الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - ما رواه الأثرم، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، في أمة بين رجلين، وطئها أحدهما: يجلد الحد إلا سوطا واحدا.
9 -
الرأي المختار:
بعد عرضنا لما تقدم من أقوال الفقهاء، وبيان حجة كل فريق، يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن ما ذهب إليه فريق
الشافعية والحنابلة من أنه لا يجوز أن يبلغ في التعزير في كل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، هو الأولى بالتقديم، للأوجه التالية:
أحدها: أن ما ذهب إليه الحنفية والشافعية من القول بعدم جواز أن يبلغ الجلد في التعزير الحد فما فوق، قول لا يقوى مع ضعف دليلهم " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " كما قدمنا (1). كما أن استدلالهم بما روي عن علي مع النجاشي، فغايته أنه حكاية فعل عن صحابي، فليس فيه تحديد من الخليفة الراشد، أو توقيف في جلد التعزير لا يصح تجاوزه، بل هو اجتهاد رآه في كفاية تأديب من هذه حاله، والله أعلم.
الثاني: أما ما ذهب إليه المالكية، فليس لديهم متمسك تصح المعارضة به (2). ثم إن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها مما هو من جنسها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها، فإن ما قالوا يؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنى، وهذا غير جائز؛ لأن الزنى مع عظمه وفحشه، لا يجوز أن يزاد على حده، فما دونه أولى (3). وأما حديث معن (4) فلم يثبت، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة، فأدب على
(1) ص 365.
(2)
كما تقدم في ص 368.
(3)
انظر: المغني، ج 12 ص 526.
(4)
المتقدم في ص 368.
جميعها، أو تكرر منه الأخذ، أو كان ذنبه مشتملا على جنايات، أحدها: تزويره، والثاني: أخذه لمال بيت المال بغير حقه، والثالث: فتحه باب هذه الحيلة لغيره، وغير هذا. وأما استدلالهم بحديث النجاشي فلا وجه له؛ لأن عليا ضربه الحد لشربه، ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا (1).
الوجه الثالث: أن التعزير أدب يقصر عن مقدار الحد إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عن مبلغ الجناية الموجبة للحد.
قياسه: أرش الجناية الواقعة في بعض العضو، فإنها قاصرة عن الجناية في كمال ذلك العضو، ذلك أن دية العضو إذا كانت معلومة، فوقعت الجناية على بعض، كان معقولا أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو (2).
الوجه الرابع: ثم إن في مجاوزة المائة جلدة في التعزير نظرا لا يخفى، فإن الله سبحانه لم يجاوز هذا العدد في أبواب ما يجب به الجلد من الحدود، كالزنى والسكر والقذف، فأشعر ذلك أنه قدر ينبغي أن يراعى في التعزير، فلا يزاد عليه. فهذه جريمة الزنى، كبيرة من كبائر الذنوب، يترتب على فعلها مفاسد لا تحصى، من التعدي على الحرمات، وهتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وضياع الأولاد، والتطاول على كرامة الناس، وإلحاق
(1) انظر: المغني، ج 12 ص 526.
(2)
انظر: معالم السنن، ج 6 ص 294.
العار، وتدنيس الشرف، حتى قرن الله شأنها بالشرك بالله، وقتل النفس، بقوله في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (1). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قوله:«ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له (2)» . يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " الزنى يجمع خلال الشرك كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته "(3).
ومع ذلك كله لم يرتب الله عليه من الجلد إلا مائة جلدة (4)، الأمر الذي يشعر الناظر في النصوص أن مراد الشارع من الجلد ليس هو العقوبة الجسدية والانتقام من المجرم، بقدر ما هو العقوبة النفسية للفاعل، والتأديب الإصلاحي له. فعقوبة الزنى وغيرها من العقوبات، كما يقول ابن تيمية: " إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق، وإرادة الإحسان
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2)
قال الألباني: " وهذا إسناد مرسل ضعيف ". سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم 1580 ج 4 ص 82.
(3)
روضة المحبين، ص 360.
(4)
للبكر، دون الثيب.
إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض " (1). ولذا كان شرع الجلد بمحضر طائفة من المؤمنين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ليكون ذلك أبلغ في الردع، وأقوى في التأديب، وأجدى في الإصلاح. كما أن الجلد يكون بسوط وسط، لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم، وأن يكون الضرب وسطا، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع.
الوجه الخامس: ثم إليك عقوبة السرقة فيما لم يبلغ ثمنه النصاب، يجترئ السارق فيها على ضروري من الضروريات الخمس التي تتفق الشرائع على حفظها، وهو المال، ويفسد على الناس معاشهم، ويخل بأمنهم على أموالهم، ويهدر حقوقهم، وينتهك حرمة أموالهم، تلك الحرمة التي لا تقل عن حرمة دمائهم وأموالهم، ولذلك قرنت بها حين قام المصطفى صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الحج الأكبر بمنى، قائلا:«فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (3)» متفق عليه. كل ذلك ولم يقض
(1) الاختيارات الفقهية، ص 288.
(2)
سورة النور الآية 2
(3)
صحيح البخاري، 3 ك العلم، 9 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ أوعى من سامع، ج 1، ص 24؛ صحيح مسلم، 15 ك الحج، 19 باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 147 - 1218، ج 1 ص 889.
فيه الشارع من العقوبة الجسدية إلا بجلدات يسيرة يحددها القاضي بحسب ما يراه. روى النسائي بسنده (1)، عن عبد الله بن عمر:«أن رجلا من مزينة أتى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل، فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح، فبلغ ثمن المجن، ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال، قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع، إلا فيما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن، ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال (2)» .
الوجه السادس: فإن قيل: التعزير قد يصل إلى حد القتل!!
فالجواب: أن للتعزير بالقتل أصلا يرجع إليه، مجاله الجرائم التي شرع في جنسها القتل (3) إذا تكرر ارتكابها، ولم يمكن دفع شر الجاني فيها وكف أذاه عن المجتمع الإسلامي إلا
(1) قال الألباني في سنده: " حسن صحيح " سنن النسائي، ص 1020.
(2)
سنن النسائي، 46 ك قطع السارق، 12 باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، ج 8 ص 86.
(3)
كالردة، والقتل العمد، والزنى للمحصن، والمحاربة.
بها، كالداعية إلى البدعة، والجاسوس المسلم، ومن تكررت منه اللواطة، والقتل بالمثقل أو خنقا عند الحنفية، ونحو ذلك وليس كذلك الضرب.
الوجه السابع: وفي هذا الوجه أنقل ما ذكره إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، حين تعرض لهذه المسألة فقال: " ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء، ثم إن نبغ في الناس داع في الضلالة، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته، فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعده لو حاد عن ارتسام أمره وأباه، فلعله ينزجر وعساه، ثم يكل به موثوقا به من حيث لا يشعر به ولا يراه، فإن عاد إلى ما عنه نهاه، بالغ في تعزيره، وراعى حد الشرع وتحراه، ثم يثني عليه الوعيد والتهديد، ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر، ويرشح مجهولين. ثم إن انكف، فهو الغرض، وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطان تنكيله وعقوباته فتبلغ العقوبات مبالغ تربى على الحدود، وإنما يتسبب إلى تكثير العقوبات بأن يبادره بالتأديب مهما عاد، وإذا تخللت العقوبات في أثناء موجباتها، تعددت وتجددت، فلا يبرأ جلده عن تعزير وجلدات نكال، حتى تحل به عقوبة أخرى.
والمسلك الذي مهدناه يتضمن الزجر الأعظم، والردع الأتم واستمرار العقوبات مع تقدير المعاودات. فإن انكف بالقليل -