المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفحة من تاريخ خليج فارس - مجلة لغة العرب العراقية - جـ ٣

[أنستاس الكرملي]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 25

- ‌سنتنا الثالثة

- ‌صفحة من تاريخ خليج فارس

- ‌الراديوم

- ‌زكاة النصح

- ‌عصام الدين العمري

- ‌رحلة إلى شفاثا

- ‌نظرة في الاحساء

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 26

- ‌البصرة وأنهارها

- ‌بيت علم في العراق

- ‌نقد الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية

- ‌رجال السفينة العراقية

- ‌إقامة أتون طاباق عمومي

- ‌سورة الخيل

- ‌مشارفة سد الهندية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 27

- ‌كدرُلعومَر في أقاصيص العرب

- ‌الطريق من الاحساء إلى الرياض إلى مكة

- ‌أسماء الأرياح عند أهل السفن العراقية

- ‌البصرة وأنهارها

- ‌الكلكسة

- ‌تطواف في جوار بغداد والمدائن

- ‌نصرانية غسان

- ‌الفكر سياح

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌ألفاظ عوام العراق

- ‌مريم

- ‌العدد 28

- ‌الجرامقة

- ‌الشيخ عثمان بن سند البصري

- ‌الشيخ السكير

- ‌تصرف العرب في الألفاظ الأعجمية

- ‌رؤية أدبية

- ‌ألم تر أن الدهر يكتب ما تملي

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 29

- ‌جزيرة العرب

- ‌لغة العرب

- ‌الكرد الحاليون

- ‌خلد أثراً

- ‌أفعال تتعلق بأهل السفن

- ‌أسرة بدروس آغا كركجي باشي

- ‌كتاب الولاة وكتاب القضاة للكندي المصري

- ‌سياحة في النوم

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارقة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 30

- ‌سياسة لا حماسة

- ‌المدائن أو طاق كسرى أو سلمان باك

- ‌أيها العربي

- ‌أمراء السعود في جزيرة العرب

- ‌الشيب والشباب

- ‌مستقبل قضاء الحلة

- ‌الحياة خيال

- ‌الأكراد الحاليون

- ‌حكم

- ‌الهيلاج ومعانيها

- ‌بحر النجف

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌الحالة العلمية والحركة الفكرية في النجف

- ‌لا همز في كلامهم

- ‌الدول

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 31

- ‌كتب تواريخ بغداد

- ‌على الأرض وفي السماء

- ‌أقسام إمارة السعود

- ‌الأدب خير نسب

- ‌أربع أسر بلا أثر

- ‌السائح الغربي في العراق العربي

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب التقريظ

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 32

- ‌طاق كسرى

- ‌خاتمة البحث في إمارة السعود

- ‌برس نمرود

- ‌أيها الأمل

- ‌طوب أبو خزامة

- ‌المال حاكم

- ‌الذرعة

- ‌أربع أسر بلا أثر

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب التقريظ

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 33

- ‌خرافات عوام البغداديين

- ‌الزواج عند يهود بغداد

- ‌الرّماحية

- ‌الطيارون في الشرق

- ‌ارتفع أسعار الأرضين في بغداد

- ‌النخل في العراق

- ‌بقايا بني تغلب

- ‌الكلمات الكردية في العربية الموصلية

- ‌التجارة في بغداد

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المراجعة والمكاتبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب التقريظ

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 23

- ‌الباب الوسطاني

- ‌نبذة من تاريخ بغداد والبصرة والمنتفق

- ‌منارة سوق الغزل

- ‌نُبوةُ أديب

- ‌أنا والدنيا

- ‌إمارة الرشيد

- ‌حالة التجارة في بغداد في سنة 1913

- ‌اللسان

- ‌الرطب والارطاب

- ‌صادق وفتحي

- ‌مكتبات النجف

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب التقريظ

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 34

- ‌منافع بيع البواخر

- ‌بيت النمنومي أو بيت جرجية

- ‌الحيدرية

- ‌وقفة تجاه السن

- ‌الأسطول الطيار

- ‌نبذة من تاريخ بغداد والبصرة والمنتفق

- ‌باب المذاكرة والمكاتبة

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌إصلاح بعض الأغلاط واستدراكها

الفصل: ‌صفحة من تاريخ خليج فارس

كتبهم ومصنفاتهم، واتحفونا بمقالاتهم ورسائلهم، من خاصة وعامة، مما يدل على كرم سجاياهم، وطيب أعراقهم وعنصرهم، ويكشف عن حبهم لمؤازرة الأدباء سراً وجهراً. ونوجه أطيب ثنائنا وأعطره إلى أولئك الذين تبرعوا علينا بنضارهم، مساعدينا في نفقاتنا ومخففين ما أخذنا على نفسنا من العبء الثقيل الباهظ. نعم إننا وان كنا لا نستطيع أن ننشر أسماءهم الآن خوفاً من أن نمس أرق شواعرهم، إلا انه لا بدَّ من ذلك يوماً ريثما تنكشف الأسرار، وتنتهك السرائر، فيعطي كل ذي حق حقه، وكل ذي فضل فضله.

وقد رأى القراء من تزاحم أقلام كتاب هذا القطر وغيره أن كثيراً من الأبحاث والمطالب تأخرت عن إتمامها، أو لم تبرز إلى عالم الوجود، مع أننا كبرنا حجم المجلة وزدنا صحائفها مؤملين تحقيق بنات الصدور، لكن لما كان مبدأنا أن نفضل مقالات أرباب الأقلام على نفثات قلمنا، - إظهاراً لما في أبناء العراق من روح التعاون، وصدق التناصر، والاخلاص في حب التسابق والتنافس في ميدان العلم والأدب، - بقينا في مقرنا الأول كأننا لم نجرِ شوطاً، على أننا أبرزنا ما كان في نيتنا من محض الخدمة وكفى بذلك شاهداً على

رغبتنا في التقدم والتبسط وحق لنا أن نقول:

ولي في غنى نفسي مراد ومذهب

إذا انصرفت عني وجوه المذاهبِ

‌صفحة من تاريخ خليج فارس

.

كثر الكلام، في هذه الأيام، عن خليج فارس وعن رسوخ قدم الإنكليز فيه وفي ثغور أقاصيه وادانيه، فوضعنا هذا المقال، مجاراة لمقتضى الحال:

ص: 5

موقع خليج فارس من أحسن المواقع إن للتجارة وإن للمحاربة وان لتنازع الأمم للبقاء. وكل أمة أفلحت في تسيير سفنها في مياهه، أفلحت أيضاً في رقيها وعمرانها وحضارتها. ولهذا اصبح هذا البحر منذ اقدم الأزمان مطمح أبصار الأقوام والأجيال والفريسة التي تتخاصم عليها أقواهن لتزدردها وتقر بها عيناً وتسعد بها نفساً. وهذا الأمر الذي لم يخف على أمة خلت، لم يخف أيضاً على دولة إنكلترة التي تتربص الفرص لمد جناح سطوتها على بلاد الله. لاسيما إذا قدرت أن تصل إلى منيتها أو ضالتها نبهاً، أو بدون أن تريق قطرة من دم من دماء أبنائها الشرفاء، بل الذين هم أشرف خلق الله على زعمها.

اجل. إن ملكة الإنكليز اليشباع (اليزبت) لما أذنت سنة 1599 (لشركة الهند) أن تنشئ محلات تجارية في ديار الهند طمح للحال بصر تلك الدولة إلى خليج فارس، مع إن قدمها لم تكد تستقر في الهند تمام القرار، ولم تكن بعد بمبي في قبضتها. لكن كيف الوصول إليه والبرتوغاليون كانوا قد نشروا أجنحة سطوتهم على ذلك الخليج منذ أواخر القرن السادس عشر، وكانوا قد ظهروا فيه بعد أن طاب لهم المقام في أقطار الهند وجعلوا ساحل بحر فارس كما جعلوا ريف بحر الهند ميداناً ينزله فرسان مفتتحيهم، فيأخذون من البلاد والثغور والموانئ ما يروقهم، ويضربون صفحاً عما لا يحظى في عيونهم الطامحة؟

أما علو شان هذا الخليج وخطورته في أبصار البرتغاليين والإنكليز فظاهر من تسارع شخوص بصرهم إليه، بعد ثبوت قدمهم في بعض ديار أقطار الهند، لعلمهم يومئذ أن لا قرار لدولة غربية في بلاد الهند إن لم تقبض بيدها مفتاحها الذي هو خليج فارس، وما على سواحله من الثغور المتراصة المتناسقة المتفاوتة الارتفاع ارتفاع درج السلم البعيد المراقى. هذا فضلاً عن أن تجارة الهند لا تنفق ولا تروج إن لم يحافظ على تأمين الطريق التي ترسل فيها أي طريق البحر الفارسي وتنفضها من الغزاة الذين يعيثون فيها كل العبث.

هذا وفي العهد الذي اكتشف رأس الرجاء الصالح كانت تساق بياعات الهند إلى ديار

الغرب على البحر وعلى بحر العجم. وهو الطريق التي كانت معروفة منذ أعرق الأزمان في القدم. إذ كانت ترد من تلك الربوع النائية على السفن الكبار فتتشطط سواحل ديار الفرس. ثم ترسو في ما نسميه اليوم (شط

ص: 6

العرب)،. - وأول الذين عرفوا هذه الطريق الطبيعية التي لحبها البارئ هم أول من عرفهم التاريخ باسم (الأمم الكبار) أي أولئك الذين انشئوا نينوى وبابل ثم سلوقية وطيسفون ولما دثرت هاتان الحاضرتان جاءك العرب القروم فعرفوا ديار الهند ومجازها وابتنوا البصرة وبغداد. فقامت لهم يومئذ دولة ضخمة فخمة تضارع أعظم دول التاريخ وأضخمها بل تصارعها صراع الأبطال، لصغار الرجال. ففي عهد زهو دولة العرب، كما في إبان القرون الخالية، كنت ترى ثياب الحرير والإستبرق، الفلفل والقرنفل، الدارصيني والجوز بوا، الهال والزعفران، الصدف والعاج، الدر والمرجان، الميعة والصمغ، المصطكى واللبان، المر ودهن البان، البخور والعطور، وغيرها من حاصلات الهند ومما جاورها من الديار والجزر، من قريبة ونائية، من ثغور بلاد السيلى إلى جزيرة العرب وتبعث كلها بغلاتها لتستجلب بدلها الزجاج والرصاص، الحديد والنحاس، الاسرب والقصدير التي كان يؤتى بها من ديار الغرب.

وكانت تنتقل هذه السلع والبياعات من بغداد إلى قلب المشرق الأدنى: إلى دمشق والإسكندرية إلى موانئ الشام والديار المصرية، التي كان فيها يومئذ محلات تجارية زاهرة زاهية، عائدة إلى البيزيين والفلورنسيين، إلى البنادقة والجنوبين. لا بل بعد أن عرف طريق أفريقية البحري، واكتشاف معبر أو منفذ يؤدي إلى ربوع الهند ماراً برأس الرجاء الصالح، بقى الطريق الأول طريق خليج فارس على علو كعبه طول القرن السادس عشر وبعض القرن السابع عشر، ولما ذهب شيء من شأنه عند معرفة التجار الطريق الثاني، دام المسلك الأول نهجا عظيما، نهج تجارة الهند وديار الروم، بل لم يزل أب كل نهج تنهجه جميع الدول التي تمد يدها من الديار الآسيوية إلى الديار الأوربية وبالعكس. وداوم التجار الإيطاليون ولا سيما البنادقة منهم والقطلونيون على إنفاذ أموالهم ومبيعاتهم على القوافل التي تجتاز بوادي الشام وصحارى بين النهرين يجلبون من ديار الهند والسند والصين وزابج (جاوة) جميع ما يحتاج إليه الغربيون من أثمار وغلات الأرجاء الحارة فيصعدونها على متن شط العرب الذي كان يعرف يومئذ عند أجدادنا (بدجلة العوراء) ومنه

على ظهر الفراتين ومنهما إلى ربوع مملكة العرب التي صارت بعد ذلك من ديار سلطنة آل عثمان.

ص: 7

أما سبب بقاء طريق خليج فارس لنقل بياعات الشرق إلى أهل الغرب مع وجود غيره فهو لأن هذا النهج كثير السهولة يسير الركوب جم المنافع، وليس فيه من الأهوال ما في أخيه الثاني الحديث السن. هذا فضلا عن أن السفن البحرية لا تحتاج في المهيع الأول إلى أن تقتحم العباب وغمراته كما في اللحب الثاني، بل يكفيها أن تتشطط السواحل الواحد بعد الآخر من الهند إلى دجلة العوراء، فتصيب الغرض، بدون أن تصاب بعرض.

وهذا لا يتضح لك صدقه إلا إذا نظرت رعاك الله إلى هذا الخليج وأنعمت النظر في تقوير الطبيعة إياه وكيف أبرزته عل مثال غريب عجيب. فإن الجواري المنشآت إذا غادرت أرياف الهند صعدت شواطئ ديار البلوص (بلوجستان) ودخلت بحر عمان ثم قاربت شطوط العجم إلى موضع تكاد فيه بلاد إيران تصافح بلاد العرب وهو الموضع الذي يعرف عندهم باسم (الرأس المسنن أو المسنم) في مضيق هرمز. وكأن العرب لم يحبوا أن يمدوا أيديهم إلى الإيرانيين لما بين عنصريهم من العداوات القديمة ترى بلاد العرب توغل في الماء كأنها تنفر نفور الشادن من وجه العدو فيأكل البحر شيئاً من أرضها مع أن بلاد فارس تحاول دائماً التقرب منها متحببة لها وكأنها تقول لها: تعالي إلي ولا تهربي مني فإننا إن تعاونا نصبح حرزاً حريزاً في وجه العدو. أما جزيرة العرب فلا تجاوبها كأنها تعلم أنها إذا مدت إليها يد المعونة سحقتها بقبضتها قبضة الحديد. وكأن الطبيعة حكمت في الآخر بين البلادين فجمعتهما بعد أن أخذت منهما العهود وشهدت عليهما الشهود أن لا تعتدي الواحدة على الأخرى وآنئذ تصافحتا وتعاقدتا على الولاء والصفاء. فاتصلت بلاد إيران ببلاد العربان وعليه يكون

ص: 8

خليج فارس من الرأس المسنن إلى مدالث العورآء أو شط العرب.

فهذان الساعدان ساعدا بحر الهند أي بحر عمان وبحر فارس يوغلان في الأرض على غور 500، 2 كيلومتر ويمكنان البواخر من أن تصل فوهة شط العرب. وإذا وصلت هناك جاءت بواخر أو سفن أخرى دون الأولى غوصاً في الماء، ونقلت أحمالها على دجلة. ويحمل دجلة السفن النهرية إلى أبعد موطن من بين النهرين إلا أنها لا تصعد الآن إلى ما

وراء بغداد، لأن وادي السلام يحتاج إلى أن يكسح عقيقه من الرمال ليكون قابلاً لحمل السفن إلى حيث ما يرام، أما الفرات فإنه من بعد أن يصاحب أخاه دجلة ويتفق معه ويتحد به بحيث أن الرائي يظنهما واحداً ينخزل عنه وينشعب ويولى مدبراً هائماً على وجهه في رمال الجزيرة وصحراء الشامية حتى يخال الناظر إليه أنه يريد الهرب إلى ديار الشام كأنه يقول في نفسه: بما أن العراقيين لم يقدروا قدري ولم يعرفوا منزلتي ولا فوائد مياهي ولم ينتفعوا بها فإني فار إلى حيث أريد، إلى صديق لي في ديار الشام اسمه (العاصي) لنشق كلانا عصا الطاعة على أبناء هذه الديار الذين لا يعنون بالزراعة ولا بالفلاحة ولا بالغراسة ولا ولا ولا. . . وكان ناصحاً نصحه في نهاية الأمر إلى الرعوى فارعوى إذ قال له: يا أخي لا تترك الوطن، إن الوطن عزيز فارجع إليه. وما كاد يسمع هذا الكلام إلا ورجع عن غيه إذ تراه يعود إلى نحو أخيه البكر دجلة من قلعة نجم مقابل منبج إلى أن يرجع إلى منابعه في ديار الأرمن.

ترى مما تقدم بسطه وشرحه إن افتراق النهرين الواحد عن الآخر هو لخير هذه البلاد ليمدها بالماء والنماء وهذا ما تثبته الأقدمون من أعرق الأزمان قدماً ولهذا كان للحواضر القديمة: نينوى وبابل والمدائن (أي طيسفون وسلوقية) ولا سيما كركميش شهرة طائرة في التاريخ. وقد نوه بمجد هذه الأخيرة وعزها وغضارة حضارتها الأخبار القديمة المدونة على صفحات الآجر وصحف المهارق

ص: 9

إذ تروي لنا إن الفراعنة كثيراً ما قارعوا ملوك الآشوريين في كركميش لأنهم رأوا حسن موقع تلك المدينة وهي راكبة على مرفق الفرات أو منعطفه وقد شارفت من موطنها وما فيه من الدساكر والرساتيق والقرى والفلاليج والمزارع. وفي الأزمان التي هي أدنى ألينا أي في عهد الرومان كانت إنطاكية الراكبة على العاصي في الموطن الذي يدنو ريف بحر الروم من منعرج الفرات قد نالت من البعد الزهو والثروة والأبهة ما حق لها أن تسمى (بملكة الشرق). وما عساني أن أقول عن تلك الحاضرة الزاهرة، بل درة البر الفاخرة، لا بل يتيمة الدهر النادرة، تدمر القاهرة، فلقد كانت أنشئت عن طريق القوافل، بل في بهرة المراحل، فكانت تنتابها أو تغشاها كلما أرادت ثغور الشام. أو بالعكس كلما أرادت التوجه إلى وادي السلام. فهي أيضاً نالت من شامخ العز، وباذخ المجد، ما جعلها شامة في جبين الدهر. ولما دالت الدول، وقلب الزمان

ظهر المجن لتلك الحواضر، والمدن الزواهر، أبقت لنا من ذكرها أنقاضاً مبعثرةً على أديم الأرض، يشهد على مكانتها من العمران والحضارة، في القرون المنطوية، بل على مكانة لم تبلغها المدن الجديدة التي أنشئت بعدها كالبصرة الفيحاء، وبغداد الحسناء، وديار بكر القورآء، ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وغيرها - نعم إنها ورثت من أمهاتهن المنقرضات روح التجارة والمبايعة والمعارضة، لكن هيهات أن يصلن ما وصلت إليه تلك الأمهات الجليلات. فشتان ما هن، وشتان ما بين الدر والحصى، والسيف والعصا.

ومما تقدم بسطه يتضح أن أصحاب الهند لا يطمحون إلى مد أجنحة نفوذهم وسطوتهم على خليج فارس إلا ليجاروا الأمم السابقة التي أوغلت في الحضارة، ونالت قصب السبق في التجارة. وهذه الأسباب نفسها هي التي حدت بالبرتغاليين إلى إحراز مفتاح الهند حينما دخلوا هذه الديار الأخيرة ولهذا كنت ترى سفنهم تمخر عباب الهند، وتشق مياه بحر عمان، ثم تغوص في أغوار بحر فارس، لتذهب إلى البصرة. ولما كانت تقضى لبانتها كانت تغادر البصرة. فتذهب إلى مسقط، إلى قاليقوط (كلكتة) إلى رامني أولامري (سومطرة)، إلى جزيرة الوقواق (مدغسكر)، إلى جزائر القمر، إلى زنجيار، إلى سفالة. وهكذا كانت سفنهم تختلف إلى بلاد وبلاد وتجمع بين ديار آسية وأفريقية وكان كل همهم معاداة غزاة العرب البحريين لأنهم كانوا يغيرون على تلك الثغور ويفعلون بأصحابهم كما يفعلون بأعراب

ص: 10

البوادي. ولهذا كنت ترى بين العرب والبرتوغاليين حرباً عواناً بل طاحنة، طحنت في الأخير أبناء يعرب فأوردتهم حياض المنايا. ودامت تلك الحرب طول القرن السادس عشر بدون أن يمكنوهم من الراحة هنيئةً. وما زالوا كذلك حتى ركز قائدهم الكبير البوكرك علم دولته البرتوغالية في مسقط وصحار وذلك في سنة 1515 وهي سنة دخول النصارى جزيرة العرب بعد أن طردوا عنها سنة 634م على يد عمر بن الخطاب. قال البلاذري (ص 68) وهو يروي حديثاً معنعناً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه لا يبقين دينان في أرض العرب، فلما استخلف عمر بن الخطاب (رضه) أجلى أهل نجران (وكان أغلبهم نصارى وفيهم أيضاً يهود) إلى النجرانية (بناحية الكوفة) وأشترى عقاراتهم وأموالهم. وقال أيضاً:(ص 68) أنزلت (هذه الآية) في كفار قريش والعرب: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). وأنزلت في أهل الكتاب: (قاتلوا الذين لا

يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق إلى قوله: صاغرون. فكان أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران فيما علمنا. وكانوا نصارى. ثم أعطاها أهل أيلة وأذرح وأهل أذرعات الجزية في غزوة تبوك. أهـ كلام البلاذري بحرفه - فترى من هذا أن أول من خالف هذه القاعدة أو خرمها هو البوكرك بعد أن مضى 881 سنة على جزيرة العرب وهي تأبى أن تأوي نصرانياً.

ولما تيسر للبرتوغاليين دخول تلك الديار هان عليهم أخذ غيرها أيضاً فضبطوا هرمز. ثم احتلوا البحرين وحصنوا القطيف بعد أن ملكوه ومدوا أيديهم إلى جميع الثغور التي كانت تخدم أمانيهم أن على ساحل إيران وإن على ريف جزيرة العرب وحصونها أشد التحصين. وكل من كان يحاول أن يقاومهم كانوا يذيقونه الأمرين أو يوردونه حياض المنية وكان الجميع يخافونهم كما يخاف الخشاش والبغاث جوارح الطير وعتاقها. وكانت هرمز أحصن تلك القلاع وأبقاها بوجه العدو ولذا جعلوها أيضاً خزانة أسلحتهم ومستودع تجارتهم وهي كما تعلم مدينة ثابتة في قلب جزيرة تعرف باسمها وهي كالشجا في حلق بحر عمان لا يستطيع أن يسيغها ولا أن ينبذها وهي أيضاً كالشجا في حلق كل داخل بحر عمان أتياً من خليج فارس أو كل مقتحم بحر فارس قادماً من خليج عمان

ص: 11