الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد رحمه الله.
وكذلك القيء لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، ورواية عن أحمد رحمه الله، ويخالفهم مالك رحمه الله، وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد رحمه الله، وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.
وفيما يلي
نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 -
جاء في البداية وشرحها الهداية: ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران، فشهد الشهود عليه بذلك؛ فعليه الحد، وكذلك إذا أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ومن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه.
فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد. وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد. فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزناة، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان، والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي إنكه شربت مدامة
…
فقلت لهم: لا ، بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة؛ لقول ابن مسعود رضي الله
عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل، وإنما تشتبه على الجهال.
وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولا إجمال إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه، وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
فإن أخذه الشهود وريحها توجد منه أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام، فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا، والشاهد لا يتهم به في مثله.
". . . ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها "، لأن الرائحة محتملة، وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار. . . ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة. . . ولا يقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان " (1). انتهى.
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: " والرائحة قد
(1) البداية ومعها الهداية، 2/ 111، 112.
تكون من غيره. . . . " إلخ، قال: فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها، ولا بذهابها. ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها؛ لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة، والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة، بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا، وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه، وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله: أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر، عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن، ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه، أخبرنا جرير، عن عبد الحميد، عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها، لعدم الرائحة وقت أدائها بل ولا إقرار، إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة التحريك بعنف، والترترة والتلتلة التحريك، وهما بتاءين مثناتين من فوق؛
قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل
…
تقطع أنفاس المهارى تلاتله
أي حركاته، والمساف: جمع مسافة، والغوج بالغين المعجمة: الواسع الصدر، ومعنى تقطيع تلاتله أنفاس المهارى أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها. وإنما فعله لأن بالتحريك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفيت، وكان ذلك مذهبه. ويدل عليه ما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت. فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر، فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ فضربه الحد.
وأخرج الدارقطني بسند صحيح، عن السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر. وفي لفظ: ريح شراب. والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما. ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك، وقول للشافعي، ورواية عن أحمد، والأصح عن الشافعي، وأكثر أهل العلم نفيه. وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة، ويترجح؛ لأنه أصح، وإن قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه رائحة الخمر حدا تاما. وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى، وهو أن الأصل في
الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد أو يدرأ ما أستطيع، فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيحده؟ فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه، فاستجاز ذلك فيه (1). انتهى.
ويمكن أن يقال: إنه إنما أمر بترترته ومزمزته لكونه لم يأت تائبا، وإنما جاء به عمه ليقام عليه الحد، فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور لتظهر الرائحة.
(1) فتح القدير 4/ 180.
2 -
قال ابن فرحون: ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها، وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه. وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر (1)» . قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضى بها، ودليل آخر أن إقرار السكران غير لازم. (مسألة) قال اللخمي رحمه الله تعالى: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه إلى أن الحد يجب على من وجد منه ريح المسكر. والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب، فجلده الحد تاما.
والدليل من جهة المعنى: أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه، فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد. وأصل ذلك الرؤية لما شربه، بل الرائحة أقوى في معرفة حال المشروب من الرؤية، لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أمسكر هو أم لا،
(1) صحيح مسلم الحدود (1695).
وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور: الأول: فيمن يجب استنكاهه. الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته. الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة المسكر أو أشكلت.
(الأول) فيمن يجب استنكاهه، وذلك فيمن يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران: ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه؛ قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه:(مسألة) وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها أو أنكرها بحضرته من ينكرها، قال الباجي: فعندي أنه قد تعين عليه استنكاهه وتحقق حاله؛ لأن هذه صفة ينكر بها حاله ويستراب بها ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه، فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله، كالتخليط في الكلام والمشي. (مسألة) فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال - يريد التخليط في القول والمشي - لم يستنكه، رواه أصبغ عن ابن القاسم في العتبية والموازية، قال: ولا يتجسس عليه. ووجه ذلك إن لم ير منه ريبة ولا خروجا عن أحوال الناس المعتادة فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبة.
(الثاني) فيمن يثبت ذلك بشهادته: قال القاضي أبو الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم. فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا حتى يكونا ممن
يعرف الخمر بريحها. قال القاضي أبو الوليد: وهذا عندي فيه نظر؛ لأن من هذه صفته معدوم قليل، ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك، كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة) وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين، فإن لم يكن إلا واحدا وجب به الحد، وأما إن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين، كالشهادة على الشرب. وقد روى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحد فليرفعه إلى من هو فوقه. قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه؛ فلذلك جاز عنده علم من استنابه، وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
(الثالث) فيما يجب بشهادة الاستنكاه. ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها، فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر أو يختلفوا في ذلك، فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه، وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: رائحة مسكر،
وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر، فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد. ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها، كما لو شهد شاهدان، أنهما رأياه شرب خمرا، وقال آخران: لم يشرب خمرا. (مسألة) فإن شك الشهود في الرائحة: هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله، فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله، حكاه ابن القاسم في العتبية والموازية.
ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه، ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية، وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(مسألة) قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به الفطر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
(مسألة) ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد؛ لأنه لا يقيئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.
3 -
جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج:
" ويحد بإقراره وشهادة رجلين " أو علم السيد دون غيره، كما مر نظيره في السرقة لا بريح خمر وهيئة سكر وقيء، لاحتمال
أنه احتقن أو أسعط بها أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه، وأما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له، " ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا " أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو مختار عالم أو لا، كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه، والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه.
" وقيل: يشترط " في كل من المقر والشاهد أن يقول: شربها " وهو عالم به مختار "، لاحتمال ما مر، كالشهادة بالزنا، إذ العقوبة لا تثبت إلا بيقين، وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته، كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها، لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها، فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو (1). انتهى.
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج، 8/ 16.
4 -
وقال ابن قدامة: ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار أو البينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، لأنه حد لا يتضمن إتلافا، فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه؛ لأنه حد لله سبحانه، فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود، ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة. وحكي عن أبي حنيفة: لا حد عليه، إلا أن توجد رائحة.
ولا يصح؛ لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة،
كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به، كسائر الحدود.
(فصل) ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه. في قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك، وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر. وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب، فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته. ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها، أو أكل نبقا بالغا، أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات، وحديث عمر حجة لنا، فإنه لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه، لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الشافعي.
ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد هاهنا بطريق الأولى؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها، فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد، حدثنا هشيم، حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال:
أشهد أني رأيته يتقيؤها. فقال عمر: من قاءها فقد شربها. فضربه الحد.
وروى حضين بن المنذر الرقاشي، قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد - فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه. رواه مسلم. وفي رواية له: فقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة.
وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا، ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها.
(فصل) وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه؛ لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه، بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك ويكذبه (1)» . فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره. وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر؛ لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه؛ ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات، ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة، ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون، ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243)، صحيح مسلم القدر (2657)، سنن أبو داود النكاح (2152)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 344).
لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا هاهنا (1). انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: " وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين " إحداهما: لا يحد، وهو قول عامة أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وعنه: يحد، وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر. وعنه: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد، واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء، فلما صارت في فيه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها (2). انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة: " وهل يحد بوجود الرائحة؟ على روايتين " وأطلقهما في مسبوك الذهب، وتجريد العناية، ونهاية ابن رزين.
إحداهما: لا يحد، وهو المذهب، صححه المصنف والشارح، وابن منجى في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيرهم. وجزم به في الوجيز، والمنور.
والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى في الإرشاد: هذه أظهر عن الإمام أحمد رحمه الله. واختارها ابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين رحمه الله. وقدمها في
(1) المغني، 9/ 143 وما بعدها.
(2)
المقنع ومعه الحاشية، 3/ 479.
المستوعب. وعنه: يحد وإن ادعى شبهة، ذكرها في الفروع، وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا وأطلقهن في تجريد العناية. ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله: يؤدب برائحته. واختاره الخلال كالحاضر مع من شربه.
فائدتان:
إحداهما: لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر، فقيل: حكمه حكم الرائحة. قدمه في الفصول، وجزم به في الرعاية الكبرى. وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة. واختاره المصنف والشارح، وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في الخطبة، وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره، مرة على الصحيح من المذهب، كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح، وقدمه في الفروع.
وعنه: مرتين، واختاره القاضي وأصحابه، وصححه الناظم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب: أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين، وإن سلمناه فلأنه لا يتضمن إتلافا، بخلاف حد السرقة. قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره إلا بأنه حق آدمي كالقود فدل على رواية فيه، قال: وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها: بشهادة عدلين مطلقا، على الصحيح من المذهب. وقيل: ويعتبر قولهما عالما بتحريمه مختارا،