الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحنفية وكثير من المالكية وغيرهم.
ولقد حمل هؤلاء الأئمة ما روي عن كثير من الصحابة أو التابعين مما يدل على النهي عن التطريب والتغني في تلاوة القرآن، على التطريب الذي يطغى على سلامة الأداء ويذهب بالحروف والكلمات عن مخارجها العربية الصحيحة، إذ إن مثل هذه التلاوة غير جائزة باتفاق.
3-
لقد كان من التدبير الحكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أمر به أصحابه من أن يتفرقوا في مداخل مكة، فلا يدخلوها من طريق ومدخل واحد، وذلك بغية تفويت فرصة القتال على أهل مكة إن أرادوا ذلك إذ يضطرون إلى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم في جهات مكة وأطرافها فتضعف لديهم أسباب المقاومة ومغرياتها.
وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حقنا للدماء ما أمكن، وحفظا لمعنى السلامة والأمن في البلد الحرام، ومن أجل هذا أمر المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأعلن أن من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن.
خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:
1-
حرمة القتال فيه:
لقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن قتال أحد، إلا أن يبدأ أناس المسلمين بالقتال، وإلا ستة أنفار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم أينما وجدوا.
ولقد رأينا أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على خالد بن الوليد قتاله لبعض أهل مكة حينما رأى بارقة السيوف على بعد، فقيل له أنه قوتل فقاتل فقال: قضاء الله خير، ولم يقع فيما عدا ذلك قتال ما في مكة.
كما رأينا أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما خطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرّمها الله، ولم يحرمها الناس، لا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص في قتال فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس» .
وقد أخذ عامة العلماء من هذا أنه لا يجوز القتال في مكة وما يتبعها من الحرم، وهو صريح أمر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم الفتح.
ولكنهم بحثوا بعد هذا، في كيفية تطبيق هذا الأمر، وسبيل التوفيق بينه وبين النصوص التي تأمر بقتال المشركين والبغاة وقتل من ثبت عليهم القصاص.
فقالوا: «أما المشركون والملحدون فلا يتصور أن تقع المشكلة بالنسبة لقتالهم، فقد ثبت شرعا أنه لا يجوز تمكين أحد يدين بغير الإسلام من الاستيطان بمكة» وذلك باتفاق الأئمة، بل ومن
مجرد الدخول إليها عند الشافعية وكثير من المجتهدين، وذلك لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] . وعلى من فيها أن يقاتلوا هؤلاء قبل وصولهم إليها والدخول فيها، هذا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ حرمه من أن يدنس بإقامة أي كافر أو مشرك فيه، وذلك مظهر من مظاهر إعجاز هذا الدين يتجلى في صدق الوعد الذي جاء في كتابه وعلى لسان نبيه.
وأما البغاة- وهم الذين يعلنون البغي على الإمام الصالح- فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردّهم عن بغيهم إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي:«وهذا الذي نقل عن الجمهور هو الصواب وقد نصّ عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث» .
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يحرم قتال البغاة بل يضيّق عليهم في كل الوجوه حتى يضطروا إلى الخروج من الحرم أو الرجوع إلى الطاعة «62» .
وأما إقامة الحدود، فقد ذهب مالك والشافعي إلى أن الحدود تقام في الحرم المكي لما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» «63» .
وذهب أبو حنيفة- وهو رواية عن أحمد- إلى أنه آمن مادام في الحرم، ولكن يضيّق عليه ويضطر إلى الخروج منه، حتى إذا خرج استوفي منه الحد أو القصاص، ودليل هؤلاء عموم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح.
قال الزركشي: «فوجه الخصوصية إذن للحرم المكي، أن الكفار أو البغاة لو تحصنوا بغير مكة من البلدان الأخرى جاز نصب حرب عامة شاملة عليهم على أي وجه وبأي شكل تقتضيه المصلحة، ولكنهم لو تحصنوا بها لم يجز قتالهم على ذلك الوجه «64» . قلت: هذا إلى جانب أن الله تعالى قد تعهد بأن يكون هذا الحرم موئلا ومثابة للمسلمين وحدهم، وإذا كان الواقع كذلك ففيم يقوم سبب القتال فيه إذن اللهم إلا لإقامة الحدود وردّ البغي وقد عرفت حكم كل منهما.
(62) انظر شرح مسلم للنووي: 9/ 124 و 125، والأحكام السلطانية للماوردي: 166
(63)
قال في النهاية: الخربة أصلها العيب، والمراد به هنا الذي يفرّ بشيء يريد أن ينفرد به ويتغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة.
(64)
انظر إعلام الساجد في أحكام المساجد للزركشي: 162 وطرح التثريب: 5/ 86
2-
تحريم صيده:
وهذا ثابت بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده» . فإذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. فإن أصاب صيدا فيه وجب عليه إرساله، وإن تلف في يده ضمنه بالجزاء كالمحرم. ويستثنى من عموم حيوانات الحرم خمسة أصناف استثناها صلى الله عليه وسلم من عموم المنع وسماها الفواسق وهي: الغراب، الحدأة، العقرب، الفأرة، الكلب العقور، وقد قاس العلماء عليها ما يشاركها في صفة الإيذاء من الحيوانات الأخرى كالحية والسباع الضارية.
3-
تحريم قطع شيء من نباته:
ودليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «لا يعضد شوكه» وضابط ذلك قطع كل نبات أنبته الله تعالى دون أن يغرسه أحد من الناس مادام رطبا. فلا يحرم ما غرسه الآدميون، كما لا يحرم فيه ذبح الأنعام، واسترعاء خلاه ونباته وقطع ما يبس من أشجاره وأعشابه، وروى الزركشي عن أبي حنيفة وأحمد منع رعي البهائم في الحرم «65» !
واستثنى الجمهور من عموم النباتات ما كان مؤذيا منها قياسا على الفواسق الخمسة التي استثناها صلى الله عليه وسلم، فهو من قبل تخصيص النص بالقياس «66» .
4-
وجوب دخوله محرما:
فمن قصد مكة- أو قصد شيئا من حرمه كما قال النووي- وكان ممن لا يتكرر دخوله كالتجار والحطابين ومن تجبرهم مهنتهم على استمرار الدخول إلى الحرم والخروج منه، فإن عليه أن لا يدخل إلا محرما بحج أو عمرة.
وقد اختلف العلماء هل يتعلق الطلب بذلك وجوبا أم ندبا؟ المشهور عن الأئمة الثلاثة وهو المفتى به عند الحنفية والمروي عن ابن عباس أن الطلب على سبيل الوجوب. وذهب جمهور الشافعية إلى أنه على سبيل الندب.
وسبب الخلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما بدليل ما رواه مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
فالذين قالوا إن الإحرام مندوب استدلوا بهذا الحديث، والذين صححوا الوجوب، قالوا:
إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل خائفا من غدر الكفار فكان متهيأ لقتال من سيقاتله منهم، وهي من الحالات التي تستثنى من عموم حالات الوجوب.
(65) راجع إعلام الساجد للزركشي: 157
(66)
راجع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: 200