الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمشتبهات من الأمور: المشكلات (1).
والاشتباه: الالتباس (2).
واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميز ولم تظهر (3).
تعريف الاشتباه اصطلاحا: الاشتباه في الاستعمال الفقهي أخص منه في اللغة، فقد جاء في رد المحتار (4) أن الشبهة هي:" ما يشبه الشيء الثابت وليس بثابت في نفس الأمر ".
وعرف الشبهة الجرجاني (5) بقوله: " ما لم يتيقن كونه حراما أو حلالا ".
الفرق بين الاشتباه والالتباس: الالتباس هو الإشكال. والفرق بينه وبين الاشتباه أن الاشتباه معه دليل يرجح أحد الاحتمالين، والالتباس لا دليل معه (6).
(1) لسان العرب، مادة (شبه) 13/ 503.
(2)
المصباح المنير ص 115.
(3)
المصباح المنير ص 115.
(4)
3/ 150، وانظر: الموسوعة الكويتية (4/ 290).
(5)
التعريفات.
(6)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 82، والموسوعة الكويتية 4/ 290.
المبحث الثاني: خلاف الفقهاء في المسألة:
تحرير محل النزاع:
أولا: إذا كان الشك الطارئ على الإنسان في الصلاة في هذه المسألة وهما، بأن طرأ على الذهن ولم يستقر، فإن هذا
الشك لا عبرة فيه عند الفقهاء، فلا يلتفت الإنسان إليه؛ لأن الإنسان لو طاوع التوهم لتعب تعبا عظيما (1).
وقد تقدم (2) أن الفقهاء لا يعتبرون التوهم شيئا، ولا يثبتون حكما شرعيا استنادا على الوهم. فلا يجوز عندهم تأخير الشيء الثابت بصورة قطعية بوهم طارئ.
ثانيا: إذا كثرت الشكوك مع الإنسان حتى لازمه ذلك في الوضوء والصلاة والصيام وغيره، فإن ذلك أيضا لا عبرة به؛ لأنه تحول إلى مرض وعلة، ومثل هذا يعتبر ذهنه غير مستقر فلا عبرة به (3).
أما إذا كان الشك خاليا من ذلك، فشك في عدد الركعات في الصلاة، فلم يدر هل صلى واحدة أم اثنتين، أو لم يدر صلى اثنتين أم ثلاثا، أو لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا، فإن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة إلى سبعة أقوال:
القول الأول: أنه يبني على اليقين، وهو الأقل (4)، سواء أكان إماما أم مأموما، ويسجد للسهو.
(1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لفضيلة الشيخ محمد العثيمين 3/ 514.
(2)
في تعريف الوهم.
(3)
انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لفضيلة الشيخ محمد العثيمين 3/ 514.
(4)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ بن رجب 9/ 471، وبداية المجتهد 1/ 234.
روي هذا القول عن عمر، وعلي (1)، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشريح، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، والحسن البصري، والزهري (2).
وهو قول مالك، والشافعي، ورواية لأحمد بن حنبل (3)، وهي المذهب (4)، وإسحاق بن راهويه، والثوري في رواية، والليث (5)، والأوزاعي، والحافظ ابن عبد البر (6)
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ بن رجب 9/ 471، وبداية المجتهد 1/ 234.
(2)
فتح الباري للحافظ ابن رجب 9/ 471.
(3)
انظر: المغني 2/ 407، والمقنع 1/ 179، والإنصاف 2/ 146، وكشاف القناع 1/ 406.
(4)
انظر: الإنصاف 2/ 146.
(5)
فتح الباري للحافظ بن رجب 9/ 471.
(6)
التمهيد 5/ 37، 39، والاستذكار 2/ 244 - 245.
وداود الظاهري (1).
القول الثاني: أنه يتحرى، سواء أكان إماما، أم مأموما. وذلك بأن يبني على غالب ظنه.
روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب (2)، وبه قال الحسن بن صالح بن حي، والثوري في رواية (3)، ورواية لأحمد بن حنبل.
القول الثالث: أنه إن غلب على ظنه أحد الاحتمالين عمل به وبنى عليه وسجد سجدتين للسهو، وإن لم يترجح عنده أحد الاحتمالين واستوى عنده الأمران بنى على اليقين وهو الأقل وسجد للسهو، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، واختيار شيخ
(1) التمهيد 5/ 35، والاستذكار 2/ 243، وبداية المجتهد 1/ 234.
(2)
انظر: الأوسط لابن المنذر 3/ 281، والمغني 2/ 407، وفتح الباري لابن رجب 9/ 470.
(3)
انظر: التمهيد 5/ 36، والاستذكار 2/ 244، وفتح الباري لابن رجب 9/ 470.
الإسلام بن تيمية (1).
واختاره من المعاصرين الشيخ محمد العثيمين (2).
القول الرابع: التفريق بين الإمام والمنفرد (3).
فالإمام يبني على غالب ظنه، والمنفرد يبني على اليقين.
وهو رواية عن أحمد بن حنبل، وهي ظاهر المذهب (4)، واختيار الخرقي (5).
القول الخامس: أنه إذا كان هذا الشك يعرض له أول مرة بطلت صلاته واستأنفها. وإن كان الشك يعرض له كثيرا
(1) انظر: الاختيارات الفقهية للبعلي ص 115، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/ 15.
(2)
انظر: الشرح الممتع 3/ 517.
(3)
أما المأموم فهو تبع لإمامه.
(4)
انظر: المقنع 1/ 179، والإنصاف 2/ 147، والمبدع 1/ 524.
(5)
المقنع 1/ 179، والإنصاف 2/ 147، والمبدع 1/ 524.
تحرى وبنى على غالب ظنه إن كان له ظن، فإن لم يكن له ظن يرجح أحدهما بنى على اليقين وهو الأقل.
قال بهذا الحنفية.
القول السادس: أنه إذا كان الشك شيئا يلزمه ولا يزال يشك، بأن كثر وأصبح عادة له، فإنه يجزئه سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين. وإن لم يكن شيئا يلزمه استؤنفت تلك الركعة بسجدتيها.
قال بهذا الليث بن سعد.
القول السابع: أنه يعيد الصلاة.
روي هذا القول عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، والشعبي، وشريح، ومحمد بن الحنفية (1).
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 27، 28، وفتح الباري لابن رجب 9/ 470.
الأدلة والمناقشة:
أدلة القول الأول: استدل من قال بالبناء على اليقين بالأدلة التالية:
الدليل الأول:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان (1)» .
الدليل الثاني:
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم
(1) قوله: " كانتا ترغيما للشيطان " أي: إغاظة له وإذلالا. مأخوذ من الرغام وهو التراب، ومن أرغم الله أنفه. والمعنى:" أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصها، فجعل الله تعالى للمصلي طريقا إلى جبر صلاته وتدارك ما لبس عليه وإرغام الشيطان ورده خاسئا مبعدا عن مراده " اهـ. من صحيح مسلم بشرح النووي 5/ 60. والحديث أخرجه أحمد في المسند 3/ 72، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له برقم 571، 1/ 400، ومالك في الموطأ مرسلا عن عطاء بن يسار في كتاب الصلاة، باب: إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته 1/ 95. قال ابن عبد البر في التمهيد 5/ 18: " هكذا روى هذا الحديث عن مالك جميع رواة الموطأ عنه، ولا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم، فإنه وصله وأسنده عن مالك، وتابعه على ذلك يحيى بن راشد إن صح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " اهـ.
يدر ثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم (1)».
ونوقش هذا الحديث: بأنه معلول.
قال الحافظ بن حجر (2): " وهو معلول، فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب. وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلا. قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله، فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا. فقال: لكنه حدثني أن كريبا حدثه به. وحسين ضعيف جدا ".
وذكر ابن رجب (3) تضعيف هذا الحديث بسبب هذه العلة عن ابن المديني.
ويجاب عنه من وجهين:
الأول: بأنه قد صححه الترمذي والحاكم والذهبي (4).
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 190 (بلفظ مقارب)، والترمذي (واللفظ له) في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، برقم 398، 2/ 245، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن يشك في صلاته فرجع إلى اليقين برقم 1209، 1/ 381، والحاكم في المستدرك في كتاب السهو 1/ 324 - 325، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 35.
(2)
في تلخيص الحبير 2/ 5.
(3)
فتح الباري لابن رجب 9/ 465.
(4)
انظر: سنن الترمذي 1/ 245، والمستدرك 1/ 324.
فقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب صحيح ".
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي.
وقال أحمد محمد شاكر (1) بعدما ذكر كلام ابن حجر الآنف الذكر وبعدما ذكر شواهد لهذا الحديث: " ومجموع هذه الروايات تؤيد تصحيح الترمذي والحاكم والذهبي للحديث " اهـ.
الثاني: على افتراض عدم صحة الحديث فإن مدار الحكم الناتج عن هذا الحديث لا يعتمد على هذا الحديث وحده، فهناك حديث أبي سعيد الخدري المتقدم، وهو صحيح.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها، ثم يسجد سجدتين (2)» .
ونوقش هذا الحديث: بأن الصحيح وقفه على ابن عمر، فرفعه غير صحيح. قال ابن عبد البر (3): " لا يصح رفع هذا الحديث - والله أعلم - لأن مالكا رواه عن عمر بن محمد، عن
(1) في تعليقه على سنن الترمذي 1/ 246.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة 1/ 260، 261، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 38، 39، ومالك في الموطأ موقوفا في كتاب الصلاة، باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته 1/ 95.
(3)
في التمهيد 5/ 39.
سالم، عن أبيه، فوقفه على ابن عمر جعله من قوله وخالف أيضا لفظه، والمعنى واحد، ولكنه لم يرفعه إلا من لا يوثق به، وإسماعيل ابن أبي أويس وأخوه وأبوه ضعاف لا يحتج بهم " اهـ.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دلالة صريحة على أن من شك في صلاته فلم يدر كم صلى، فإنه يبني على اليقين - وهو الأقل - وإن كان الحديث الثاني قد ضعفه البعض لإرساله فإن هناك من صححه من أئمة الحديث.
أما الحديث الثالث فالصحيح وقفه على ابن عمر، وعلى فرض عدم صحتهما فإن مدار الحكم الناتج عن هذه الأحاديث وهو البناء على اليقين لا يعتمد على الحديثين الأخيرين وحدهما، فهناك حديث أبي سعيد الخدري، وهو صحيح.
أدلة القول الثاني: استدل من قال بالتحري بحديث عبد الله بن مسعود.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «صلى النبي
صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين (2)». متفق عليه.
وجه الاستدلال من الحديث: قالوا: أفاد الحديث بأن من شك في صلاته فلم يدر كم صلى فإنه يتحرى بأن يبني على غالب ظنه.
مناقشة الحديث وكيفية الجمع بينه وبين أحاديث القول الأول:
لقد سلك الفقهاء في نقدهم لوجه الاستدلال بهذا الحديث مسلكين:
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة 1/ 104، 105، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 572، 1/ 400، وأحمد في المسند 1/ 379، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا صلى خمسا، برقم 1020، 1/ 620، والنسائي في كتاب السهو، باب التحري 3/ 28، 29.
(2)
أي: إبراهيم النخعي، وقد رواه عن علقمة عن ابن مسعود. انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 1/ 600. (1)
المسلك الأول: ذهب بعض الفقهاء ومنهم الإمام مالك (1) إلى أن المقصود بالتحري في حديث ابن مسعود هذا هو الرجوع إلى اليقين؛ جمعا بين هذا الحديث وأحاديث البناء على اليقين المتقدمة.
المسلك الثاني: أنه يحمل حديث ابن مسعود هذا على من عنده ظن غالب فيتحرى؛ بأن يبني على غالب ظنه، وتحمل أحاديث البناء على اليقين المتقدمة على من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه فيبني على اليقين وهو الأقل؛ جمعا بين الأحاديث.
ويبدو لي - والله أعلم - أن المسلك الثاني أرجح وأصوب؛ لأن فيه إعمالا لجميع الأحاديث، بينما المسلك الأول يجعل التحري هو البناء على اليقين، وهذا غير صحيح، فإن معنى التحري يختلف عن معنى البناء على اليقين، كما اتضح لنا في المباحث المتقدمة.
أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث بأدلة القول الأول وأدلة القول الثاني. أي: استدلوا بأدلة القول الأول التي تفيد البناء على اليقين وهو الأقل، واستدلوا بأدلة القول الثاني التي تفيد التحري بالبناء على غالب الظن.
وجه الاستدلال بهذه الأدلة وطريقة الجمع بينها: أنهم حملوا أحاديث القول الأول التي تفيد البناء على اليقين على من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه، فيبني على اليقين وهو
(1) انظر: التمهيد 5/ 37، وبداية المجتهد 1/ 235.
الأقل. وحملوا دليل القول الثاني وهو حديث ابن مسعود على من عنده ظن غالب فيتحرى؛ بأن يبني على غالب ظنه، وفي ذلك جمع بين الأحاديث وإعمال لها كلها (1).
دليل القول الرابع: استدل من قال بالتفريق بين الإمام والمنفرد بأن الإمام يبني على غالب ظنه؛ لأنه له من ينبهه، ويذكره بالصواب إذا أخطأ، فيعمل بالأظهر عنده؛ لأنه إن أصاب أقره من خلفه من المأمومين، فيتأكد له صواب نفسه، وإن أخطأ سبحوا له، فيعلم أنه أخطأ، فيرجع إليهم، فيحصل له الصواب على كلتا الحالتين، وليس كذلك المنفرد؛ إذ ليس له من يذكره فيبني على اليقين ليحصل له إتمام صلاته. وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد وعبد الرحمن بن عوف على المنفرد، وحديث ابن مسعود على الإمام؛ جمعا بين الأحاديث وعملا بها جميعا (2).
ونوقش هذا الدليل: بأن الخطاب في أحاديث هذه المسألة لجميع المصلين فلم يخاطب الأئمة بقسم منها وبالآخر المنفردين، وليس في لفظ واحد منها ما يدل على ذلك، فإخراج الأئمة من حديث أبي سعيد وغيره غير صحيح ولا يجوز، وكذلك إخراج المنفردين من حديث ابن مسعود غير صحيح أيضا (3).
أدلة القول الخامس: استدل أصحاب القول الخامس بالأدلة
(1) انظر: المغني 2/ 406، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/ 15، والشرح الممتع 3/ 517.
(2)
المغني 2/ 409، انظر: مصادر الحنابلة المتقدمة.
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/ 15.
التالية:
الدليل الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة (1)» .
فاستدلوا بهذا الحديث على من يعرض له الشك أول مرة.
ونوقش هذا الدليل: بأنه حديث غريب كما قال الزيلعي (2)، والكمال بن الهمام (3)، والعيني (4)، فلا يصح بهذا اللفظ، ومن ثم فإنه لا ينتج حكما.
الدليل الثاني: استدلوا لقولهم فيما لو كان الشك يعرض له كثيرا فإنه يتحرى بالبناء على غالب ظنه، إذا كان له ظن، وإن لم يكن له ظن فإنه يبني على اليقين.
استدلوا لقولهم هذا بما استدل به أصحاب القول الثالث، وهي الأدلة التي تفيد البناء على اليقين، ودليل ابن مسعود الذي يفيد التحري، ووجهوها وجمعوا بينها وقالوا فيها وعملوا بها كما عمل بها أصحاب القول الثالث بحمل حديث ابن مسعود لمن كان
(1) أخرجه الزيلعي في نصب الراية 1/ 173، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 28، عن ابن عمر قال في الذي لا يدري كم صلى أثلاثا أو أربعا، قال: يعيد حتى يحفظ. . وفي لفظ قال: " أما أنا إذا لم أدر كم صليت فإني أعيد " اهـ.
(2)
في نصب الراية 1/ 173.
(3)
في شرح فتح القدير 1/ 519.
(4)
في البناية في شرح الهداية 2/ 757.
عنده ظن غالب فيعمل به، وأحاديث البناء على اليقين على من لم يوجد عنده ظن غالب، فإنه يبني على اليقين وهو الأقل.
ونوقش هذا الدليل: بأنه تبين لنا فيما تقدم أن في ذلك جمعا للأحاديث وإعمالا لها كلها، ولكن الإشكال هنا في قول الحنفية بالتفريق بين وقوع الشك أول مرة أو التكرار، فيختلف الحكم عندهم تبعا لوقوع الشك أول مرة أو تكراره. وهذا التفصيل لا يعضده دليل صحيح، بل فيه مخالفة للأحاديث الصحيحة الثابتة، وهي القول بالتحري أو البناء على اليقين (1).
قال الحافظ ابن عبد البر (2): " وليس في شيء من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم تفرقة بين أول مرة وغيرها، فلا معنى لقول أبي حنيفة في ذلك " اهـ.
الدليل الثالث: أن من شك في صلاته فأبطلها واستأنفها من جديد كان مؤديا للفرض بيقين كاملا. أما لو بنى على اليقين وهو الأقل لم يؤد الصلاة كاملة؛ لأنه ربما يزيد فيها، وإدخال الزيادة في الصلاة نقصان فيها، وربما يؤدي إلى إفساد الصلاة (3).
ونوقش هذا الدليل: بأنه قد وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة في المسألة المخالفة لهذا الدليل بالبناء على اليقين والتحري - على التفصيل السابق - فلا معنى لما يخالف حديث
(1) انظر: المغني 2/ 409.
(2)
في التمهيد 5/ 380.
(3)
انظر: بدائع الصناع 1/ 165.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ولا يصح ترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشتغال بما يخالفه.
دليل القول السادس: استدل لهذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس (1)» . متفق عليه.
وجه الاستدلال من الحديث: في هذا الحديث دلالة على أن من شك في صلاته فإنه يكفيه سجود السهو.
ونوقش وجه الاستدلال: بأن القول به فيه إبطال للأحاديث الأخرى في المسألة، سواء أحاديث البناء على اليقين أو حديث التحري، والأولى هو الجمع بينها وبين حديث أبي هريرة هذا، فيحمل حديث أبي هريرة على من طرأ عليه الشك وقد قارب على الفراغ من الصلاة قبل أن يسلم، فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك ويسجد للسهو قياسا على من طرأ عليه الشك بعد السلام. ولو طرأ عليه الشك قبل ذلك فإنه يكون على التفصيل السابق في الجمع بين الأحاديث، إما التحري أو البناء على اليقين.
وعلى هذا فقوله في حديث أبي هريرة: " وهو جالس "،
(1) أخرجه البخاري في كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع 1/ 67، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 389، 1/ 398.
يتعلق بقوله: " إذا شك "، لا بقوله:" سجد "(1).
ثم إن حديث أبي هريرة لو سلم وجه الاستدلال به فإنه يدل على جزء من هذا القول، وأما باقيه فلا أعلم أنه فيه دليل صحيح، والله أعلم.
دليل القول السابع: لعله يستدل لهم بما ورد في مصنف ابن أبي شيبة (2)، من الآثار عن ابن عمر وسعيد بن جبير والشعبي أنهم يعيدون الصلاة.
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الأول: غاية ما في هذا الدليل أنه أثر واحد وهو الموقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، وقد ثبت عن ابن عمر خلاف ذلك، فقال بعدم إعادة الصلاة (3)، وباقيها مقطوع وهو ما أضيف إلى التابعي أو من دونه. والمقطوع ليس بحجة (4).
الثاني: على فرض ثبوت وصحة الموقوف على ابن عمر، وأنه لم يرد عنه خلافه، فإنه معارض بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث البناء على اليقين، وحديث التحري، فلا يترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤخذ بقول
(1) انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 3/ 125.
(2)
2/ 27، 28.
(3)
انظر: المصنف لعبد الرزاق، رقم 3469، 3470، 3471، 2/ 306، ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 27.
(4)
انظر: تيسير مصطلح الحديث، للطحان ص 133، 134.
الصحابي عند التعارض، بل يؤخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك ما عداه، والله أعلم.
بيان القول الراجح: بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة بعضها تبين لي - والله أعلم بالصواب - أن أرجح الأقوال في المسألة هو القول الثالث؛ وهو: أن المصلي إذا شك في عدد الركعات في الصلاة فلم يدر كم صلى، فإما أن يكون عنده ظن غالب فيتحرى بأن يبني على غالب ظنه، ويحمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ذلك، وإما أنه لا يكون عنده ظن غالب يعمل عليه؛ فيبني على اليقين، وهو الأقل، وتحمل أحاديث البناء على اليقين على ذلك؛ لأن كل هذه الأحاديث خطاب للشاك، وتوجيهها بما تقدم فيه إعمال للأحاديث كلها، وإعمال الأحاديث كلها والجمع بينها أولى من إعمال بعضها وإهمال البعض الآخر.
أما ترجيح غير ذلك من الأقوال المتقدمة فإنه يؤدي إلى إعمال بعض الأحاديث وإهمال بعضها، وهذا غير جائز مع إمكان الجمع، أو أنه يؤدي إلى علل أخرى تم بيانها عند عرضها ومناقشتها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بعد أن ذكر بعض الأقوال في المسألة ورد عليها ثم قال:
" فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن كلاهما (1) خطاب
(1) أي حديثي ابن مسعود وأبي سعيد الخدري.