الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتاب " الصارم المنكي " يشهد للحافظ ابن عبد الهادي بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، ورسوخ القدم في علم الحديث والعلل، والقدرة على النقد، ودقة الملاحظة.
المبحث الأول: التفرد
.
المراد بالتفرد: أن يروي الراوي حديثا عن شيخه لا يعرف عنه إلا من جهته، ثم قد يكون التفرد مطلقا بحيث لا يحصل متابعة لأحد من رجال الإسناد، إلى أن يصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون نسبيا، بحيث يكون للحديث طرق أخرى
مشهورة، ووقع التفرد في أحد طرقه بالنسبة إلى شخص معين (1).
وقد اعتنى الأئمة النقاد بأمر التفرد والغرابة، وذلك أن تفرد الراوي - وإن كان ثقة - مظنة للوقوع في الخطأ والوهم، ووجود متابع للراوي يخفف من هذا الاحتمال.
وحرص الأئمة على النص على التفرد إذا وجدوه في الحديث، فيقولون بعد تخريجه أو عند الكلام عليه:" تفرد به فلان "، أو " أغرب به فلان "، أو " لم يروه عن فلان إلا فلان "، أو " حديث غريب "، أو " هذا الحديث غريب من هذا الوجه "، أو " لم يتابع عليه فلان "، أو " لم نره إلا من حديث فلان "، ونحو ذلك من الكلمات التي تدل على وجود التفرد والغرابة.
وفي أثناء رد ابن عبد الهادي على السبكي حيث احتج بحديث تفرد به أحد الرواة ممن اتهم بالكذب والوضع، تحدث ابن عبد الهادي رحمه الله عن التفرد وموقف الأئمة النقاد من التفرد فقال: " ومن المعلوم عند أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة
(1) نزهة النظر (ص: 56، 57)، فتح المغيث (1/ 253).
ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ: هو أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقته عن مالك عن نافع عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته، وضعف ما تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله، ونسخة مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة، رواها عنه أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه، ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بين سائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة " (1).
ويستفاد من كلام ابن عبد الهادي أن الأئمة النقاد يستنكرون ما يتفرد به الثقة، وهذا معلوم من عملهم، فلا يحصى ما استنكره النقاد مما يتفرد به الثقات.
(1) الصارم المنكي (ص: 119).
ويؤخذ من كلام الأئمة في التفرد أن هناك حالات يتأكد فيها إعلان الحديث بالتفرد منها:
1 -
أن يتفرد ثقة أو من في حكمه برواية الحديث عن أحد الأئمة من بين سائر أصحابه، وليس من المعروفين بالكثرة والإتقان لحديثه.
قال الإمام مسلم: " فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي
عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم " (1).
وهذا قريب مما أشار إليه ابن عبد الهادي، حيث ذكر أنه لو تفرد ثقة من بين سائر أصحاب مالك عنه لأنكره الحفاظ عليه، وقد أعل ابن عبد الهادي حديثا رواه نعيم المجمر عن أبي هريرة في الجهر بالبسملة، فقال رحمه الله:" فهو حديث معلول، فإن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثلاثمائة ما بين صاحب وتابع. . "، وقال أبو حاتم في حديث رواه إسماعيل بن رجاء:" أين كان الثوري وشعبة من هذا الحديث "(2)، ويقوي إعلال الحديث بالتفرد إذا كان الراوي المتفرد في حكم الراوي الثقة، ولكن ليس من الثقات المشهورين بالعدالة والضبط، وإن كان يشمله وصف العدالة والضبط، وقال أبو حاتم عن حديث رواه قران
(1) صحيح مسلم (1/ 7).
(2)
العلل لابن أبي حاتم (1/ 92).
بن تمام عن أيمن بن نابل. . . قال: " لم يرو هذا الحديث عن أيمن إلا قران، ولا أراه محفوظا، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث؟ ".
2 -
إذا ترجح لدى الناقد وقوع الوهم والخطأ في الإسناد الذي تفرد به الثفة، ويستدل على هذا بقرائن، مثل: النكارة في المتن، وأمور أخرى تصاحب التفرد.
قال ابن رجب: " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون
بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " (1).
ويستفاد من كلام ابن رجب أن الأئمة الحفاظ قد يستنكرون بعض تفرد الأئمة الكبار، وذلك - والله أعلم - إذا وجد ما يدعو إلى الاستنكار مثل نكارة المتن، ويؤخذ من كلامه أيضا أن قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط والإتقان يجبر ما يحصل من تفرد، ويدل على هذا قول مسلم:" وللزهري نحو من تسعين حديثا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد "(2).
3 -
أن يحصل التفرد في الطبقات المتأخرة بعد انتشار الراوية، وحرص الرواة ورغبتهم في تتبع المرويات وجمعها، والرحلة إلى البلدان لهذا الغرض، وقد أشار إلى هذا الذهبي، فقال بعد أن ذكر طبقات الحفاظ: " فهؤلاء الحفاظ الثقات، إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين أو ثلاثة ومن كان بعدهم، فأين ما ينفرد به؟ ما علمته، وقد يوجد. . . وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل
(1) شرح علل الترمذي (1/ 352).
(2)
صحيح مسلم (3/ 1268)، تدريب الراوي (1/ 234).