الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري، فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره؛ لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني، فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسار، ومن منع مال إلى الجانب الآخر.
- ومضى في ذكر الأمثلة إلى أن قال -: ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائرا بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف (1).
ونظرا إلى أن الحدود لا تثبت إلا بتوقيف في أصلها وكيفيتها فلا يدخل اجتهاد. أما العقوبات التي تعتبر تعزيرا لا حدودا فإنها محل اجتهاد الإمام، فيجوز فيها التجزئة إذا رأى المصلحة في ذلك.
(1) الموافقات، 4/ 157.
خامسا: ما يثبت به شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك:
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة، والسكر، والقيء. ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند من يقول بالاستدلال بها على ذلك - فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل
بها من الكتاب والسنة، وطائفة من أمثلة العمل بها، وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:
أ - أما كلام العلماء، فمن ذلك ما جاء في معين الحكام:
" قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع "(1) انتهى.
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (2).
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه وعلى لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال: " ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى
(1) معين الحكام، ص 161.
(2)
تبصرة الحكام، 2/ 101 على هامش فتاوى عليش.
الشريعة التي بعث الله بها رسوله " (1). انتهى.
ب - وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2){وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3){فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (5)؛ لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها،
(1) إعلام الموقعين، 1/ 94، 95.
(2)
سورة يوسف الآية 26
(3)
سورة يوسف الآية 27
(4)
سورة يوسف الآية 28
(5)
سورة يوسف الآية 18
وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله، متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟! ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (2). انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق؛ لأن هذين الأمرين منقولان عن بني إسرائيل ونحوهم، وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب، ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر، إما لكون الرؤيا التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق بعد، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منه ما يدل على كذبهم في دعواهم.
ج - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 -
أنه صلى الله عليه وسلم حكم باللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 -
(1) سورة يوسف الآية 18
(2)
أضواء البيان، 3/ 69، 70؛ ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون، 2/ 101.
3 -
أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 -
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بالقافة، وجعلها دليلا على ثبوت النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 -
ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما. فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله. وحكم له بسلبه» . (1)
د - وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة، نذكر منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقد عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلون الطعام المرسل به. ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت ويتكئ
(1) تبصرة الحكام، 2/ 103.
على وسادته ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان، ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه ومما لا يتبعه الإنسان نفسه كالفلس والتمرة والعصا التافهة الثمن ونحو ذلك.
هـ - وأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها: الشهادة، والإقرار، والرائحة، والقيء، والسكر.
فأما الشهادة فيشترط أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة، ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود، فلا بد من الإقرار مرتين عنده.
وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، ويخالفهم مالك رحمه الله فيرى وجوب الحد