الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهبّو مسرعين عائدين إلى مكة. وأقام النّبي صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة» «28» .
العبر والعظات:
تنطوي غزوة أحد على دروس بالغة الأهمية للمسلمين في كل عصر، ولكأن الحكمة من وقوعها على الشكل الذي بيّناه، أن يتكون منها درس تطبيقي عملي، يعلّم المسلمين كيفية البلوغ إلى النصر في معاركهم مع العدو، وكيفية التحرز من مزالق الفشل والهزيمة، فلنقف على هذه الدروس العظيمة ولنتأمل فيها، الواحدة إثر الأخرى:
أولا: يتجلى هنا أيضا المبدأ الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ به نفسه، وهو التزام التشاور مع أصحابه في كل أمر يحتمل المشاورة والبحث. ولكنا نقف هنا على فارق واحد لم نجده في المشاورة التي تمّت قبيل غزوة بدر. فقد لاحظنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يعود عن موافقته لأصحابه الذين اقترحوا الخروج للقاء العدو خارج المدينة، بعد أن لبس درعه وأخذ أهبته للقتال، على الرغم من أنهم ندموا وعادوا عن رأيهم ورجوه البقاء إذا كان يرى ذلك. وربما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يميل- أو يظهر الميل- عند التشاور إلى البقاء في المدينة.
ولعل الحكمة الجلية في هذا، أن البحث في الأمر بعد أخذ العدة للقتال، وبعد ظهور النّبي صلى الله عليه وسلم في قومه وأصحابه لابسا دروعه آخذا سلاحه، شيء خارج عن حدود ما يقتضيه مبدأ التشاور خصوصا في القضايا الحربية التي تحتاج- مع المشورة- إلى قدر كبير من الحزم والعزم. ثم إن المعنى الذي قد يتولد عن تقاعسه صلى الله عليه وسلم عن الخروج بعد أن طلع عليهم مستعدا لذلك، إنما هو الضعف والاضطراب في الإرادة وهو كثيرا ما يكون نابعا من الخوف والحذر اللذين لا معنى لهما.
ولذلك أجابهم النّبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم بعبارة فيها كل الحزم والعزم، دون أن يلتفت إلى لغط القوم وتعاتبهم فيما بينهم، قال:«ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .
ثانيا: للمنافقين في هذه الغزوة مشهد بارز.. ولم لا يكون مشهدهم بارزا فيها، وهي إنما انطوت على حكم ومقاصد، من أهمها تمحيص المؤمنين عن أخلاطهم من المنافقين؟ وإن من وراء ذلك لفوائد كبيرة للمسلمين كانت ذخرا لهم فيما بعد.
لقد رأينا كيف انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاث مئة من أتباعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بعد خروجهم من المدينة، وسبب ذلك في ظاهر ما تذرع به: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ برأي الشبان الأغرار، ولم يأخذ برأي أمثاله من الشيوخ أرباب الحجى والأحلام. غير أن سبب ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، هو أنه لا يريد قتالا. لأنه لا يريد أن يعرّض نفسه لمخاوفه
(28) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
ومغباته.. وتلك هي أبرز سمات المنافقين: يريدون أن يأخذوا ما في الإسلام من مغانم، ويبتعدوا عما فيه من مغارم وأتعاب! .. وإنما الذي يمسكهم على الإسلام أحد شيئين: غنيمة يتوقعونها، أو مصائب ومحن يتوقونها.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يستعين بغير المسلمين في هذه الغزوة، على الرغم من قلة عدد المسلمين، وقال فيما روى ابن سعد في طبقاته:«لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» «29» .
وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تبعه في يوم بدر ليقاتل معه: «أتؤمن بالله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك» .
وقد ذهب جمهور كبير من العلماء، بناء على هذا، إلى أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في القتال، وفصّل الإمام الشافعي في ذلك، فقال:«إن رأى الإمام أن الكافر حسن الرأي والأمانة في المسلمين وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز، وإلا فلا» «30» .
ولعل هذا هو المتفق مع القواعد ومجموع الأدلة، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، والمسألة على ذلك داخلة في إطار ما يسمى بالسياسة الشرعية.
وسنذكر الفرق بين ما فعله الرسول في حنين وما فعله في كل من بدر وأحد، في مناسبته إن شاء الله.
رابعا: ومما يجدر التأمل فيه، حال سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما طفلان لا يزيد عمر كل منهما على خمس عشرة سنة، وكيف جاءا يناشدان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهما بالاشتراك في القتال، وأي قتال؟!. قتال قائم على التأهب للموت، لا تجد فيه أي معنى من التعادل بين الفريقين: المسلمون وعددهم لا يزيد على سبع مئة، والمشركون وهم يتجاوزون ثلاثة آلاف مقاتل.
والعجيب حقا أن يقف بعض محترفي الغزو الفكري على مثل هذه الظاهرة، فيذهبوا في تحليلها إلى أن العرب كانوا أمة تعيش في ظل الحروب والغزوات الدائمة، فكانوا ينشؤون في أجوائها وظروفها، ولذلك كانوا ينظرون إليها (شيبا وشبانا وأطفالا) نظرة طبيعية لا تسبب لهم قدرا بالغا من المخاوف.
لا ريب أن أرباب هذا التحليل، يغمضون أعينهم في إصرار عجيب، أثناء هذا الكلام عن
(29) قد يقال: إن هؤلاء الذين عرضوا مشاركتهم مع المسلمين في القتال يهود من أهل الكتاب، فكيف سماهم الرسول أهل الشرك. والجواب: أن إطلاق الشرك عليهم بمعنى غير المعنى الاصطلاحي الذي يطلق على الوثنيين من العرب وللشرك معنى عام يعتبر قدرا مشتركا يصدق على جميع الكافرين.
(30)
انظر مغني المحتاج: 4/ 221
تخاذل أمثال عبد الله بن أبي بن سلول مع ثلاث مئة من أصحابه، تحت وطأة الخوف من عواقب القتال، والرغبة في الجنوح إلى السلامة والأمن. وعن تخاذل أولئك الآخرين الذين استعذبوا ظل المدينة وثمارها ومياهها وسط حرارة الصيف، وأعرضوا عن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج والقتال، قائلين:«لا تنفروا في الحر» . بل وعن هزيمة المشركين في غزوة بدر، على الرغم من ضخامة عددهم وقلة المسلمين، ووقوع الرعب في أفئدتهم، وهم هم العرب الذين نشؤوا في ظلال الحروب ورضعوا ألبانها واستهانوا بصعابها.
من الصعوبة البالغة للمنصف أن يتهرب عما تحكم به البداهة الواضحة، من أن سرّ هذا الإقدام على الموت من مثل هؤلاء الأطفال، إنما هو الإيمان العظيم الذي استحوذ على القلب، والذي ترتبت عليه محبّة عارمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فحيثما وجد الإيمان ووجدت هذه المحبة، ظهر هذا الإقدام والاستبسال، وحيثما ضعف الإيمان، وضعفت المحبة في القلب انقلب الإقدام إحجاما والاستبسال كسلا وتقاعسا.
خامسا: إذا تأملت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ينظم صفوف أصحابه ويرتب أجنحتهم، ويضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ويأمر الرماة أن لا يغادروا أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين حتى يتلقوا الأوامر منه صلى الله عليه وسلم، نقول: إذا تأملت ذلك اتضحت حقيقة بارزة، ولاحت لك من ورائها ظاهرة هامة أخرى.
أما الحقيقة البارزة، فهي البراعة العسكرية التي كانت تتصف بها قيادته صلى الله عليه وسلم في الحروب، فقد كان في مقدمة المخططين لفنون القتال وطرائقه، ولا ريب أن الله تعالى قد جهزه بعبقرية نادرة في هذا المجال. ولكننا نقول: إن هذه العبقرية والبراعة إنما يأتي كل منهما من وراء نبوته ورسالته السماوية، فمركز النبوة والرسالة هو الذي اقتضاه صلى الله عليه وسلم أن يكون عبقريا بارعا في فنون الحرب وغيرها، كما اقتضاه أن يكون معصوما بعيدا عن كل انحراف وزلل. وقد شرحنا هذا في القسم الأول من هذا الكتاب فلا حاجة إلى تكراره.
وأما الظاهرة التي تلوح للمتأمل من خلال توصياته الدقيقة هذه لأصحابه عامة، وللرماة خاصة فهي ظاهرة ذات علاقة وثيقة بما قد تم بعد ذلك من خروج بعض أولئك الرماة على أوامره صلى الله عليه وسلم. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استشف بفراسة النبوة أو بوحي من الله تعالى هذا الذي قد حدث فيما بعد، فراح يؤكد التوصيات والأوامر، وكأنه في ذلك يجري مع أصحابه مناورة حية مع عدوّ لهم هو النفس وأهواؤها وما تنطوي عليه من طمع في المال والغنائم، والمناورة مهما كانت نتيجتها، تفيد فائدة عظيمة.. وربما كانت النتيجة السلبية أدعى للاستفادة من النتيجة الإيجابية.
سادسا: أبو دجانة، الذي تناول السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، أخذه وراح يتبختر
بين الصفوف، فما أنكر عليه رسول الله، وإنما قال:«إن هذه مشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع!» . وهذا يدل على أن كل مظاهر الكبر المحرمة في الأحوال العامة، تزول حرمتها في حالات الحرب. فمن مظاهر الكبر المحرمة أن يسير المسلم في الأرض مرحا متبخترا، ولكن ذلك في ميدان القتال أمر حسن وليس بمكروه. ومن مظاهر الكبر المحرمة تزيين البيوت أو الأواني والأقداح بالذهب أو الفضة. غير أن تزيين آلات الحرب وأسلحتها بالفضة غير ممنوع. فمظهر الكبر هنا إنما هو في حقيقته افتخار بعزة الإسلام على أعدائه. ثم هو معنى من معاني الحرب النفسية التي ينبغي أن لا تفوت المسلمين أهميتها.
سابعا: إذا تأملنا مدة الحرب التي استمرت بين المسلمين وأعدائهم في هذه الغزوة وجدناها تنقسم إلى شطرين:
الشطر الأول: وفيه التزم المسلمون أماكنهم وأوامرهم التي كانوا قد تلقوها من قائدهم عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان من ثمرة ذلك؟ لقد سارع النصر إلى المسلمين، وسارعت الهزيمة إلى صفوف المشركين، وما هو إلا أن اكتسح الرعب أفئدة الآلاف الثلاثة فانحسروا عن أماكنهم وأخذوا يولون الأدبار، وهذا الشطر هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران 3/ 152] .
الشطر الثاني: وفيه أخذ المسلمون ينطلقون خلف المشركين ليجهزوا على من يدركونه منهم، وليأخذوا الغنائم والأسلاب، وحينئذ نظر الرماة من فوق الجبل الذي كانوا يتمركزون فيه، إلى إخوانهم وهم يضعون السيوف في أعدائهم اللائذين بالفرار ويعودون بالأموال والغنائم، فرغب بعضهم أن يشتركوا معهم في الغنيمة، وخيلت إليهم هذه الرغبة أنّ الفترة الزمنية للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتهت، فهم في حلّ منها وهم في غنى عن انتظار إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بمغادرة أماكنهم وهو اجتهاد خالفهم فيه بعض زملائهم وفي مقدمتهم أميرهم عبد الله بن جبير، ولكنّ أصحاب هذا الاجتهاد نزلوا وانطلقوا يشاركون في أخذ الغنائم. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لقد كان أن انقلب الرعب الذي داهم أفئدة المشركين إلى استبسال جديد! .. وكان أن تفتحت أسباب الحيلة والمكر لدى خالد بن الوليد الذي كان يولي هاربا، فنظر حوله متأملا، فوجد الجبل المحصّن قد خلا من حماته وحراسه، فلمعت الفكرة العسكرية في رأسه، وما هو إلا أن استدار إلى الجبل مع من معه من المشركين، فقتلوا من بقي ممن لم ينزل وأوجعوا المسلمين رميا بالسهام من خلفهم.. وجاء الرعب هذه المرة ليغزو أفئدة المسلمين كما رأينا. وهذا الشطر من المعركة هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ،
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران 3/ 152] .
وانظر! .. كم كان وبال هذه الخطيئة جسيما، وكم كانت نتيجتها عامة! ..
لقد عادت خطيئة أفراد قليلين في جيش المسلمين، بالوبال عليهم جميعا، بحيث لم ينج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نتائجها، وتلك هي سنة الله في الكون، لم يمنعها من الاستمرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود في ذلك الجيش، وأنه أحب الخلق إلى ربه جل جلاله.
فتأمل أنت في نسبة خطيئة أولئك الأفراد، إلى أخطاء المسلمين المتنوعة اليوم، والمتعلقة بشتى نواحي حياتنا العامة والخاصة. تأمل هذا لتتصور مدى لطف الله بالمسلمين إذ لا يهلكهم بما تكسب أيديهم، وبتقاعسهم حتى عن أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتماع في كلمة واحدة على ذلك.
وإذا تأملت في هذا، علمت الجواب عن سؤال بعضهم اليوم، عن الحكمة من أن الشعوب الإسلامية تظل مغلوبة على أمرها، أمام الدول الباغية الأخرى، على الرغم من أن هؤلاء كفرة وأولئك مسلمون.
ثامنا: لقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوذي كثيرا في هذه الفترة، فوقع لشقه، وشجّ رأسه، وكسرت رباعيته، وساح الدم غزيرا في وجهه، وكل ذلك جزء من نتائج تلك الخطيئة.. خطيئة أولئك المسلمين في الخروج على أوامر القائد. ولكن ما الحكمة في أن يشيع خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفوف المسلمين؟! ..
والجواب: أن ارتباط المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوده فيما بينهم كان له من القوة بحيث لم يكونوا يتصورون فراقه ولم يكونوا يتخيلون قدرة لهم على التماسك من بعده، فكان أمر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يخطر لهم في بال، وكأنهم كانوا يسقطون حساب ذلك من أذهانهم، ولا ريب أنهم لو استيقظوا من غفلتهم هذه على خبر وفاته الحقيقية، لصدّع الخبر أفئدتهم، ولزعزع كيانهم الإيماني بل لقوّضه في نفوس كثير منهم.
فكان من الحكمة الباهرة أن تشيع هذه الشائعة، تجربة درسيّة بين تلك الدروس العسكرية العظيمة، كي يستفيق المسلمون من ورائها إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم لها منذ الساعة، وأن لا يرتدوا على أعقابهم إذا وجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختفى مما بينهم.
ومن أجل بيان هذا الدرس الجليل نزلت الآية تعليقا على ما أصاب كثيرا من المسلمين من ضعف وتراجع لدى سماعهم نبأ مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك إذ يقول الله تعالى:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 3/ 144] .
ولقد اتضح الأثر الإيجابي لهذا الدرس، يوم أن لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا بالرفيق الأعلى، فقد كانت شائعة أحد هذه، مع ما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم إلى الحقيقة، فودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها بين أيديهم، أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، فنهضوا بها أقوياء بإيمانهم أشداء في عقيدتهم وتوكلهم على الله تعالى.
تاسعا: ولنتأمل في وقع الموت على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم من حوله يحمونه بأجسادهم من نبال المشركين وضرباتهم، يتساقطون الواحد منهم إثر الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة وحرص حريص على حفظ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يبالون بغير ذلك! .. فما هو مصدر هذه التضحية العجيبة؟.
إنه الإيمان بالله ورسوله أولا، ثم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا، فهما معا سبب هذه التضحية الرائعة العجيبة. والمسلم يحتاج إليهما معا، لا يكفيه أن يدّعي الإيمان بما ينبغي الإيمان به من أمور العقيدة، حتى يمتلئ قلبه بمحبة الله ورسوله أيضا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «31» .
وبيان ذلك أن الله عز وجل قد غرس في الإنسان عقلا وقلبا. أما الأول فلكي يفكر به فيؤمن بما يجب الإيمان به. وأما الثاني فلكي يستعمله في محبة من أمر الله بمحبته وبغض من أمر ببغضه. وإذا لم يشغل القلب بمحبة الله ورسوله والصالحين من عباده، فسيمتلئ ولا بد بمحبة الشهوات والأهواء والمحرمات. وإذا فاض القلب بمحبة الشهوات والأهواء فهيهات أن يصبح الاعتقاد وحده حاملا لصاحبه على أي عمل من أعمال التضحية أو الفداء.
وهذه الحقيقة من الأوليّات التي أقرها علماء التربية، والأخلاق، ودلت عليها التجارب البدهية، واسمع ما يقوله في ذلك جان جاك روسو في كتابه (اميل) :
(31) متفق عليه.
(32)
راجع التوسع في هذا البحث كتابنا: تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث.
من أجل هذه الحقيقة لم تستطع الحكومة الأمريكية أن تلتزم بما آمنت به واعتقدت بفائدته يوم أقدمت على تحريم الخمر ومنع مداولتها في المجتمعات والنوادي، وذلك عام 1933 م، إذ لم تمض سوى فترة وجيزة حتى نكص المقننون على أعقابهم، وارتدّوا مترنحين من ألم الحرمان فألغوا القانون الذي التزموه وراحوا يعبّون أقداحهم من جديد..
هذا على حين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من هم من الثقافة والمدنية ومعرفة الأضرار والفوائد بالنسبة للأمريكيين اليوم- عمدوا بمجرد أن سمعوا أمر الله عز وجل لهم باجتناب الخمر، إلى دنان الخمر فأراقوها وإلى الأقداح فكسروها، وارتفعت أصواتهم تقول:«انتهينا يا رب انتهينا!»
…
والفرق بين الصورتين والواقعتين، أن ههنا شيئا قد وقر في القلب فكان هواه تبعا لأمر الله وأحكامه.
هذه المحبة، بل هذا الهوى المستحوذ على قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعلهم يمدون نحورهم دون نحر رسول الله ويعانقون الموت في سبيل حفظ حياته عليه الصلاة والسلام.
وكم في غزوة أحد من المشاهد الرائعة التي تكشف عن أثر هذه المحبة إذ تغمر قلب صاحبها.
روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد.
فنظر، فإذا هو جريح في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات! .. قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له:
إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. قال الأنصاري: فلم أبرح حتى مات» .
ويوم تمتلئ أفئدة المسلمين في عصرنا هذا بنحو من هذه المحبة، بحيث تبعدهم قليلا عن شهواتهم وأنانيتهم، وتتغلب عليها، أقول: يوم يحدث هذا في أفئدة المسلمين فإنهم يصبحون خلقا آخر جديدا، وسينتزعون انتصارهم من بين شدقي الموت وسيتغلبون على أعدائهم، مهما كانت العقبات والسدود.
وإذا سألت عن السبيل إلى مثل هذه المحبة، فاعلم أنها في كثرة الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كثرة التأمل والتفكر في آلاء الله ونعمه عليك، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وهذا كله بعد الاستقامة على العبادات في خشية وحضور، والتبتل إلى الله عز وجل بين الحين والآخر.
عاشرا: وقد رأينا فيما يرويه البخاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى المسلمين بدمائهم ولم يصلّ عليهم، وجمع بين الرجلين في قبر واحد، وقد استدل من ذلك العلماء على أن الشهيد في معركة الجهاد لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن بدمائه. قال الشافعي رضي الله عنه:
جاءت الأحاديث من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم، وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم، صلى عليهم عشرة عشرة، وفي كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين مرة فضعيف وخطأ «33» . كما استدلوا بذلك أيضا على أنه يجوز عند الضرورة الجمع بين أكثر من واحد في القبر، أما بدون ضرورة فلا يجوز.
حادي عشر: وإذا تأملنا فيما أقدم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فور عودتهم إلى المدينة من الخروج ثانية للحاق بالمشركين، اتضح لنا درس معركة أحد اتضاحا كاملا، وتبين لنا كل من نتيجتيها: السلبية والإيجابية، وظهر لنا بما لا يدع مجالا للتوهم أن النصر إنما يكون مع الصبر وإطاعة أوامر القائد الصالح واستهداف القصد الديني المجرد.
فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكد يؤذّن في الناس للخروج مرة أخرى لطلب العدوّ، حتى تجمع أولئك الذين كانوا معه بالأمس، من بعد ما أصابهم القرح وأنهكتهم الجروح والآلام، ولم يسترح أحد منهم بعد في بيته أو يفرغ للنظر في حاله وجسمه، وانطلقوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتغون المشركين الذين لم تخمد بعد في رؤوسهم جذوة النشوة بالنصر. ولم يكن فيهم هذه المرة من يطمع في غنيمة أو غرض دنيوي، وإنما هو التطلع إلى النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم يسوقون بين يدي ذلك جراحاتهم الدامية، وقروحهم المؤلمة.
فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لا نشوة الظفر أو لذة الانتصار ربطت على قلوب المشركين ليتمموا نصرهم والتغلب على خصومهم، ولا وقع الهزيمة وآلام الجروح الكثيفة في المسلمين حال شيء من ذلك دون إقدامهم وانتصارهم.
وكيف كان السبيل؟ .. لقد كان السبيل إلى ذلك آية إلهية خارقة لتتمم الدرس والموعظة للمسلمين، وقع الرعب فجأة في قلوب المشركين وتصوروا كما أخبرهم صاحبهم الذي كان قد لمح المسلمين عن بعد، أن محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه قد جاؤوا هذه المرة ومعهم الموت المؤكد لينثروه فيما بينهم، فارتدوا على أعقابهم بعد أن كانوا متجهين صوب المدينة، وانطلقوا سراعا إلى مكة لا يلوون على شيء! ..
أما كيف داخلهم هذا الرعب الغريب من المسلمين، وهم الذين كسروا شوكتهم ووضعوا
(33) راجع مغني المحتاج: 1/ 349