الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا القول: أن هذه القاعدة ليست مطردة، فمن ذكر في حقه أنه لا يروي إلا عن ثقة وجد روايته عن الضعفاء، وقد بين الحافظ ابن عبد الهادي نفسه أن هذا محمول على الغالب، كما سيأتي.
ولعل الراجح في قبول المرسل أنه بحسب الاعتضاد، فإذا جاء من وجه آخر ودلت القرائن على أن له أصلا، ترجح قبول، وقد تقدم ما نقل عن الشافعي من التفصيل في ذلك.
قال الحافظ ابن رجب: " واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلا، وهو ليس بصحيح على طريقهم؛ لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث، فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلا، قوي الظن بصحة ما دل عليه، فاحتج به مع ما احتف به من القرائن. (1).
(1) شرح علل الترمذي (1/ 297).
المبحث الثالث: تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد
.
من المتقرر لدى أئمة الحديث أن الحديث يتقوى بتعدد طرقه؛ ولذلك كان الأئمة يكتبون أحاديث الراوي للاعتبار بها.
قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: " إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه؛ فمنه ما أتدين به، ومنه ما أعتبر به، ومنه
ما أكتبه لأعرفه " (1).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: " ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرا مما أعتبر به ويقوي بعضه بعضا "(2).
وقال أيضا: حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم (3)» ، و «لا نكاح إلا بولي (4)» يشد بعضها بعضا، وأنا أذهب إليها ".
وقال الإمام الترمذي رحمه الله في تعريفه للحديث الحسن: " كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك "(5).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا، حتى قد يحصل العلم بها "(6).
وقال الحافظ ابن حجر: " إن كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة "(7).
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 193)، الكفاية ص (402).
(2)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 193)، شرح علل الترمذي (1/ 138).
(3)
سنن الترمذي الصوم (774)، سنن أبي داود الصوم (2371)، سنن ابن ماجه الصيام (1680)، مسند أحمد (5/ 277)، سنن الدارمي الصوم (1731).
(4)
سنن الترمذي النكاح (1101)، سنن أبي داود النكاح (2085)، سنن ابن ماجه النكاح (1881)، مسند أحمد (4/ 418)، سنن الدارمي النكاح (2183).
(5)
خاتمة الجامع (5/ 757).
(6)
مجموع الفتاوى (18/ 26).
(7)
القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد (ص: 89).
واعتنى أئمة الحديث بمبحث المتابعات والشواهد، وقد عقد له ابن الصلاح بابا سماه:" معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد "، وبين الأئمة في هذا الباب ما يصلح للاعتضاد والتقوية، وما يصلح ولا يقبل.
قال ابن الصلاح: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا (1).
وقال الحافظ ابن حجر: " ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر، كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور والإسناد المرسل، وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه:
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 34).
صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابع والمتابع؛ لأن كل واحد منهم احتمال أن تكون روايته صوابا أو غير صواب على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم، رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول " (1).
وقد بين الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله بعبارات موجزة ما يصلح من الطرق للتقوية، فقال وهو يضعف حديثا أورد له السبكي طرقا ضعيفة وواهية لا تصلح لتقويته قال:" وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض وهو موضوع عند أهل هذا الباب، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها، والحاصل أن ما سلكه المعترض من جميع الطرق في هذا الشأن وتصحيح بعضها واعتماده عليه، وجعل بعضها شاهدا لبعض ومتابعا له، هو مما تبين خطؤه فيه "(2).
وقال أيضا: " وكم من حديث كثرت طرقه وهو حديث ضعيف، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفا. . . "(3).
(1) نزهة النظر (ص: 105).
(2)
الصارم المنكي (ص: 243).
(3)
ينظر: نصب الراية (1/ 360)، تنقيح التحقيق (2/ 831).
ويستفاد من كلام الحافظ ابن عبد الهادي أن العبرة ليست بكثرة الطرق وتعددها، ولكن العبرة بكونها محفوظة سالمة من العلل القادحة والوهم والخطأ، وعلى هذا فيتعين عند النظر في الطرق تمحيصها والتدقيق فيها، والتأكد من سلامتها من النكارة والعلل القادحة قبل الاعتداد بها والاستفادة منها في تقوية الأحاديث.
قال الإمام أحمد: " الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبدا منكر "(1)، ومراد الإمام أحمد - والله وأعلم - أن المنكر لا يعتبر به، ولا يحتاج إليه في باب الاعتضاد وشد الطرق؛ لعدم صلاحيته لذلك، ولا يستأنس به في مجال الاستدلال، وقد عرف عن الإمام أحمد الأخذ بالحديث الضعيف إذا لم يوجد في الباب ما يدفعه، قال رحمه الله:" طريقتي: لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب ما يدفعه "(2).
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: ربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء، فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه ".
(1) علل الحديث ومعرفة الرجال (ص: 120).
(2)
خصائص المسند لأبي موسى المديني ص (27).
ولم يصحح الأئمة حديث: «الأعمال بالنيات (1)» . . . " إلا من طريق واحدة، وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة ولم يقووا الحديث بها، مع أن بعض الأسانيد أخطأ فيها من هو صدوق في الحفظ، وليس ضعيفا.
قال البزار: " لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد، ولا عن محمد إلا من حديث يحيى "(2).
قال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر أن هذا الحديث مما تفرد به يحيى بن سعيد وكل من فوقه - قال: " وقد وردت لهم متابعات لا يعتبر بها؛ لضعفها "(3).
ومثل حديث: «الأعمال بالنيات (4)» . . . حديث: «النهي عن بيع الولاء وهبته (5)» ، وحديث:"المغفر"، فقد وردت لهما طرق
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الأيمان والنذور (3794)، سنن أبي داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد (1/ 43).
(2)
تدريب الراوي 1/ 238، وينظر: مسند البزار 1/ 381، 382.
(3)
نزهة النظر ص 49.
(4)
صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الأيمان والنذور (3794)، سنن أبي داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد (1/ 43).
(5)
حديث: النهي عن بيع الولاء وعن هبته أخرجه البخاري ح 2535، ومسلم ح 1506، من حديث ابن عمر، وتفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال الترمذي:" تفرد عبد الله بن دينار بهذا الحديث " ينظر: الجامع 4/ 5، علل الترمذي 1/ 415، وقال مسلم:" الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث " صحيح مسلم 2/ 1145.
لم يعتد بها الأئمة؛ لكونها غير محفظة، ولم تخرجهما عن الغرابة والتفرد.
- ومثال ذلك أيضا حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشين (1)» . . . .
(1) سنن النسائي العقيقة (4219)، سنن أبي داود الضحايا (2841).
جاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم: " سألت أبي عن حديث رواه عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشين (1)». قال أبي: هذا وهم حدثنا أبو معمر عن عبد الوارث هكذا، ورواه وهيب وابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . مرسل، قال أبي: وهذا مرسل أصح. سألت أبي عن حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس قال: «عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين بكبشين». قال أبي: أخطأ جرير في هذا الحديث، إنما هو: قتادة عن عكرمة قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . مرسل "(2).
فأبو حاتم رجح إرسال الحديث، وحكم على وصله بأنه وهم، ثم حكم على حديث أنس بأنه خطأ، فعلى هذا لا يعتد بالطريق المحكوم عليه بالوهم، ولا بالشاهد المحكوم عليه بالخطأ، والله أعلم.
والحاصل أن تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد لها ضوابط من أبرزها: التأكد من كونها محفوظة سالمة من الخطأ والوهم؛ إذ إن
(1) سنن النسائي العقيقة (4219)، سنن أبي داود الضحايا (2841).
(2)
العلل لابن حاتم 2/ 49، 50.
تعدد الطرق من راو قد يكون بسبب اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه، وقد تكون الطرق الكثيرة ترجع إلى طريق واحد، وما يظن أنه شاهد يكون خطأ من بعض الرواة، والتساهل في هذا أدى إلى ضعف نقد السنة عند بعض العلماء المتأخرين والباحثين المعاصرين، وحصل في أحكامهم على الأحاديث مخالفة للأئمة المتقدمين، وربما اعترضوا على الأئمة في تضعيفهم لبعض الأحاديث، ونازعوهم بوجود شواهد ومتابعات للحديث، وكأن الأئمة لم يطلعوا عليها، ولم تطرق أسماعهم، وقد ينفي بعض الأئمة في باب من أبواب العلم وجود حديث فيه، أو يقيد النفي بالصحة، فتنهال عليهم الإيرادات والاستدراكات بوجود أحاديث صحيحة لها طرق متعددة أو لها شواهد، كأن الأئمة لم يطلعوا عليها، وكان الأجدر قبل الاستدراك النظر في هذه الطرق والشواهد، وهل هي صالحة للاعتبار بها أم لا، لا سيما وقد يكون الاعتماد في جمع الطرق والشواهد على كتب ومصنفات هي مجمع الغرائب والمناكير، مثل: معاجم الطبراني، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وكتب الفوائد والأفراد والغرائب، قال الإمام أحمد: " إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: لا شيء،