الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثال ما كذب حسا: أن يدعي شخص بأن أباه قد قتل، وهو حي مشاهد.
ومثال ما كذب عرفا: أن يدعي بأنه قد استأجر السلطان لحمل حزمة بقل ونحوه.
ومثال ما كانت فيه الدعوى متناقضة مع أمر سبق صدوره من المدعي: أن يدعي على شخص بأنه قتل أباه منفردا، ثم يدعي على آخر بالمشاركة، فلا تسمع الدعوى الثانية، إلا أن يدعي غلطا ممكنا في الأولى، فتسمع الثانية.
المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية المراد به ووسيلته ومراحله المراد به:
هو تمحيص الوقائع القضائية المختلطة، وتخليصها من الأوصاف والوقائع الطردية التي لا مدخل لها ولا تأثير في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم فيها، وتعيين الوقائع والأوصاف المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة القضائية والحكم فيها (1).
(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 70.
فهو الاجتهاد في حذف بعض الوقائع والأوصاف من الوقائع القضائية المدعاة، والتي لا ثمرة في وجودها أو فقدها، وتعيين بعضها لتنزيل الحكم الكلي عليها والحكم القضائي.
وذلك بأن تكون بعض الأوصاف والوقائع لا دخل لها في تنزيل الحكم على الواقعة ولا الحكم فيها، فتحذف حتى تتعين الأوصاف والوقائع المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم القضائي، فينظر في إثباتها وتقريرها وتنزيل الحكم عليها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأوصاف والوقائع المؤثرة قد يسكت عنها الخصم، فيلزم القاضي الاستفسار عنها حتى تتم صورة الواقعة المؤثرة.
ومن جمع في دعواه بين ما يتعلق به الحكم فيها وبين ما لا يتعلق به ذلك، فلا يعتد بما لا يتعلق به الحكم، بل الاعتداد بما له تعلق بالحكم، فعلى القاضي الاجتهاد في تنقيح الواقعة حتى تكون بعد تنقيحها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر فيها سوى ما يتعلق به الحكم القضائي (1).
(1) تأسيس النظر 29.
وما قيل في تنقيح الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تنقيح الواقعة الفتوية.
وسيلته:
إن تنقيح الوقائع القضائية لإعمال مؤثرها وحذف وإلغاء طرديها بحيث تكون الواقعة المؤثرة بعد تنقيحها، وكأنه لم يرد فيها سوى الأوصاف والوقائع المؤثرة منقحة مرتبة مهذبة - له وسيلته وهي: التحليل، والمقابلة بين الحكم الكلي الفقهي وبين الوقائع القضائية المختلطة، فيحلل الحكم الكلي الفقهي إلى عناصره الأساس (المعرفات، والحكم)، وتجري مقابلتها بالوقائع القضائية المختلطة.
فيقوم القاضي بتحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة (1)، سواء كان نصا من الكتاب والسنة، أم كان من كلام أهل العلم، أم اجتهد القاضي في تقريره وتأصيله على نحو ما بينا سابقا في تقرير الحكم الكلي.
ومن المهم الرجوع إلى النص المقرر للحكم الكلي، والتحقق من الشروط المقتضية له من مظانه، وعدم الاعتماد على حفظ القاضي له؛ حتى لا يفوته شيء منه.
وبعد ذلك يقوم القاضي بتحليل معرفات الحكم الكلي الفقهي الموجودة في النص الشرعي، والتي تمثل فروض الحكم الكلي
(1) مزيل الملام عن حكام الأنام 114، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/ 602.
وعناصره التنظيرية الكلية؛ من السبب والشرط وعدم المانع، ومن ثم يعرض القاضي الواقعة القضائية على هذه الفروض والأوصاف والمعرفات الكلية وصفا وصفا، فما قابل منها المؤثر فهو مؤثر نعتد به، وما خلا من ذلك فهو الطردي الذي يحذف ويلغى (1)؛وما ذلك إلا لأن الحكم في الواقعة القضائية يتم على مثال الحكم الكلي الفقهي، ومنه يتعرف على الوقائع مؤثرها وطرديها، فعلى القاضي أن يحدد الحكم الكلي، ومن ثم إجراء المقابلة بينه وبين الواقعة المختلطة، فما قابل المؤثر فهو المعتد به، وما عداه فهو الطردي الذي يلغى ويهدر، مع لحظ ما في الوقائع من شروط وتقسيم يقتضيها الحكم الكلي الفقهي (2).
وهذه الوسيلة - أعني التحليل والمقابلة - كان فقهاؤنا يهدون إليها من رام إجابة لسائل في فتوى ونحوها، يقول الإمام الكرخي (ت: 340هـ): " إن السائل إذا سأل سؤالا ينبغي للمسئول ألا يجيب على الإطلاق والإرسال، لكن ينظر فيه ويتفكر؛ إنه ينقسم إلى قسم واحد، أو إلى قسمين، أو أقسام، ثم يقابل في كل قسم حرفا فحرفا، ثم يعدل جوابه على ما يخرج إليه السؤال، وهذا الأصل تكثر منفعته؛ لأنه إذا أطلق الكلام فربما كان سريع الانتقاض؛ لأن اللفظ
(1) انظر في طريقة التحليل والتركيب: ضوابط المعرفة 139.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 77.
قلما يجري على عمومه " (1).
وما قيل هنا عن الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على الواقعة الفتوية.
مراحله:
إن تنقيح الوقائع يتم في مرحلتين، هما: التنقيح الابتدائي، والتنقيح النهائي، ونبين ذلك فيما يلي:
أولا: التنقيح الابتدائي:
المراد به: تخليص الوقائع القضائية من الوقائع الطردية بإلغائها وإبقاء الوقائع المؤثرة في بداية الدعوى بعد استجواب الطرفين (2).
والغرض منه: تهيئة الواقعة للنظر في إثباتها بطرق الحكم.
وزمنه: بعد سماع الدعوى والإجابة.
إن الخصمين عند رفع دعواهما للقاضي تكون وقائعهما مختلطة غالبا، مشتملة على المؤثر والطردي من الوقائع، ولا يمكن القاضي السير في القضية إلا بعد تنقيح الوقائع المدعاة بإلغاء طرديها وإبقاء مؤثرها، فعلى القاضي القيام بهذا التنقيح بعد استجواب الطرفين، وتمييز ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، تهيئة للواقعة المؤثرة المختلف فيها للإثبات (3).
(1) رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية 172.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 81.
(3)
مزيل الملام عن حكام الأنام 113، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/ 570، 602.
يقول علي حيدر (ت: 1354هـ): " والقاضي يستمع أولا دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط اللازمة المقتضية "(1).
وفي التنقيح الابتدائي ربما نزلت الدعوى على حكم كلي، ونزلت الإجابة على حكم آخر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التنقيح الابتدائي قد يتغير عند التنقيح النهائي، فتضاف أوصاف مؤثرة، وتلغى أوصاف أخرى ظهرت طرديتها عند تنقيح الوقائع وتهيئتها للحكم.
فتنزيل الحكم على الواقعة ابتداء أشبه بفتوى تصدر من القاضي في هذا المحل، تهيئ الواقعة للإثبات، وللقاضي العدول عنها أو تعديلها عند تنزيل الحكم على الواقعة انتهاء (2).
ثانيا: التنقيح النهائي:
المراد به: تخليص الوقائع والبينات القضائية بإبقاء مؤثرها وإلغاء طرديها بعد ختام المرافعة.
والغرض منه: تهيئة الواقعة لتنزيل الحكم الكلي عليها والفصل فيها (3).
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/ 602.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 82.
(3)
المرجع السابق.
وزمنه: بعد ختام المرافعة بانتهاء استجواب الطرفين، وسماع دفوعهما وبيناتهما، والإعذار إليهما، أو تعجيزهما.
فالقاضي بعد فراغه من سماع المرافعة يكون لديه وقائع من أقوال الخصوم ودفوعهم، ومن البينات وما يتعلق بها، ولا يمكنه الحكم في الواقعة إلا بعد تهيئة وقائعها المؤثرة مهذبة مرتبة كأنه لم يذكر معها سواها (1)، ولا يكون ذلك إلا بالتنقيح.
وهذا التنقيح هو المعتد به عند الحكم القضائي، ويأتي على التنقيح الابتدائي بالتعديل والإكمال.
تنبيه:
تنقيح الواقعة الفتوية يتم على مرحلة واحدة فقط تعد نهائية في الفتوى؛ لأن الواقعة الفتوية لا تحتاج إلى الإثبات.
(1) البهجة في شرح التحفة 1/ 36، مزيل الملام عن حكام الأنام 115.