الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية
.
المراد بتفسير الواقعة القضائية:
المراد بلفظ (التفسير) في اللغة: الكشف، والبيان، والإيضاح (1).
والمراد بتفسير الواقعة القضائية هنا: بيان معاني ودلالات الأقوال والأفعال، والسكوت والأحوال الواقعة في التصرفات، والواردة في الدعوى والإجابة، وطرق الحكم والإثبات من الشهادة ونحوها من الأوصاف والوقائع المؤثرة في الحكم القضائي (2).
أهمية تفسير الواقعة القضائية ومشروعيته:
لا بد لكل واقعة قضائية من تصورها، وتنقيحها، وبيان تأثيرها، وثبوتها بطرق الحكم، وبيان وجه الدلالة منها وانتفاء معارضها، وكل ذلك لا يتحقق إلا بعد تفسيرها، وفهمهما بالطرق المقررة (3).
وما ذلك إلا لأنه كما يقول القرطبي (ت 671هـ): " الأحكام تختلف باختلاف العبارات، والدعاوى، والإقرارات، والشهادات، والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له "(4).
(1) مقاييس اللغة 5/ 504، مختار الصحاح 503، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2/ 472.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 141.
(3)
فتاوى السبكي 2/ 122، 123، شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا 1/ 59.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 15/ 180.
والمكلف وهو يتكلم بأمر أو نهي أو إقرار أو عقد، قد يطلق الكلام ولا يقيده أو يفسره، بل إن تفييده أحيانا يعد إعياء في الكلام، فيتعين على من ينفذ كلامه أو يحاكمه فيه أن يحمله على وجوه تفسير الكلام المقررة، يقول ابن مفلح (ت: 763هـ): " ومن قصد بيان تعليق الحكم بالوصف، رتبه عليه، ولم يتعرض لجميع شروطه وموانعه (1)؛ لأنه عسر؛ إذ القصد بيان اقتضاء السبب للحكم، فلو قال: اعط هذا للفقراء أو نحوهم، استأذنه في عدوه وفاسق، ولو قال: إلا أن يكون أحدهم كذا وكذا، عد لكنه وعيا، وكذا قول الطبيب: اشربه للإسهال، فعرض له ضعف شديد أو إسهال. . . ذكر ذلك شيخنا (يعني ابن تيمية)(2).
ففهم الواقعة وتفسيرها أمر لا بد منه للحكم القضائي، وقد أثنى الله عز وجل على سليمان عليه السلام لفهمه الواقعة ووجه الحكم فيها، كما في قوله تعالى:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (3){فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (4).
فثناء الله عز وجل على سليمان عليه السلام
(1) في الأصل: " ومواثقه "، والتصويب اقتضاه السياق.
(2)
الفروع 4/ 376.
(3)
سورة الأنبياء الآية 78
(4)
سورة الأنبياء الآية 79
لفهمه الواقعة ووجهه الحكم فيها (1) يؤكد أهمية تفسير الواقعة وتصورها للحكم فيها.
كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد رضي الله عنه قتله لبعض بني جذيمة؛ لعدم استفساره لهم عن مرادهم من كلمة مشكلة أطلقوها، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال:«بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. . . حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، مرتين (2)» فقد حمل خالد رضي الله عنه معنى قولهم: " صبأنا " على خروجهم من دين إلى دين غير الإسلام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه الأخذ بهذا الظاهر قبل الاستفسار عن المراد به (3)، قال ابن حجر (ت: 852 هـ): قوله: «اللهم إني
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3/ 270، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1/ 2.
(2)
أخرجه البخاري 4/ 1577، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، 6/ 2628، كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 56، 13/ 181.
أبرأ إليك مما صنع خالد (1)» يعني من قتله الذين قالوا: " صبأنا " قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول "، فدل على أنه لا بد من تفسير الواقعة وفهمها قبل الحكم فيها.
وقد أوصى عمر رضي الله عنه القضاة بفهم الواقعة وتفسيرها في كتابه الذي بعثه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: " فافهم إذا أدلى إليك "، وقال: " الفهم الفهم
(1) صحيح البخاري المغازي (4339)، سنن النسائي آداب القضاة (5405)، مسند أحمد (2/ 151).
فيما يختلج في صدرك " (1).
فلا بد لفهم الواقعة وتصورها من تفسيرها، فالمطلوب من الحاكم كما يقول ابن القيم (ت: 751 هـ): " أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب "(2).
وقد ذكر الفقهاء جملة من الآداب للقاضي تعود لفهم الواقعة وتصورها وتفسيرها، من ذلك: كون القاضي عارفا بلغة ولهجات البلد التي يلي الحكم فيها (3)، يقول ابن المناصف (ت: 620هـ) في شروط الكمال في القاضي: " أن يكون عارفا بما لا بد منه من
(1) سبق تخريجه.
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 105.
(3)
دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 3/ 468، المجموع شرح المذهب 1/ 82.
العربية، واختلاف المعاني للعبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في نحو الإقرار والدعوى والشهادات. . " (1).
الوسائل الدالة على الإرادة:
القصد والإرادة عماد التصرفات والالتزامات التي يجريها المكلف، ولكن القصد والإرادة مكنونة لا تظهر بنفسها، بل لا بد لها من وسيلة تبرزها وتدل عليها، والوسائل الدالة على الإرادة ثلاث، هي: اللفظ، والفعل، والسكوت.
فهذه هي الوسائل الدالة على الإرادة، وما عداها فهو يعود لها، فالكتابة تعود للفظ، والإشارة تعود للفعل (2).
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): " فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها "(3).
الأصل في تفسير لفظ المكلف:
الأصل أن ما يجري على تفسير النصوص الشرعية من أصول
(1) تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام 34.
(2)
السكوت ودلالته على الأحكام الشرعية 251.
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 218، وانظر في المعنى نفسه: أحكام أهل الذمة 1/ 308.
وقواعد يجري في الجملة على تفسير كلام المكلف في تصرفاته، وإقراراته، ودعاواه، ودفوعه، وبيناته، ففيها الواضح من نص وظاهر، وفيها المجمل الذي يلزم تفسيره وبيانه بطرقه المقررة، وفيها المؤول الذي يصرف عن ظاهره بدليل راج، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته منطوق، ومفهوم موافقة أو مخالفة، وفيها ما يقع فيه التعارض.
وللقرائن الحالية والمقالية والأعراف في الدلالة على الكلام وغيرها أثر كبير في تفسير الوقائع ودفع التعارض. (1).
وثم اختلاف في بعض ذلك بين دلالتها في نصوص الشرع وكلام المكلفين استدعاه أن كلام الشارع نحتاج إلى تعديته من واقعة منصوص عليها إلى غيرها لتقرير حكمها.
أما كلام المكلف فإنما جعل للكشف عن إرادته وتصرفاته، ولا يستدعي الأمر تعديته، بل الأصل قصره، والاحتياط للمكلف بعدم إلزامه بدلالة لم يظهر ما يدل على التزامه بها، قال المارودي (ت: 450هـ): " أحكام الشرع يجمع فيها بين اعتبار الأسامي والمعاني، وأحكام الإيمان معتبرة بالأسامي دون المعاني؛ لأن الضرورة دعت في المسكوت عنه في أحكام الشرع إلى اعتبار المعاني وتجاوز الأسامي، ولم تدع الضرورة في الأيمان إلى اعتبار
(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 152.