الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:
هذا، وما دام البحث سيسوقنا منذ الآن، إلى الحديث عن الجهاد والقتال، فمن الجدير أن نقف هنا قليلا، لنتبيّن فكرة صحيحة عن الجهاد ومشروعيته ومراحله.
فقد كان الحديث عنه ولا يزال أهم تكأة يعتمد عليها محترفو الغزو الفكري في خلط حق بباطل وفي محاولة فتح الثغرات في جوانب صرح هذا الدين الحنيف بغية التشكيك فيه والنيل منه.
ولن تعجب من الدوافع إلى حصر كل همهم في مشروعية (الجهاد) بخصوصه، إذا علمت بأن أخطر ركن من أركان الإسلام في نظر أعدائه يخيفهم ويرعبهم، إنما هو (الجهاد) !. فهم يدركون أن هذا الركن إذا استيقظ في نفوس المسلمين وأصبح ذا أثر في حياتهم في أي عصر من الزمن فلن تقف أي قوة بالغة ما بلغت من الأهمية، في وجه الدفع الإسلامي. ولذا ينبغي أن يكون البدء في القيام بأي عمل، بغية إيقاف المدّ الإسلامي، من هذه النقطة ذاتها..
وسنوضح في هذه الكلمة أولا معنى الجهاد وغايته في الإسلام والمراحل التي تدرج فيها ثم المرحلة التي استقر عندها. ثم نبين المغالطات التي دخلت مفهومه والتقسيمات المتكلفة التي حملت عليه مما لا وجه له البتة.
أما معنى الجهاد: فهو بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامي، وبذل الجهد بالقتال نوع من أنواعه. وأما غايته، فهو إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة.
وأما المراحل التي مرّ بها، فقد كان الجهاد في صدر الإسلام، كما علمنا، مقتصرا على الدعوة السلمية مع الصمود في سبيلها للمحن والشدائد. ثم شرع إلى جانبها- مع بدء الهجرة- القتال الدفاعي، أي رد كل قوة بمثلها.
ثم شرع بعد ذلك قتال كل من وقف عقبة في طريق إقامة المجتمع الإسلامي، على أن لا يقبل من الملاحدة والوثنيين والمشركين إلا الإسلام وذلك لعدم إمكان الانسجام بين المجتمع الإسلامي الصحيح وما هم عليه من الإلحاد أو الوثنية، أما أهل الكتاب فيكفي خضوعهم للمجتمع الإسلامي وانضواؤهم في دولته على أن يدفعوا للدولة ما يسمى (الجزية) مكان ما يدفعه المسلمون من الزكاة.
وعند هذه المرحلة الأخيرة استقر حكم الجهاد في الإسلام. وهذا هو واجب المسلمين في كل عصر إذا توفرت لديهم القوة والعدة اللازمة. وعن هذه المرحلة يقول الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة 9/ 123] ، وعنها أيضا
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» «43» .
ومن هنا تعلم أنه لا معنى لتقسيم الجهاد في سبيل الله إلى حرب دفاعية وأخرى هجومية إذ مناط شرعة الجهاد ليس الدفاع لذاته ولا الهجوم لذاته، إنما مناطه الحاجة إلى إقامة المجتمع الإسلامي بكل ما يتطلبه من النظم والمبادئ الإسلامية، ولا عبرة بعد ذلك بكونه جاء هجوما أو دفاعا.
أما القتال الدفاعي المشروع، كدفاع المسلم عن ماله أو عرضه أو أرضه أو حياته، فذلك نوع آخر من القتال لا علاقة له بالجهاد المصطلح عليه في الفقه الإسلامي، وهو ما يسمى بقتال الصائل، وقد أفرد له الفقهاء بابا مستقلا في كتب الفقه وما أكثر ما يخلط الباحثون اليوم بينه وبين الجهاد الذي نتحدث فيه! ..
هذه خلاصة معنى الجهاد وغايته في الشريعة الإسلامية.
أما المغالطات والتشويهات التي دست عليه، فتتمثل في نظريتين متناقضتين في الظاهر، ولكنهما منسجمتان في باطن الأمر وحقيقته، إذ يتكون من كليهما وسيلة واحدة متسعة تهدف إلى إلغاء مشروعية الجهاد من أساسه.
أما النظرية الأولى، فهي تلك التي تنادي بأن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سلكوا مسلك الإكراه، فكان الفتح الإسلامي على أيديهم فتح قهر وبطش لا فتح قناعة وفكر «44» .
وأما النظرية الثانية، فهي تلك التي تهتف بعكس ذلك تماما، أي أنه دين سلام ومحبّة، لا يشرع الجهاد فيه إلا لرد العدوان المداهم، ولا يحارب أهله إلا إذا أرغموا على ذلك وبودئوا به.
وعلى الرغم من أن هاتين النظريتين متناقضتان كما ذكرنا، فإن أرباب الغزو الفكري أرادوا أن يستولدوا منهما غاية معيّنة، هي وحدها المقصودة من كلا هاتين الأطروحتين. وإليك إيضاح ذلك:
لقد أشاعوا وروجوا أولا أن الإسلام دين بطش وحقد على الآخرين. ثم انتظروا إلى أن آتت هذه الشائعة ثمارها من ردود الفعل لدى المسلمين وإنكار هذا الظلم في حق الإسلام..
.. وبينما المسلمون يلتمسون الرد على هذا الباطل، قام من أولئك المشككين أنفسهم من اصطنع الدفاع عن الإسلام بعد طول علم وبحث متجردين، وراح يردّ هذه التهمة قائلا: «إن
(43) متفق عليه.
(44)
اقرأ هذه النظرية لفان فلوتن مثلا في كتابه: السيادة العربية من ص 5 فما بعد. ط. النهضة المصرية.
الإسلام ليس كما قالوا دين سيف ورمح وبطش، بل هو على العكس من ذلك: دين محبة وسلام لا يشرع فيه الجهاد إلا لضرورة رد العدوان المداهم، ولا يرغّب أهله في الحرب ما وجدوا إلى السلام من سبيل» .
فصفق بسطاء المسلمين طويلا لهذا الدفاع (المجيد) في غمرة تأثرهم من الظلم الشنيع الأول، وصادف ذلك في نفوسهم المتحفزة للرد عليه قبولا حسنا، فأخذوا يؤيدون ويؤكدون، ويستخرجون البرهان تلو الآخر على أن الإسلام فعلا كما قالوا.. دين مسالمة وموادعة لا شأن له بالآخرين إلا إذا داهموه في عقر داره، وأيقظوه من هدأته وسباته.
وفات أولئك البسطاء أن هذه هي النتيجة المطلوبة، وهذا بعينه هو الغرض الذي التقى عليه في السر كل من روّج الشائعة الأولى ثم أشاع الباطل الثاني.
فالمقصود هو السلوك بمقدمات ووسائل مدروسة مختلفة، تنتهي إلى نسخ فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وإماتة روح الطموح في نفوسهم.
ونحن نسوق لك شاهدا على هذا، ما ذكره زميلنا الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (آثار الحرب في الفقه الإسلامي)، على لسان المستشرق الإنكليزي المعروف (أندرسن) . ولننقل لك عبارته من مبدئها:
ونعود إلى ما كنا عليه من حديث بيعة العقبة الثانية:
لأمر ما أراده الله عز وجل، انتهى إلى سمع المشركين من أهل مكة خبر هذه البيعة، وما تمّ فيها بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أهل المدينة.
(45) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، تعليق في ص 59