الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلي الفقهي، وهذا هو المطلوب.
وما قيل هنا ينطبق في الجملة على الوقائع الفتوية.
المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية
.
مدخل:
إن القاضي وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة يخطو خطوات متوالية من مرحلة إلى أخرى، حتى ينتهي إلى تنزيل الحكم على الواقعة وتقرير حكمها القضائي، كما يفعل الطبيب في فحص مريضه ووصف الدواء له، فهو يبدأ بفحص المريض، فيقوم بفحصه فحصا ابتدائيا بالاستماع إلى شكواه، والاستفسار عن أعراض مرضه، ثم فحصا سريريا بالفحص الحسي على المريض، وذلك بإرشاده إلى الجلوس على السرير ووضع الطبيب يده أو أصابعه على موضع الشكوى، أو أي مكان آخر من جسم الإنسان يساعد على تشخيصه، ونحو ذلك مما يساعد على كشف المرض سريريا، ثم إذا لم تجد هذه الطريقة في الكشف عن أعراض المرض، أو احتاج الطبيب إلى زيادة التثبت من الأعراض انتقل إلى الفحص التكميلي بواسطة الأجهزة والآلات الحديثة المتطورة، كالأشعة والمناظير الطبية
بأنواعها، والتحاليل للدم وغيره.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى تشخيص المرض، فيقوم بدراسة الفحوص التي أجراها، والتقارير التي أعدها المحللون؛ ليحدد ويقرر من خلالها تشخيص الداء مستعينا في ذلك بالمشاورة الطبية عند الاقتضاء.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى تقرير العلاج سواء كان دواء أم عملية جراحية، وهي مرحلة تبنى على ما سبقها، فإن كان التشخيص صحيحا صار العلاج ناجعا؛ لأن من عرف الداء سهل عليه معرفة الدواء (1).
وهكذا العمل القضائي في تنزيل الأحكام على الوقائع يمر بمراحل واحدة بعد الأخرى حتى الحكم في القضية، وقد أشار ابن خلدون (ت: 808هـ) إلى مراحل تنزيل الحكم على الواقعة القضائية، فهو يقول: " يتأنى - يعني: القاضي - على المدعي حتى يذكر ما عنده كله، ويتفهمه حتى يعلم قطعا مراده، ثم يسأل المدعى عليه رافقا به متأنيا عليه حتى يذكر جميع ما عنده، ويتفهمه جهده، ثم يستجلي الحال منهما ومن العالم بواقعتهما بأحسن استجلاء، وبأشد إيضاح، إذا تصور الواقعة، كالشمس ليس دونها سحاب، فليميز بين ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، فإذا وضحت القصة جيدا، فليستحضر حكم تلك الواقعة لا برأي
(1) التداوي والمسئولية الطبية في الشريعة الإسلامية 51 - 87.
واستحسان، بل بالنقل الصريح، أو بذل الجهد في درك الحق من أهل الاجتهاد وبطرقه المعتبرة، ثم ينقح الواقعة بأخذ ما يتعين اعتباره وإلغاء ما لا مدخل له في الحكم بحذف، ثم يطبق الحكم العدل على ما ينقح له، فإذا وضح أنه طبقه سواء كرر النظر والتأمل والتفحص حتى يتبين ذلك كالشمس المضيئة، فإذا لم تبق مرية ألبتة، حكم وألزم " (1).
فتنزيل الحكم على الواقعة القضائية يمر بخمس مراحل (2)، هي:
1 -
سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
2 -
تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداء.
3 -
إثبات الوقائع المنقحة ابتداء.
4 -
دراسة الوقائع من دعاوى وبينات، وتنقيحها، وتنزيل الحكم عليها انتهاء.
5 -
فحص تنزيل الحكم على الواقعة.
وهذا بيان موجز لهذه المراحل.
المرحلة الأولى: سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
والمراد بالوقائع هنا: الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين.
وهي أولى خطوات تنزيل الحكم على الواقعة؛ لأنها مادته
(1) مزيل الملام عن حكام الأنام 111 - 118.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 498.
الأولى ومجاله الذي يعمل فيه، وهي التي توجب تحرك الحكم الكلي الفقهي لملاقاتها، ولا يمكن للقاضي تحقيق تنزيل الحكم على الواقعة إذا تجاوز هذه المرحلة؛ لأن تنزيل الحكم لا يستنبت في فراغ، بل في وقائع مقدمة للقاضي.
وتقديم الوقائع يقع على عاتق الخصوم، وإذا سكتوا عن شيء من الأوصاف المؤثرة استفسر القاضي منهم عنها.
وعلى الخصم في هذه المرحلة أن يلحظ تحديد طلبه في الدعوى؛ لأنه لا تصح الدعوى إلا به.
إن الخصوم يقدمون للقاضي الوقائع، ويحددون الطلبات، وهو يقدم لهم الحكم الكلي الفقهي الذي يجري تنزيله على الوقائع.
المرحلة الثانية: تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداء:
إن الخصوم بعد أن يفرغوا من تقديم الوقائع من الدعوى، والإجابة، والدفوع، والطلبات يقوم القاضي بتنقيحها، وتنزيل الأحكام الإجرائية عليها من ناحية الاختصاص، وصحة الدعوى، وإكمال نقصها، وصحة الجواب، ودفع الخصومة، فإذا تحقق من صحة السير في الدعوى، بدأ في تنقيحها وتنزيل الحكم عليها موضوعيا، فاستبعد الوقائع الطردية، وأبقى الوقائع المؤثرة، وحدد وصف المتنازع فيه على ضوء الدعوى والدفوع والطلبات: هل هو خيار عيب، أو خيار شرط، أو جعالة، أو إجارة؟ ونحو ذلك؛ ليهيئ
الواقعة بذلك لمرحلة الإثبات وما يتلوها، يقول علي حيدر (ت: 1354هـ): " والقاضي يستمع أولا دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط المقتضية "(1)، فعلى القاضي تحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة ابتداء قبل النظر في ثبوتها، ثم ينزله على الواقعة، وهذا يستدعي مقابلة الواقعة بالحكم الكلي وصفا وصفا، فما قابل الوصف المؤثر فهو الذي يعتد به، وما عداه فهو الطردي، فيثبت مؤثرها ويستبعد طرديها سواء كان طرديا مطلقا أم طرديا في موضع النزاع، وذلك تهيئة للمرحلة التالية.
المرحلة الثالثة: إثبات الوقائع المنقحة ابتداء:
بعد تنقيح الوقائع وإبقاء مؤثرها ينتقل القاضي إلى إثباتها، وعليه قبل التوجه إلى النظر في إثبات الوقائع المؤثرة أن يحدد إجرائيا من المدعي الذي يتوجه عليه الإثبات، ومن المدعى عليه الذي تتوجه عليه اليمين، ثم بعد ذلك على القاضي أن يميز ما اتفق عليه الخصمان من الوقائع المؤثرة المنقحة وما اختلفا فيه، ويوجه الإثبات إلى ما اختلفا فيه من الوقائع الأصلية أو التبعية الجائز إثباتها، وبعد الفراغ من إثبات الوقائع بطرق الحكم المقررة، وإجراء ما يلزم لذلك من الإعذار، والتزكية والتعجيز، ثم ينتقل القاضي إلى المرحلة التالية.
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/ 602.
المرحلة الرابعة: دراسة الوقائع والبينات وتنقيحها وتنزيل الحكم عليها انتهاء:
بعد فراغ القاضي من المرحلة السابقة عليه أن يدرس بعناية وتأمل ما قدمه الخصوم من دعوى، وإجابة، ودفوع، وطلبات، وبينات، وأن يتأمل ذلك ويفهمه جيدا، ويستخلص من الوقائع من دعوى، وإجابة، ودفوع، ومن البينات، وطرق الحكم ثبوت الوقائع المؤثرة في الحكم، وينقحها، ويهيئها لتنزيل الحكم عليها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر معها سواها مستعينا في ذلك بتحديد الحكم الكلي الفقهي، وطرق تفسير الوقائع والأحكام الكلية، وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، مراعيا الطلبات في الدعوى وانعدام الموانع، حتى إذا تنقحت له الواقعة وهيأها وحدد حكمها الكلي الفقهي، أجرى المطابقة بينهما بواسطة القياس القضائي، فإذا تحقق عنده اجتماع الوقائع مع الحكم الكلي الفقهي في حدهما الأوسط - وهي الأوصاف المشتركة المؤثرة في الحكم - قرر مطابقة الوقائع القضائية للحكم الكلي الفقهي، وهي النتيجة المطلوبة.
إن مناط تنزيل الحكم على الواقعة ابتداء هو الدعوى، والإجابة وطلبات الخصوم، أما في تنزيل الحكم على الواقعة نهائيا فالمناط فيه: ما يثبت لدى القاضي من الوقائع والأوصاف المؤثرة، وما يستنبطه من الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين وبيناتهم مراعى