الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول ابن القيم - مبينا عاقبة الغلط في فهم حدود كلام الله ورسوله -: " فإنه يتضمن محذورين:
أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه.
والثاني: أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكما غير حكمه، فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الاسم الذي سماه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمى، وأعطاه حكما آخر " (1).
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 5/ 747، 748.
المبحث الثاني: الواقعة القضائية
، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية وأقسامها
.
سبق بيان المراد بالواقعة القضائية، وأنها الحادثة التي يقع فيها التنازع لدى القاضي تقتضي فصلا بحكم ملزم، أو صلح عن تراض (1).
والواقعة القضائية أخص من الواقعة الفتوية؛ لأن القاضي ينظر فيما ينظر فيه المفتي من الأمور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه الواقعة من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها ويعمل مؤثرها، ويزيد القاضي على ذلك بأنه ينظر في ثبوت أسباب الواقعة وما يعارضها، والإلزام بها، ويظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي.
(1) انظر التمهيد لهذا البحث.
يقول السبكي (ت: 756هـ) في الفرق بين الفقيه والمفتي والقاضي -: ". . . فنظره - أي: القاضي - أوسع من نظر المفتي، ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه، وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعا.
إذا علمت هذا فالفقه عمومه شريف نافع نفعا كليا، وهو قوام الدين والدنيا، والفتوى خصوص فيها ذلك العموم وتنزيل الكلي على الجزئي من غير إلزام، والحكم خصوص ذلك الخصوص فيها وزيادتان؛ إحداهما: النظر في الحجج، والأخرى: الإلزام " (1).
أهمية الواقعة القضائية:
سبق أن بينا الحكم الشرعي الكلي، وأنه مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا، أو صحة وبطلانا، وبينا أن له سمتين هما: العموم والتجريد (2)، لكن الحكم الكلي الفقهي بهذه الصفة يبقي نظريا ساكنا منزلا في الأذهان، حتى إذا لامسته الواقعة القضائية، حركته من سكونه وشخصته، فصار منزلا على الأعيان والأشخاص، فالواقعة القضائية هي المحل الذي يعمل فيه الحكم الكلي، ومن هنا تأتي أهمية الواقعة القضائية، فهي التي تحرك الحكم الكلي الفقهي لتنزيله عليها (3).
(1) فتاوى السبكي 2/ 123، وانظر: شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا 1/ 59.
(2)
انظر: المبحث الأول من هذا البحث.
(3)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 1/ 43.
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): " الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات، فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتي أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو بعضها.
مثال ذلك: إذا تنازع عنده اثنان في رد سلعة مشتراة بعيب، فحكمه موقوف على العلم بالدليل الشرعي الذي يسلط المشتري على الرد (1)، وهو إجماع الأمة المستند إلى حديث المصراة وغيره، وعلى العلم بالسبب المثبت بحكم الشارع في هذا البيع المعين (2)، وهو كون هذا الوصف عيبا يسلط الرد أم ليس بعيب، وهذا لا يتوقف العلم به على الشرع، بل على الحس، أو العادة، أو الخبر، ونحو
(1) والمراد به: الحكم الكلي الفقهي.
(2)
المراد به: أدلة معرفات الحكم، وهي المعروفة بأدلة وقوع الأحكام.
ذلك، وعلى البينة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين. . . " (1).
وبهذا يتبين بأن الواقعة القضائية هي التي تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده؛ لينزل على الوقائع فيشخصها، وتدب فيه الحركة بعد السكون؛ ذلك أن القاضي إنما يحكم ويلزم في الوقائع المعينة (2)، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): " وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية "(3).
فالأحكام الكلية إنما شرعت لتنزل على الوقائع المعينة، لا لتبقى علما مطلقا لا حقيقة له ولا واقع، يقول الشاطبي (ت: 790هـ): ". . . الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون "(4)، ويقول في موضع آخر:" ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد (5)، لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن "(6).
وكذا الفتوى تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده لينزل على الوقائع، فيشخصها وتدب فيه الحركة بعد السكون، فهي محل للحكم.
(1) بدائع الفوائد 4/ 12.
(2)
كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 47.
(3)
منهاج السنة النبوية 5/ 132.
(4)
الموافقات في أصول الشريعة 3/ 44.
(5)
يعنى: تحقيق المناط بتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية.
(6)
الموافقات في أصول الشريعة 4/ 93.
ولا بد لكل حكم قضائي من مقدمتين؛ إحداهما: الحكم الكلي، والأخرى: الواقعة القضائية، فالثانية محل الحكم، والأولى حاكمة عليه، وهكذا الفتوى.
أقسام الواقعة القضائية من جهة التأثير وعدمه:
تنقسم الواقعة من هذه الجهة ثلاثة أقسام، هي:
1 -
الواقعة المختلطة:
والمراد بها: ما يقدمه الخصم مدعيا أو مدعى عليه للقاضي عند المخاصمة من دعوى وإجابة ودفوع مشتملة على وقائع طردية ومؤثرة (1).
فإذا قدمت هذه الوقائع كان على القاضي تنقيحها بإبقاء مؤثرها، وحذف طرديها.
2 -
الواقعة المؤثرة:
والمراد بها: ما شهد له الشرع بالاعتبار والتأثير في الحكم
(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 50.
القضائي من أقوال الخصوم، ودفوعهم الواردة في الدعوى والمتعلقة بها (1).
فإن الدعوى يرد فيها وقائع كثيرة سواء في الدعوى والإجابة، أم الدفوع والمباحثات بين الخصمين، أو من أحدهما، أو كليهما مع القاضي، فما كان له تأثير في الحكم القضائي فهو المراد بالواقعة المؤثرة.
ومن الوقائع المؤثرة ما هو مؤكد لا مؤسس، كاشتراط تسليم المبيع، والرد بالعيب، وسائر شروط مقتضى العقد (2).
ومنها ما تأثيره مباشر، وذلك كأن يدعي رجل أنه اشترى من زيد داره، ويطلب تسليم الدار له، وينكر زيد هذا العقد، فهنا الواقعة المؤثرة هي شراء المدعي الدار، فينصب الإثبات عليها عند الإنكار، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة الأصلية.
كما أن من الوقائع المؤثرة ما يكون تأثيره غير مباشر، وهي الواقعة التي يكون ثبوتها موصلا إلى ثبوت الواقعة مباشرة، وذلك هو شأن القرائن، كحيازة المشتري العين - أي وضع يده عليها - مدة دالة على حيازة الملاك أملاكهم، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة التبعية.
(1) المرجع السابق.
(2)
انظر في شروط مقتضى العقد: الروض المربع شرح زاد المستقنع 4/ 392، 393.
3 -
الواقعة الطردية:
والمراد بها: ما دل الشرع بأن لا مدخل ولا تأثير لها في الحكم القضائي من أقوال الخصم ودفوعه الواردة في الدعوى والإجابة، فهي الوقائع والأوصاف التي لا ثمرة من وجودها أو فقدها (1).
فالخصم يذكر أمورا وحوادث في الدعوى والإجابة، ونجد أن بعضا منها لا مدخل ولا تأثير له في الحكم أصالة أو تبعية، فهذا هو المراد بالواقعة الطردية.
والوقائع الطردية منها ما هو طردي مطلقا لا تأثير له في الحكم القضائي، كالأمور التي لا تدخلها الأحكام من العبادات صحة وفسادا، ومسائل العلم الكلية، ومسائل العقيدة؛ كالرؤية، والفضائل، والمندوبات، والمكروهات، فهذه وقائع طردية مطلقا لا يدخلها الحكم القضائي ألبتة.
ومثل ما يذكره الخصم في دعواه أو إجابته ودفوعه من كون الخصم أثناء التعاقد كان يشرب القهوة، أو يلبس ثوبا أبيض، ونحو ذلك من الهيئات والأحوال التي الأصل عدم تأثيرها في الحكم.
(1) كتابنا: " توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية " 2/ 51.