الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: حكم البكاء والأنين والتأوه في الصلاة:
المطلب الأول: فيما إذا غلبت على المصلي.
إذا غلبت هذه الأمور على المصلي فإنها لا تبطل صلاته في قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتأوه فالصحيح عند جمهور العلماء أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره)(1).
والدليل على أنها لا تبطل الصلاة:
أنها إذا غلبت تكون غير داخلة في وسع الإنسان إذ لا يمكنه دفعها (2). والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
المطلب الثاني:
إن كانت لم تغلب على المصلي لكن كانت لخشية الله. فقد اختلف فيها العلماء على قولين:
الأول: أنها لا تبطل الصلاة وهو قول أبي حنيفة ومالك، وأحمد في
(1) مجموع الفتاوى 22/ 623.
(2)
الروض المربع 2/ 158.
الصحيح من المذهب.
القول الثاني: أن الصلاة تبطل إن بان منه حرفان. وهو قول الشافعية في الأصح ورواية عند الحنابلة.
أدلة القول الأول: استدلوا بما يلي:
1 -
قول الله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) حيث مدح الله الباكين (2).
2 -
عن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز، من البكاء (4)» ، وفي رواية عند أبي داود:«كأزيز الرحى (5)» .
(1) سورة مريم الآية 58
(2)
المغني 2/ 453.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 25، 26، وأبو داود في سننه 1/ 238، والنسائي في سننه 3/ 13. قال ابن حجر:((إسناده قوي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم)). انظر: فتح الباري 2/ 206، وصححه ابن خزيمة 2/ 53، وموارد الظمآن 139 حديث رقم 522.
(4)
(3) كأزيز المرجل
(5)
سنن أبي داود 1/ 238.
وجه الدلالة من الحديث:
يدل الحديث على أن البكاء من خشية الله لا يبطل الصلاة (1).
3 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له: الصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، فقال: مروه فليصل، فعاودته، فقال: مروه فليصل، إنكن صواحب يوسف (2)» .
فالحديث يدل على جواز البكاء في الصلاة، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز (3).
4 -
قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (4).
دل هذا الأثر على جواز البكاء في الصلاة (5).
5 -
دلت الأدلة المتقدمة على جواز البكاء والأنين والتأوه بمعناه (6).
(1) نيل الأوطار 2/ 325.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 2/ 206.
(3)
فتح الباري 2/ 206، ونيل الأوطار 2/ 325.
(4)
سورة يوسف الآية 86
(5)
فتح الباري 2/ 206.
(6)
انظر: المغني 2/ 454.
دليل القول الثاني:
أنه من جنس كلام الآدميين فيبطل الصلاة سواء كان للدنيا أو للآخرة (1).
الراجح:
الذي يظهر لي رجحانه هو القول الأول لما تقدم من أدلة، ولأن البكاء وما في معناه إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه. وهذا خوف الله في الصلاة، ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا (2).
المطلب الثالث: إذا فعل البكاء والأنين والتأوه مختارا، ولم يكن لخشية الله. فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أنها تبطل الصلاة وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ومالك في رواية والشافعي في الأصح وأحمد في رواية هي المذهب.
الثاني: أنها لا تبطل الصلاة وهو قول أبي يوسف، ومالك في رواية عنه، وأحمد في رواية عنه، وقد رجح شيخ الإسلام هذا القول حيث قال: (وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقا على أصله،
(1) انظر: الروض المربع 2/ 158.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 22/ 622، 623.
وهو أصح الأقوال في هذه المسألة) (1).
الدليل للقول الأول:
1 -
عموم النهي عن الكلام، ولم يرد في الأنين والتأوه ما يخصهما ويخرجهما من العموم (2).
2 -
ولأن البكاء والأنين والتأوه إذا كان من غير خشية لله يكون إظهارا للجزع والتأسف فكان من كلام الناس فيقطع الصلاة (3).
الدليل للقول الثاني:
1 -
أنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل (4).
2 -
ولأنه لا يخلو مريض أو ضعيف من ذلك في الصلاة (5).
واعترض على دليل القول الأول بأن الإبطال - أي إبطال الصلاة بهذه الأمور - إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك؛ فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن في الصلاة شغلا (6)» .
وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس، ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها
(1) مجموع الفتاوى 22/ 621.
(2)
انظر: المغني 2/ 453، 454.
(3)
الهداية 1/ 61.
(4)
فتح الباري 2/ 206.
(5)
مختصر، اختلاف العلماء 309.
(6)
أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1/ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1/ 382 حديث رقم 538.
صوتا. وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير. . . وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك (1).
والراجح: هو القول الثاني لقوة ما استدلوا به.
قال الحافظ ابن حجر - بعد ما ذكر الأوجه عند الشافعية - قال: (والوجه الثاني أقوى دليلا - ويقصد بالوجه الثاني أنها لا تبطل الصلاة -)(2).
قلت: ويظهر لي مما تقدم في المباحث الثاني، والثالث، والرابع من الفصل الثاني أن النحنحة، والنفخ، والبكاء، والأنين، والتأوه وما في معناها لا تبطل الصلاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن اللفظ على ثلاث درجات:
أحدها: أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه وإما مع لفظ غيره كـ: في، وعن، فهذا الكلام مثل: يد، ودم، وفم، وجد.
الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء، ونحو ذلك - وذكر من هذا النوع النفخ أيضا -.
الثالث: أن لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع كالنحنحة، ثم ذكر رحمه الله الأقوال في هذا والأدلة إلى أن قال: وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل؛ فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل) (3) اهـ.
(1) مجموع الفتاوى 22/ 623.
(2)
انظر: فتح الباري (2/ 206).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 22/ 616 - 624.