المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا- العبر والأحكام: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌ثانيا- العبر والأحكام:

ولقد كان من مقتضى هذا الاهتمام لدى الروم، أن يكون الاشتباك بينهم وبين المسلمين عظيما وخطيرا. ولكن حكمة الله عز وجل تشاء أن يكتفى من جهاد المسلمين في هذه الغزوة بالجهد العظيم الذي بذلوه والمشقات الجسيمة التي تحملوها، إذ قطعوا تلك المسافات المضنية بين المدينة وتبوك ذهابا وإيابا، ولقد كانت- كما رأيت- رحلة عجيبة في عذابها وأتعابها ومشاهد العسر التي فيها.. وما الجهاد الذي أمر الله به؟ هل هو إلا بذل النفس والجهد في سبيل شرعة الله ودينه؟ .. إن هذا هو كل ما يريد الله من عباده، ومعاذ الله أن يكون بحاجة من وراء ذلك إلى معونتهم لردّ كيد الكافرين أو إدخال معنى الهداية والإيمان في قلوب الجاحدين.

وقد بذل (جيش العسرة) في هذه الغزوة العسيرة المضنية، المال والجهد وضحّوا بالراحة في أجمل فرصها، واستبدلوا به العذاب في أقسى صوره وأشكاله. ولقد برهنوا بذلك على صدق إيمانهم بالله ومحبتهم له، فحقّ لهم النصر والتأييد، وأن يكفيهم الله القتال، برعب من لدنه يقذفه في قلوب أعدائهم، فيتفرقون عنهم ويخضعون لحكم الله فيهم.

وهكذا فقد كان يسر خضوع الروم لحكم الجزية وقيودها، في مقابل العسر الذي تحمله المسلمون مع رسولهم صلى الله عليه وسلم في مرضاة ربهم جل جلاله.

‌ثانيا- العبر والأحكام:

وإنك لتجد في هذه الغزوة دروسا وأحكاما كثيرة، نجمل منها ما يلي:

1-

(أهمية الجهاد بالمال) ، فالجهاد ضد أعداء الإسلام ليس محصورا بالخروج للغزو، بل ولا يكفي منه ذلك وحده. فحيثما توقف أمر الجهاد بالقتال والسلاح على نفقات ومال، وجب على المسلمين كلهم أن يقدموا من ذلك ما يقع موقعا من الكفاية، بشرط أن يكون ذلك بنسبة ما يتفاوتون به من كفاية وغنى.

ولقد قرر الفقهاء أن الدولة إذا ما اضطرت إلى النفقات للجهاد، كان لها أن تفرض على الناس حاجتها من ذلك بالشكل الذي ذكرناه، غير أنهم اتفقوا على أن ذلك مشروط بأن لا يكون في أموال الدولة ما يوضع في نفقات كمالية أو غير مشروعة. إذ أن أموال الناس ليست أولى من أموال الدولة بأن تصرف إلى حاجات الجند والقتال.

هذا، ولقد رأيت كيف أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة بعير بكل ما تحتاجه من الأقتاب والأجلاس وبمئتي أوقية من الفضة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» . وفي هذا بيان لفضل عثمان رضي الله عنه. بل وإن في هذه الكلمة التي قالها عنه عليه الصلاة والسلام: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» زجرا وتأديبا لكل من أراد أن يطيل لسانه على عثمان من أمثال أولئك الذين يتشدقون بالنقد على

ص: 301

سياسته أيام خلافته، يكتبون الصفحات الطوال عما يسمونه بمظهر الضعف أو التحيز في سياسته، مقتفين في ذلك ما يطيب للمستشرقين القيام به من إمطار التاريخ الإسلامي بوابل النقد والكذب والتضليل تحقيقا لغاية مرسومة معروفة يتطلعون إليها ويغذون السير للوصول إليها.

إن هؤلاء الذين يضعون أنفسهم في أبراج عالية من النزاهة النادرة، لينطقوا من هناك بأحكامهم على عثمان وسياسته، هم أحوج ما يكونون إلى أن يتحسسوا أمراضهم المختلفة ثم يداووها بدراسة شيء من مناقب هذا الخليفة العظيم والاهتداء بسيرته وسلوكه.

ومهما يكن من شأن عثمان في خلافته، فأي بقية من الأدب توجد عند من يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» ، ثم يمضي بعد ذلك منتشيا بنقده وتسفيه سياسته؟!.

2-

(كلمة عن حديث أبي بكر وما اختلقه البعض من زيادة فيه، ليسوغوا بها بدعة من أهم البدع المحرمة) .

ذكرنا الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود، عن تقديم أبي بكر ماله كله للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه أجابه عليه الصلاة والسلام حينما سأله، ما أبقيت لأهلك:«أبقيت لهم الله ورسوله» .

وقد اختلق بعضهم زيادة على الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «يا أبا بكر إن الله راض عنك فهل أنت راض عنه؟. فاستفزّه السرور والوجد، وقام يرقص أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: كيف لا أرضى عن الله؟!» .. ثم ذهبوا يجعلون من هذه الزيادة المختلقة دليلا على مشروعية الرقص والدوران في حلق الذكر على نحو ما يفعل (المولوية) وطوائف أخرى من المتصوفة.

فأما الدليل الذي يستندون إليه، فهو دليل مختلق كما ذكرت، ولم يثبت في حديث صحيح ولا ضعيف أن أبا بكر قام بفعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ما ورد في الأمر هو ما ذكرته من نص حديث الترمذي والحاكم وأبي داود، على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها في تخريج الحديث.

وأما المدلول، فلا نقول: إنه لم يثبت دليل عليه، بل الحق الذي ينبغي أن يقال: إن الدليل قد ثبت على حرمته. وإليك بيان ذلك.

ذهب الجمهور إلى أن الرقص محرم، إن كان مع التثني، واتفقوا على أنه مكروه إن كان بدون ذلك، فإدخال الرقص- مهما كانت كيفيته- في ذكر الله تعالى، إقحام لما هو مكروه أو محرم في عبادة مشروعة، وتحويل له بذلك إلى عبادة يتقرب بها إلى الله دون دليل عليها، أو على أنها قد خرجت عن الكراهة أو التحريم.

ص: 302

أضف إلى ذلك ما يتلبس به حال هؤلاء (الذاكرين) من التفوه بأصوات ليست من ألفاظ الذكر في شيء، وإنما هي حمحمات وهمهمات تصّاعد من حلوقهم، ليتكون منها دويّ متناسق معين ينسجم مع تواقيع المنشدين والمطربين، فتحدث بذلك مزيدا من النشوة والطرب في النفوس.

فكيف يكون هذا ذكرا لله تعالى كالذي أمر الله به والذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! .. وكيف يكون هذا العمل عبادة، والعبادة- كما تعلم- هي ما شرعه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لا يزاد عليها ولا ينقص منها؟! ..

واعلم أن هذا الذي نقوله، هو ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية في مختلف العصور، لم يشذّ عنه إلا قلة مبتدعة شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله فكم من محرمات استحلوها ومن موبقات ارتكبوها، باسم الوجد أو التواجد آنا، وباسم الانعتاق من ربقة التكاليف آنا آخر.

وإليك ما يقوله في هذا إمام من أجل أئمة المسلمين دينا وعلما وورعا وتصوفا وهو العز بن عبد السلام:

(وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقتدون بهم يفعل شيئا من ذلك)«109» .

ويقول مثل هذا الكلام ابن حجر أيضا في كتابه: كف الرعاع، وابن عابدين في حاشيته المشهورة المعتمدة عند السادة الأحناف، مفرقا بين الوجد القاهر والتواجد المصطنع.

أما الإمام القرطبي فيتوسع في التحذير من هذه البدعة وبيان حرمتها توسعا كبيرا. وإذا أردت أن تقف على كلامه في ذلك فارجع إلى تفسيره، عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] .

ولولا الإطالة فيما ينبغي الاختصار فيه لسردت لك نصوص كثير من الأئمة في هذا الشأن، لتعلم أن هذا هو الحق الذي اتفق عليه عامة الأئمة من سلف وخلف لا خلاف فيه ولا نزاع «110» .

(109) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 186

(110)

قد يعجب البعض من أني أنكر على الوهابية الكثير من آرائهم، مع ما أفعله هنا من الانحياز إليهم، لاستنكار ما يراه الآخرون. ولا ريب أن هذا العجب إنما هو نتيجة تصور خاطئ لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم. فليس من الإسلام في شيء أن يتحول لدينا البحث العلمي في العقل إلى عصبية مستحكمة في النفس. وهيهات أن يكون من الإسلام في شيء ما يفعله بعضهم من الانتصار لما عرف به من مذهب ورأي، مصطنعا بذلك الانتصار للإسلام، وهو يعلم في قرارة

ص: 303

ومن الواضح أنه يستثنى من عموم ما ذكرناه، ما إذا خرج الذاكر عن طوره بأن سيطرت عليه حال لم يملك معها شعوره وزمام نفسه، إذ لا يتعلق به حكم تكليفي في ذلك الطور، وعليه يحمل ما قد قيل من أن العز بن عبد السلام نفسه قد هاج مرة فقام يقفز، إذ كيف يفعل ذلك باختيار وقصد وهو صاحب النص الذي نقلناه عن كتابه؟ «111» .

3-

(المنافقون: طبيعتهم ومدى خطورتهم على الإسلام) ، نال أمر هذه الغزوة من حديث كتاب الله عنها وتعليقه عليها ما لم تنله أي غزوة أخرى، وإنك لتقرأ عنها في سورة التوبة آيات بل صفحات كثيرة. وتركز معظم هذه الآيات على بيان أهمية الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وأنه الدليل الوحيد على صدق إسلام المسلم، وأنه أهم فارق بين المؤمنين والمنافقين، وأن على المسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يركنوا إلى الدعة والراحة وأن يستهينوا بما قد يتعرضون له من عذاب وشدة في سبيل الله تعالى. كما أطالت في الحديث عن المنافقين وفضح نواياهم والخفيّ من مقاصدهم.

والدرس الذي في ذلك هو بيان خطورة أمر النفاق والمنافقين على المسلمين في كل عصر، وإيضاح أن الإسلام دعوى لابدّ أن يصدقها الجهاد والتعرض للمحن، حتى يتميز الصادق عن الكاذب، ويمحّص إيمان المؤمنين عن دجل المنافقين. ولقد كانت تبوك أعظم مادة لهذا الدرس

نفسه أنه إنما ينتصر للرأي الذي أصبح جزءا من شخصيته وكيانه بين الناس. لا ينبغي للمسلم (لدى البحث العلمي) ، أن يضع أي شيء نصب عينيه إلا كتاب الله وسنة رسوله، ولا يجوز له أن يدع أي سلطان من دون سلطانهما يتسلل بالتأثير على نفسه وفكره. ولا ينبغي، إذا التزم هذا المسلم الحق، أن يضيق أحد من المسلمين بكلامه، أو أن يغضب لأحكامه. وإذا كنت قد بحثت في هذا الكتاب مسائل انتهيت فيها إلى مخالفة بعض الناس، فليس ذلك- يشهد الله- حبا بمخالفتهم ولكن حبا بالتزام كتاب الله وسنة رسوله، وربما أخطئ في الحكم والاستنتاج ولكن هذا هو الدافع. وإذا كنت أبحث الآن في مسألة انتهيت فيها إلى موافقة أولئك البعض ومخالفة كثير من عوام المسلمين أو المتصوفة فيهم، فليس ذلك أيضا حبا بمخالفتهم أو شهوة لنقدهم، ولكن رغبة خالصة في أن لا أحيد عن كتاب الله وسنة رسوله، مع تقديري لكثير من هؤلاء السادة، ويقيني بصلاحهم وصفاء نياتهم. وعذري أن هذا التقدير لا يسوغ تجاوز النصوص أو القواعد أو التأويل لها. ولو بحث المسلمون عن الحق الذي يجب اتباعه، عن طريق هذا الميزان، لما قامت فئات تتخاصم وتتجافى عن بعضها رغم ما قد يقع بينها من خلاف في الرأي والاجتهاد، ولكن العصبية والغلو هما اللذان أوديا بالمسلمين إلى هذا الذي نراه. يحاسب المتصوفة خصومهم على ما يرونه عندهم من تطرف وغلو، ولا يحاسبون أنفسهم على ما يتلبسون به هم من الغلو والبدع التي لا وجه في الإسلام يسوغها!. أفهذا هو الحق الذي ينبغي أن يكون؟ .. إن الغلو في الأمر لا يأتي إلا من غلو آخر يقابله فمن أراد الانتصار لدين الله وهدي رسوله فليقطع دابر كل غلو واختراع وبدعة، فإن ذلك خير علاج لما قد يوجد من غلو معاكس لدى الآخرين.

(111)

انظر كتاب كف الرعاع: 48 على هامش الزواجر لابن حجر.

ص: 304

القرآني، إذ كان اختبار المسلمين بها أعظم اختبار إلهي كشف اللثام عن النفاق في المدينة وميّز المنافقين عن المسلمين الصادقين أعظم تمييز، ثم نزلت الآيات المتوالية في كتاب الله تعالى تضبطهم بجرائمهم وتعلن للمسلمين سرائرهم وتحذرهم منهم في كل زمان ومكان.

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التوبة 9/ 81- 83] .

وأنت إذا رجعت إلى ما قبل هذه الآيات وما بعدها، رأيت فيها اهتماما غريبا بشأن المنافقين والحديث عنهم والتحذير منهم. وما ذلك إلا أن المسلمين لا يؤتون، في معظم ما يصيبهم من نكبات، إلا من قبل المنافقين، فلا يتسنى لعدوهم أن يتسلل إليهم إلا من خلال ثغرات النفاق والمنافقين، ولا ينخدع المسلمون بعدوّ لهم كما ينخدعون للمنافقين منهم، ولا يصابون بعدوى الضعف والخبال والتفرق كما يصابون به من قبل المنافقين، وصدق الله تعالى إذ يقول:

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة 9/ 47] .

ومكمن الخطورة فيهم، أنهم إنما يحاربون الإسلام باسمه، ويكيدون له بسلاحه، يتلاعبون بما فيه من أحكام باسم الإصلاح والمرونة والتمسك بروح التشريع ويستخرجون منه الفتاوى الملفقة المصطنعة تحقيقا لأمانيهم أو تقربا إلى سادتهم وأولياء نعمتهم.

والعظة التي ينبغي أن يأخذها المسلمون من هذا الدرس، هو أن يحذروا عدوّهم الخارجي مرة على أن يحذروا المنافقين فيهم ألف مرة، وأن يحاربوا أول ما يحاربون.. ما قد يشيع بينهم من النفاق.

4-

(الجزية وأهل الكتاب) ، في هذه الغزوة دليل على مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب، وأنهم يحرزون بذلك دماءهم وأموالهم، فقد رأيت أن الروم اختفوا وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وصل إلى تبوك، وجاءه متنصرة العرب فصالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية، وكتب لهم عليه الصلاة والسلام بذلك كتابا.

والجزية ضريبة مالية تقوم بالنسبة لأهل الكتاب مقام الزكاة بالنسبة للمسلمين والفرق الذي بينها وبين الزكاة أن الجزية تقوم على أساس قضائي مجرد على حين تقوم مشروعية الزكاة على أساس من الديانة والقضاء معا.

ص: 305

ويعتبر الخاضعون لحكم الجزية داخلين في حكم الإسلام القضائي في المجتمع الإسلامي وإن لم يدينوا به عقيدة في نفوسهم. ولذلك فإن عليهم أن لا يجاهروا في مخالفة شيء من قوانينه وأحكامه العامة إلا ما يتدينون من ذلك بخلافه في زعمهم كشرب الخمر ونحوه.

هذا، والفرق بين الكتابيين وغيرهم من الملاحدة والوثنيين، في أمر الجزية، هو أن الكتابيين يمكنهم أن ينسجموا مع المجتمع الإسلامي ونظامه العام مع احتفاظهم بما يدينون. أما الملاحدة والوثنيون وأشباههم فلن تجد بينهم وبين المجتمع الإسلامي قدرا مشتركا يضمن الانسجام، إذ لا يمكن لفكرة الإلحاد والوثنية أن تلتقي مع الحكم والنظام الإسلامي في أي فرع من الفروع، لقيام التناكر والتخالف بينهم في أعمق الأسس والجذور.

5-

يدلنا ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرّ بمنازل ثمود أنه يكره للمسلم أن يدخل ديار الأمم الخالية ممن أهلكهم الله بكفرهم أو أن يمر على شيء من آثارهم، إلا وهو معتبر بحالهم يتأمل في مآلهم يسأل الله تعالى العافية والرحمة له وللمسلمين. إذ هي منازل شهدت مظهرا من غضب الله تعالى، وسجّلت على أطلالها آثار من ذلك الغضب، فهي باقية عليها مع الدهر، ولا ريب أن الله عز وجل إنما ترك هذه الآثار في الأرض لتكون عبرة لأولي البصيرة والألباب، كما أوضح ذلك في كثير من آياته. فمن الخطأ الكبير أن يمرّ الإنسان عليها ساهيا لاهيا، لا يعبأ منها بغير مظهر الشكل أو البناء والنقوش.

وكم في الأرض من عبر وعظات من هذا القبيل، تظل تدوي بلسان حالها على أسماع الناس أن اعتبروا يا أولي الأبصار، ولكن الناس لا يستمعون منها إلا إلى ما يوسوس إليهم شياطينهم على ألسنتها، ولا يقبلون منها إلا على مظاهر الفن والقيمة الأثرية والتاريخية! ..

6-

وعلينا الآن أن نتأمل في الفرق بين سياسته صلى الله عليه وسلم مع المنافقين وسياسته مع أصحابه المؤمنين الصادقين.

لقد تخلف- كما رأيت- كثير من المنافقين عن هذه الغزوة، وجاؤوا يعتذرون له صلى الله عليه وسلم بشتى الأعذار المختلفة، ومع ذلك فقد صفح عنهم وقبل علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.

وتخلف عدد يسير من المؤمنين من غير ريبة ولا نفاق، ثم جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم لا يصطنعون عذرا ولا كذبا يسألونه العفو والصفح، ومع ذلك فقد عاقبهم ولم يصفح عنهم. وقد رأيت مدى قسوة العقوبة التي أنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم! ..

فلماذا؟! .. لماذا اختار مع المنافقين اللين والصفح، واختار للمسلمين الصادقين الشدة والعقوبة؟! ..

والجواب: أن الشدة والقسوة في هذا المقام مظهر للإكرام والتشريف، وهو مالا يستأهله

ص: 306

المنافقون، وكيف يستأهل المنافقون أن تنزل آيات في توبتهم وعفو الله عنهم؟!.

ثم إن المنافقين محكوم عليهم- على أي حال- أنهم كفرة، ولن ينشلهم شيء مما يتظاهرون به في الدنيا، من الدرك الأسفل في النار يوم القيامة، وقد أمر الشارع جل جلاله أن ندعهم لما تظاهروا به ونجري الأحكام الدنيوية حسب ظواهرهم، ففيم التحقيق عن بواطن أعذارهم وحقيقة أقوالهم، وفيم معاقبتهم في الدنيا على ما قد يصدر عنهم من كذب ونحن إنما نعطيهم الظاهر فقط من المعاملة والأحكام، كما يبدون لنا هم أيضا، الظاهر فقط من أحوالهم، وعقائدهم.

قال ابن القيم: «وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات حرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده، بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظا حذرا. وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة» «112» .

واعلم أن في حديث كعب الطويل الذي ذكرناه عبرا ودلالات هامة نذكر منها ما يلي:

أولا: مشروعية الهجر لسبب ديني، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن مكالمة كعب وصاحبيه طوال تلك المدة، قال ابن القيم:«وفيه دليل أيضا على أن ردّ السلام على من يستحق الهجر ليس بواجب» «113» ، إذ كان مما قاله كعب:«فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين.. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟» فلو كان ردّ السلام عليه واجبا لكان لابدّ من إسماعه.

ثانيا: وابتلاء آخر امتحن الله به كعبا رضي الله عنه، ومن الجدير التأمل فيه لتعلم كيف ينبغي أن يكون إيمان المسلم بربه جل جلاله. فقد رأيت أن ملك غسان أرسل إليه معظما ومبجلا يدعوه إلى ترك هؤلاء الذين آذوه وأعرضوا عنه، واللحاق ببلاده، ليجد عنده الإكرام والسعادة، وكان قد بلغ الكرب إذ ذاك بكعب أشده، ولكن هذا الابتلاء لم يكشف إلا عن المزيد من إيمانه بربه وشدة إخلاصه ومحبته له.

وكم من أقدام زلت، وتزل اليوم، في هذا المنزلق الذي وضع أمام كعب رضي الله عنه لابتلائه به واختباره، فمرّ من فوقه عزيزا قويا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه.

ثالثا: سجود الشكر لله تعالى عبادة مشروعة، دلّ عليها سجود كعب رضي الله عنه حينما سمع صوت المبشر بتوبة الله عليه. قال ابن القيم:«وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد عليّ بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا» «114» .

(112) زاد المعاد: 3/ 20

(113)

المرجع السابق: 3/ 20

(114)

المرجع السابق: 3/ 22

ص: 307