الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد دلّت على هذه الشروط أحاديث صحيحة مثل ما رواه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا نرقي في الجاهلية، فقلنا:«يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك» .
السحر والرّقية منه:
ولقد كان من أهم ما رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالمعوّذات منه، السحر الذي سحره به لبيد بن الأعصم في الحديث الذي رواه الشيخان.
ولقد ذكر العلماء أن جمهور المسلمين على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، ودليله هذا الحديث، وذكر الله تعالى له في كتابه، وأنه مما يتعلم، وذلك لا يكون إلا فيما له حقيقة ما. وقوله سبحانه وتعالى عنه فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة 2/ 102] ، والتفريق بين المرء وزوجه شيء حقيقي كما هو معروف.
وقد يستشكل بعضهم هذا الذي نقول لسببين:
الأول: كون السحر بحد ذاته حقيقة ثابتة، إذ هو فيما يتوهمه البعض أمر مناف لقضية التوحيد وانحصار التأثير لله وحده.
الثاني: أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر، فذلك مما يحط (في وهمهم) من منصب النّبوة ويشكّك الناس فيها.
والحقيقة أنه لا إشكال في الأمر ألبتة. أما الجواب عن الوهم الأول، فهو أن اعتبار السحر حقيقة ثابتة لا يعني كونه مؤثرا بذاته بل هو كقولنا السّمّ له مفعول حقيقي ثابت، والدواء له مفعول حقيقي ثابت، فهذا كلام صحيح لا ينكر. غير أن التأثير في هذه الأمور الثابتة إنما هو لله تعالى. وقد قال الله تعالى عن السحر وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، فقد نفى الله عز وجل عن السحر التأثير الذاتي، ولكنه أثبت له في الوقت نفسه مفعولا ونتيجة منوطة بإذن الله تعالى.
وأما الجواب عن الوهم الثاني، فهو أن السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم إنما كان متسلطا على جسده وظواهر جوارحه كما هو معروف. لا على عقله وقلبه واعتقاده. فمعاناته من آثاره كمعاناته من آثار أي مرض من الأمراض التي يتعرض لها الجسم البشري لأي كان، ومعلوم أن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تستلزم سلامته من الأمراض والأعراض البشرية المختلفة.
قال القاضي عياض: «وأما ما جاء في الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه صلى الله عليه وسلم داخلة نقص أو عيب في شيء من تبليغه أو شريعته، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا (أي مما يدخل أي داخلة نقص في تبليغ الشريعة) ، وإنما هذا فيما يجوز طروّه من أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا فضّل من أجلها،
وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما حصل» «23» .
قلت: وهو كما يحصل للمريض عند شدّة الحّمى، فمن الأعراض الطبيعية لذلك أن تطوف بالذهن أخيلة وأوهام غير حقيقية لشدة وطأة الحرارة، والأمر في ذلك وأشباهه من الأعراض البشرية التي يستوي فيها الأنبياء والرسل مع غيرهم من الناس.
على أن خبر سحره صلى الله عليه وسلم، إنما يدخل في جملة الخوارق التي أكرم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو ليس مثار نقيصة له، وإنما هو دليل جديد من أدلة إكرام الله له، وحفظه إياه. فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل يكثر من الدعاء حين شعر بهذه الأعراض في جسمه إلى أن أطلعه الله على المكيدة التي صنعها له لبيد بن الأعصم في السّر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه وأسباب سحره فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك وإليك نص الحديث:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا. ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب (أي مسحور)، قال: من طبّبه؟
قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة «24» وجف طلع نخل ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها النّبي صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه.. فجاء فقال:
يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين! .. قلت يا رسول الله:
أفلا استخرجته، قال: لقد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرّا، فأمر بها (أي البئر) فدفنت» .
فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله لرسوله أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه في جسمه أو أي جانب يتعلق ببشنريته.
بقي أن أحدا قد يستشكل قائلا: فكيف تتميز المعجزة الإلهية إذن عن السحر ومظاهره مادام أن له حقيقة؟
والجواب، أن المعجزة التي تحصل على يد النّبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون مقترنة بدعوى النّبوة والتحدي بها كدليل على صدق دعواه. وليس السحر كذلك فلا يمكن أن يتم على يد الساحر مع
(23) شرح الشفاء للقاضي عياض: 4/ 278، 279، وانظر أيضا شرح النووي على مسلم: 14/ 174
(24)
المشط معروف، والمشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، وجف الطلع: هو الغشاء الذي يكون على الطلع.