مستوى الفقراء والمساكين، وما أثر أنه صلى الله عليه وسلم أكل على خوان قط، وما رؤي أصحابه صلى الله عليه وسلم يكدّون في عمل شاق إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهمكا فيه معهم. كانت هذه صفته صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى، فأي سرّ يمسكه على هذه الحال (مع ما فيه من الخصال التي لو أحب أن يتعلق بها لرفعته إلى مكانة عالية لا ينتهي إليها أحد غيره) غير سرّ النبوة التي أكرمه الله بها؟!
ويقول عديّ: «فلما دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا. فقذفها إليّ فقال:
(128) رواه ابن إسحاق، والإمام أحمد، والبغوي في معجمه بألفاظ متقاربة، وانظر الإصابة للحافظ ابن حجر: 2/ 461، وترتيب مسند الإمام أحمد: 21/ 108
اجلس على هذه
…
فجلست عليها، وجلس هو على الأرض! .. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك» .
ولعل عديا- وهو الذي كان ذا مكانة مرموقة في قومه- كان يحسب أن يجد بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينطق بشيء من المعنى الذي كان هو يتمتع به، ولكنه فوجئ بعكس ذلك، وفوجئ برسول الله صلى الله عليه وسلم يتربع جالسا أمامه على أرض يابسة! .. ونظر، فإذا بالدار تنطق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من تلك المظاهر التي كان يتوقع رؤيتها، في شيء! .. أفيكون مع ذلك ينشد من وراء دعوته هذه ملكا ويسعى وراء ثروة أو مجد؟! ..
ويصف عدي رضي الله عنه بعد ذلك، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف استشف فيه الغيب المتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين.
قال له: «ليوشكن المال أن يفيض في المسلمين حتى لا يوجد من يأخذه» . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث عمر بن عبد العزيز عامله بأموال الزكاة لتوزيعها على المستحقين في جهات من إفريقية ولكنه عاد بها ثانية لأنه لم يجد من يأخذها، فاشترى بها أرقاء وأعتقهم.
وقال له: «ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف» . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد امتد فوق هذه الرقعة أمن الإسلام وسلامه، فما من عابر سبيل فيها يخاف شيئا غير الله عز وجل والذئب على غنمه، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر.
وقال له: «وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت على المسلمين» ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سمعنا بذلك ورأينا، والحمد لله الذي أنجز ما وعد به رسوله عليه الصلاة والسلام.
لقد وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سبب إسلامه، وانخلاعه عن مظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه.
وإذا توفر عقل مفكر، وتوفرت معه حرية في التأمل، فلا مفر إذن من قبول الحق والإيمان به مهما شقّ السبيل إلى ذلك. أما إذا فقدت حريّة الفكر وضاعت قدسية العقل، ونبتت في مكانها قدسية الحقد الهوي، فلا مناص من العكوف على الباطل، ولا مفر من معانقة الجهل أو التجاهل، ولا نعمة تفوق نعمة العمى أو التعامي.
وصدق رب العالمين إذ يبين لنا صفات هؤلاء: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت 41/ 5] .