المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي ". وما يقال في تفسير الواقعة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٧٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌شرب دم الضب للسعال الديكي

- ‌من الضرورات التي تبيح نقل الدم

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌حكم قول أهل الميت للناس:(حللوا أخاكم) أو (أبيحوه) ونحوهما

- ‌حكم توزيع أوراق يبين فيها مكان الصلاة والعزاء

- ‌حكم القصائد التي فيها رثاء للميت

- ‌حكم الصبر والشكر والرضا عند المصيبة

- ‌حكم النياحة على الميت

- ‌حكم من أوصى بعدم النياحة فناحوا عليه

- ‌دمع العين وحزن القلب لا بأس به

- ‌الميت يعذب بالنياحة

- ‌ وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم

- ‌من بدع الجنائز

- ‌ الاهتمام بالزكاة كباقي أركان الإسلام

- ‌إخراج زكاة الفطر نقدا

- ‌النصاب من شروط وجوب الزكاة

- ‌إذا بلغ الباقي بعد النفقة نصابا ففيه زكاة

- ‌كلما حال الحول على المال ففيه زكاة

- ‌كيفية ضبط الحول

- ‌حكم زكاة أموال الصدقة

- ‌حكم زكاة أموال الصناديق الخيرية

- ‌المال المجموع من عدة أفراد للتعاون على الخير لا يزكى

- ‌حكم الزكاة في المبالغ المرصودةتعويضا عن نزع ملكيات العقار

- ‌حكم زكاة المال الموصى به

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌تناول دواء لإيقاف العادة الشهرية في شهر رمضان

- ‌ السهر ليالي رمضان

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمةللبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ كشف المنكبين في الصلاة

- ‌ الصلاة في النظارات الطبية

- ‌ حكم صلاة من يحمل صورة

- ‌ حكم الصلاة على الفرش المحتوية على الرسوم

- ‌منزلة العملمن الإيمان عند أهل السنة

- ‌المبحث الأول: بطلان نسبة هذا القول لأهل السنة

- ‌المبحث الثاني: هذا القول هو قول المرجئة القدماء

- ‌المبحث الثالث: الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الوعيدية

- ‌الخاتمة:

- ‌القول المبين في الصحابةوحقوقهم على المسلمين

- ‌المقدمة:

- ‌المبحث الأول: التعريف بالصحابة وأشهر المصنفات فيهم

- ‌المطلب الأول: التعريف بالصحابة:

- ‌المطلب الثاني: أشهر المصنفات المطبوعة في الصحابة:

- ‌المبحث الثاني: فضائل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌المطلب الأول: فضائل الصحابة رضي الله عنهم إجمالا:

- ‌المطلب الثاني: فضائل بعض الصحابة بأعيانهم:

- ‌المطلب الثالث: ترتيب الصحابة في الفضل:

- ‌المبحث الثالث: حقوق الصحابة رضي الله عنهم

- ‌المطلب الأول: احترامهم والثناء عليهم:

- ‌المطلب الثاني: الدعاء لهم

- ‌المطلب الثالث: النهي عن الإساءة إليهم أو سبهم

- ‌المبحث الرابع: منزلة فضائل الصحابة وحقوقهم من الدين

- ‌المطلب الأول: محبتهم دين وإيمان

- ‌المطلب الثاني: محبتهم من محبة الله ورسوله

- ‌المطلب الثالث: التعريف بحقوقهم وفضائلهم من حق المسلم على أخيه

- ‌الخاتمة:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: الفتح على الإمام وفيه ستة مطالب

- ‌المطلب الأول: حكم الفتح على الإمام

- ‌المطلب الثاني: وقت الفتح على الإمام

- ‌المطلب الثالث: إلجاء الإمام المأمومين للفتح عليه

- ‌المطلب الرابع: تعدد الفاتحين على الإمام:

- ‌المطلب الخامس: الفتح من المرأة على الإمام

- ‌المطلب السادس: أثر الفتح على الإمام

- ‌المسالة الأولى: أثر الفتح على الموالاة في قراءة الفاتحة

- ‌المسألة الثانية: أثر الفتح على الإمام في صلاة المأموم

- ‌المسألة الثالثة: أثر فتح المأموم في صلاة الإمام

- ‌المبحث الثاني: الفتح على غير الإمام

- ‌المطلب الأول: فتح المصلي على غير إمامه

- ‌المطلب الثاني: فتح غير المصلي على المصلي

- ‌المطلب الثالث: أثر الفتح على غير الإمام

- ‌المسألة الأولى: أثر فتح المصلي على غير الإمام

- ‌المسألة الثانية: أثر فتح غير المصلي على المصلي

- ‌المبحث الثالث: محل الفتح، والفتح من المصحف، وأثر الفتح في اليمين، مسائل متفرقة في الفتح

- ‌المطلب الأول: محل الفتح وما يكون فيه

- ‌المطلب الثاني: الفتح في الصلاة من المصحف

- ‌المطلب الثالث: أثر الفتح في اليمين

- ‌الخاتمة:

- ‌تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية والفتويةفي الفقه الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌التمهيد:

- ‌ تعريف تنزيل الأحكام على الوقائع

- ‌مشروعية تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌حكم تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌ضوابط تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌درجة الاجتهاد المطلوبة عند تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌ما يلزم للقاضي والمفتي عند الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:

- ‌تأهيل القاضي والمفتي بالخبرة والتجربة:

- ‌المبحث الأول: الحكم الكلي

- ‌المطلب الأول: أقسام الحكم الكلي وتحليله

- ‌المطلب الثاني: صفات الحكم الكلي

- ‌المطلب الثالث: تحديد الحكم الكلي وبناؤه على الأصول

- ‌المطلب الرابع: تفسير الحكم الكلي

- ‌المبحث الثاني: الواقعة القضائية

- ‌المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية وأقسامها

- ‌المطلب الثاني: تعريف الواقعة القضائية المؤثرة، وشروطها

- ‌المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية المراد به ووسيلته ومراحله المراد به:

- ‌المطلب الرابع: إثبات الواقعة القضائية

- ‌المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية

- ‌المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع

- ‌التمهيد:

- ‌المبحث الرابع: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية وطريقة تقريره، ومراحله

- ‌المطلب الأول: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية

- ‌المطلب الثاني: طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية

- ‌المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية

- ‌الخاتمة:

- ‌المبحث الأول: التفرد

- ‌المبحث الثاني: حكم المرسل والاحتجاج به

- ‌المبحث الثالث: تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد

- ‌المبحث الرابع: قاعدة: فلان لا يروي إلا عن ثقة غالبية

- ‌خاتمة:

- ‌بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاءفي حكم الذهاب إلى السحرة من أجل المعالجة

الفصل: المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي ". وما يقال في تفسير الواقعة

المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي ".

وما يقال في تفسير الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تفسير الواقعة الفتوية.

ص: 292

‌المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع

، وفيه تمهيد، وخمسة مطالب:

‌التمهيد:

المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع وبيان ثمرتها.

المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع:

هي طائفة من القواعد والضوابط تعين القاضي وكذا المفتي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وتنزيله على الواقعة (1).

فهي أمور كلية يقصد بها ضبط الاجتهاد القضائي والفتوي ببيان الطريقة التي يكون بها إجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع مراعيا خصوصية كل واقعة وما يحف بها من أحوال ومقتضيات تؤثر في ضبط تنزيله على الواقعة وتقريره، وقد تقتضي هذه الأصول زيادة قيد في الحكم الكلي، أو حذفه، أو الانتقال من حكم كلي إلى آخر أكثر ملاءمة لحل النزاع (2).

(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية ".

(2)

المرجع السابق.

ص: 292

ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع:

تظهر ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع في أنها تعين القاضي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وذلك بتمييزه من عدة أحكام مشابهة له أو متداخلة معه، أو باستنباطه بالاجتهاد.

كما تعين على ضبط تنزيل الأحكام على الوقائع الذي يجري تقريره بإجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع، فتعين بذلك على تحديد نطاق تطبيق الحكم الكلي على الوقائع.

كما أن تلك الأصول التي سوف يأتي ذكرها تعد قواعد مشتركة في تفسير الأحكام الكلية والوقائع القضائية والفتوية.

وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع هي كالتالي:

1 -

النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.

2 -

مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.

3 -

مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.

4 -

مراعاة الضرورات والحاجات.

5 -

مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.

وسوف نتحدث عن كل أصل في مطلب مما يلي:

ص: 293

المطلب الأول: الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.

النظر في مآلات الأفعال (الوقائع) مأمورا بها أو منهيا عنها أمر لا بد منه عند تنزيل الحكم عليها والفصل فيها، فهو مقصود شرعا.

فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعا منع على المكلف وإن كان في أصله جائزا أو واجبا.

فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع علمه بهم، وذلك حتى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه:«لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (1)» .

ومراعاة هذا الأصل - أعني النظر في المآلات - عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم، يقول الشاطبي في بيان صفة العالم الراسخ:" إنه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات "(2).

(1) متفق عليه واللفظ لهما، فقد أخرجه البخاري 4/ 1861، كتاب التفسير باب قوله:(سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين)، 4/ 1863، باب قوله:(لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، 3/ 1296، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، ومسلم 4/ 1998، 1999، كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.

(2)

الموافقات في أصول الشريعة 4/ 232.

ص: 294

فالقاضي - بل والمفتي - وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة لا بد له من التبصر في ذلك بأن يقدر عواقب ما يقرره ناظرا إلى أثره أو آثاره، فإن لم يفعل كان عمله خطأ مضيعا للحقوق، أدخله في الشرع اعتمادا منه على تأويل ظهر له لم يلتفت فيه إلى عواقبه ومآلاته.

يقول ابن القيم (ت: 751هـ): " فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في كليات الأحكام - أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يشكون فيه اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله "(1).

فعلى القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي عليها أن ينظر نظرا خاصا في الحكم الذي حدده لتطبيقه على الواقعة، ولا يقطع نظره عن النظر في مآل الواقعة لو طبق عليها ذلك الحكم الكلي، بل عليه مراعاة مآل الواقعة، فإن ظهر له عدم المواءمة بين الحكم الكلي ومآله على الواقعة، أعاد النظر

(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية 4.

ص: 295

مرة أخرى في ملاقاة الحكم للواقعة، وطلب غيره مما يكون أقعد بمراعاة مآلها، أو أضاف على الحكم، أو حذف منه من القيود ما يحقق النظر في ذلك المآل طلبا أو منعا.

وإن رأى المواءمة بينهما طبقة على الواقعة وحكم وألزم، يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ "(1).

إن على القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأحكام الكلية المجردة على الوقائع أن يلحظ ظروف وأحوال وملابسات ومآلات الواقعة وآثارها، فيعمل على المواءمة بين مقتضيات الحكم الكلي مجردا وبين الواقعة لاحظا ما ذكرنا.

ومن صور ذلك أن الحكم إذا كان يؤدي في مآله إلى الفتنة والفساد على الدين أو الأمة فإن القاضي يتوقى ذلك المآل بالقيود الدافعة له زيادة أو نقصا، أو يعدل عنه إلى حكم آخر، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) في الرد على الذين أنكروا عليه الفتيا في

(1) الموافقات في أصول الشريعة 4/ 194.

ص: 296

بعض المسائل وقرروا حبسه إذا لم يمتنع عن ذلك: " إن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا الآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة، فيجب نقضه بالإجماع "(1).

ولا يعني النظر في المآلات عند الحكم والفتيا أن القاضي أو المفتي يعمل استحسانه العقلي مجردا من النصوص الشرعية وأصول الشريعة، فمن فعل ذلك فهو متشه قد رد الناس إلى هواه، وجعل طلب غير الشريعة مبتغاه، وكان آثما مأزورا غير مأجور (2)، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): " فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها "(3).

ويقول الجويني (ت: 478هـ): " من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة "(4).

والمعتد به في المآلات ما شهد له الشرع طلبا أو منعا

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/ 302.

(2)

كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 310.

(3)

منهاج السنة النبوية 5/ 130، مجموعة التوحيد - الرسالة الثانية عشرة 59.

(4)

غياث الأمم في التياث الظلم 220.

ص: 297

بنصوص الشريعة وأصولها حسب المسالك الشرعية (1).

(1) انظر مسالك النظر في المآلات في كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 311.

ص: 298

المطلب الثاني: الأصل الثاني: مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.

إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الحكم على الواقعة عليهما مراعاة مقاصد الشرع وحكمته، فالشرع له مقاصد في الأحكام، سواء كانت هذه المقاصد عامة أم خاصة أم جزئية، وإذا كانت معرفة مقاصد الشرع في مجال تفسير الأحكام الكلية من الأهمية بمكان، فإن معرفتها عند تنزيل الأحكام على الوقائع لا يقل أهمية عن ذلك، فهي تعين القاضي - وكذا المفتي - على تحديد وصف الواقعة ابتداء، كما ترجح بعضها على بعض عند تعدد الاحتمالات فيها، ذلك أن تنزيل الحكم الكلي على الأعيان والوقائع مشخصة يتطلب نظرا خاصا يراعى فيه خصوصية الواقعة بأحوالها وظروفها وملابساتها، ومقاصد الشريعة وحكمتها من وراء ذلك تحوطه وتوجهه، فتعين على معرفة قبول المحل للحكم الكلي، أو عدم قبوله لذلك (1).

يقول ابن القيم (ت: 751هـ): " الشريعة مبناها وأساسها

(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 318.

ص: 298

على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل " (1).

فالمنافع والمضار التي تبنى عليها مقاصد الشرع وحكمته إضافية، بمعنى أنها منافع أو مضار في حال دون حل ولشخص دون شخص، أو في وقت دون وقت، فمعرفة مقاصد الشرع وحكمته في الواقعة مما يرجح احتمالا على آخر في التفسير، وقولا على آخر عند الاختلاف، وهو مما يعين على تنزيل الحكم على الواقعة.

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/ 3.

ص: 299

المطلب الثالث: الأصل الثالث: مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.

إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الأحكام على الوقائع

ص: 299

لا بد لهما من النظر في خصوصيات الوقائع والأشخاص، وما بينهما من فروق مؤثرة وأوصاف مقررة.

فقد يكون للشخص المتقاضي من مدع أو مدعى عليه أو للواقعة المتنازع فيها أو لواقعة الفتوى خاصية تستدعي حكما لا يطبق على نظائرها؛ لوجود وصف مؤثر متعلق بالشخص أو الواقعة استدعى المغايرة في الحكم.

يدل على ذلك ما رواه سعيد بن سعد بن عبادة قال: «كان بين أبياتنا إنسان مخدج ضعيف لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها وكان ومسلما، فرفع شأنه سعد إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوه حده، قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إن ضربناه مائة قتلناه، قال: فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة وخلوا سبيله (1)» .

(1) أخرجه أحمد واللفظ له 5/ 222، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 313، كتاب الرجم، ذكر الاختلاف على يعقوب بن عبد الله بن الأشج فيه، وابن ماجه 2/ 859، كتاب الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد والبيهقي 8/ 230، كتاب الحدود، باب الضرير في خلقته لا من مرض يصيب الحد، والطبراني في الكبير 6/ 63، وفي النسائي طرق أخرى مرسلة عن أبي أمامة بن سهل، كما أخرجه أبو داود عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 4/ 161، قال ابن حجر في بلوغ المرام من أدلة الأحكام 214:" وإسناده حسن، ولكن اختلف في وصله وإرساله ".

ص: 300

ففي ضرب هذا الرجل بعثكال فيه مائة شمراخ بدلا من مائة سوط مفرقة مراعاة لضعفه؛ لأنه لا يطيق الجلد بالسوط مفرقا، كما يضرب غيره من الأصحاء؛ لقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1).

كما يدل على مراعاة خصوصيات الأشخاص والأعيان ما رواه أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم (2)» ، فقد خص النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه بهذا الحكم، وهو نهيه عن الإمارة ولو على اثنين، وعن ولايته على مال اليتيم؛ لأن أبا ذر رجل ضعيف لا يصلح للقيام بمثل هذه الأعمال، مع أن الأصل ترغيب عموم الناس في القيام بهذه الأعمال لحاجة الناس إليها، بل لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يرغب فيها، فقد رغب في الحكم والقضاء بين الناس في أحاديث متعددة، منها ما حدث به عبد الله بن مسعود - رضي

(1) سورة النور الآية 2

(2)

أخرجه مسلم 3/ 1457، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة.

ص: 301

الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها (1)» .

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب في كفالة اليتيم، ومن ذلك ما حدث به سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا (2)» .

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر عن تلك الولايات

(1) متفق عليه واللفظ لهما، فقد أخرجه البخاري 1/ 39، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، 2/ 510، كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، 4/ 1919، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن 6/ 2612، كتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، 6/ 2643، كتاب التمني، باب تمني القرآن والعلم، 6/ 2668، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله، 6/ 2737، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي فلان فعلت كما يفعل "، ومسلم 1/ 558، 559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعملها.

(2)

متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 5/ 2032، كتاب الطلاق، باب اللعان، 5/ 2237، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما ومسلم 4/ 2287، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم.

ص: 302

مع عظيم دينه وفضله؛ لما رأى به من الصفات التي لا تمكنه من القيام بها (1).

فمراعاة خصوصيات الوقائع والأشخاص أمر مقرر في القضاء والفتيا، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1258هـ): " القصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية ".

(1) الموافقات في أصول الشريعة 4/ 100، 101.

ص: 303

المطلب الرابع: الأصل الرابع: مراعاة الضرورات والحاجات.

المراد بالضرورة ومعنى مراعاتها عند تنزيل الحكم على الواقعة:

المراد بالضرورة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته هلاك أو ضرر شديد يلحق الضروريات الخمس من الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.

ص: 303

وسواء كانت الضرورة في الغذاء، أم الدواء، أم الانتفاع بمال الغير، أم القيام بالفعل تحت تأثير الإكراه، أم الدفاع عن النفس ونحوها، أم ترك الواجبات الشرعية المفروضة (1).

فكل ذلك حالات استثنائية تسوغ للمكلف ترك الأحكام الجزئية المقررة لعموم المكلفين نصا أو استباطا، ليدخل بحسب ما طرأ عليه في العمل بالأحكام الجزئية المقررة للضرورة.

فالمكلف ينتقل من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الوجوب أو الحرمة، أو من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب، أو إلى تأخير الواجب من أمر ونهي عن وقته ودفعا للضرورة في غالب ظنه (2).

والمكلف عند مراعاة الضرورة انتقل من مناط إلى مناط آخر، ولا يعد ذلك خرقا للتشريع ولا خروجا عن أحكام الشرع؛ لأن أصول الشريعة اقتضت له حكما قبل الضرورة، كما اقتضت له حكما آخر بعد الضرورة، وإنما معنى مراعاة الضرورة أنه إذا طرأت الضرورة انفردت من كليات جنسها، ولحقت بحكم جزئي خاص بها وما ماثلها، فالأحكام ثابتة قارة تتبع أسبابها حيث

(1) نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي 18بتصرف.

(2)

المرجع السابق.

ص: 304

كانت، والمكلف ينتقل من مناط إلى مناط، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال؛ لأن الحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات أعيان.

ويدل على أصل مشروعية الضرورة قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1)، فقد استثنى الله عز وجل ما اضطر إليه الإنسان من طعام، فأجاز أكله وإن كان لا يحل له حال الاختيار.

الحاجة تراعى كالضرورة:

المراد بالحاجة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته مشقة وحرج شديد خارج عن المعتاد في الضروريات الخمس، وإن لم يبلغ درجة الضرورة.

(1) سورة الأنعام الآية 119

ص: 305

وفرق بعض العلماء بين الحاجة والضرورة، فقال: إن الضرورة لا يستغنى عنها، والحاجة يمكن الاستغناء عنها (1).

والحاجة تراعى سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات أم في الجنايات، فما كان على تلك الصفة فهو ملحق بالضرورة؛ ولذا قال العلماء: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.

ومما يجدر التنبيه عليه أن أغلب الفقهاء يستعملون كثيرا مصطلح (الضرورة) مكان مصطلح (الحاجة)، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا ظهر المراد.

(1) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة 1/ 43.

ص: 306

المطلب الخامس: الأصل الخامس: مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.

هذا أصل عظيم عند تنزيل الأحكام على الأقضية الجنائية من

ص: 306

الحدود والقصاص.

المراد بدرء الحدود والقصاص بالشبهات:

هو دفع وإسقاط العقوبة الحدية أو القصاص لقيام الشبهة القوية (1).

الشبهة المؤثرة في درء الحدود والقصاص:

الشبهة المؤثرة في الدرء: هي الشبهة القوية المحتملة، لا مطلق الشبهة.

فالشبهة المؤثرة: هي التي تشبه الثابت وليس بثابت، أي: تشبه الحقيقة الثابتة بأن تكون قوية.

أو: هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته (2)، وذلك كمن وطأ امرأة أجنبية يظنها زوجته.

فقد وجد المبيح صورة في ظن الواطئ، وهو عقد الزوجية الذي هو سبب النكاح، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد.

ودرء الحدود بالشبهات مجمع عليه بين الفقهاء.

(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 351.

(2)

المغني 10/ 152، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي 1/ 209.

ص: 307

ومما تجدر الإشارة إليه أن التعزير لا يسقط بالشبهة، بل يثبت معها، لكن ثم مبدأ آخر يطبق على عقوبة التعزير، وهو أن العفو عن العقوبة مقدم على إثباتها، وذلك إذا قام مقتضيه، كأن تكون البينات غير كافية في إيجاب التعزير ونحو ذلك، فإنه لا عقوبة إلا بحجة (1)، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): " فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئا أو يخطئ فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين، أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا، فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ "(2).

القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود:

القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود، سواء كانت الشبهة في الفاعل كمن قتل قاتل مورثه وقد عفا أحد الورثة وهو لا يعلم بالعفو، فلا قصاص عليه، أم كانت الشبهة في المحل وذلك كأن يشهد الشهود على رجل بالقتل، ثم يرجعون عن ذلك فلا يقتص من المشهود عليه، أم كانت الشبهة باختلاف العلماء وذلك كأن

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/ 119.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 308.

ص: 308