الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سياحة في النوم
بينما كنت مضطجعاً على فراشي أردد في فكري محاسن صنع الله تبارك وتعالى، الذي أتقن كل شيء فبرأه بمقتضى حكمته الربانية، إذ أخذتني سنة الكرى فرأيت في منامي كأنني أتجول في بستان أشجاره القنواء، وأزهاره غراء، وأطياره بديعة الغناء، وأنهاره متدفقة الماء، فأخذت أسير الهوينا لأتمتع بمشاهد تلك الطبيعة البديعة، وكنت ألتفت يمنة ويسرة لكي لا يفوتني قل ولا جل. ثم ما أبطأت أن وقع طائر بصري على قصر شامخ رفيع العماد مزين بأنواع القناديل والمصابيح وكل ضياء ساطع حتى ظننت أنه سابح في بحر من نور، والمياه المتألقة تنساب في جوانبه، كما تنساب الأفاعي في الفلوات الناعمة الرمال، السريعة الانهيال، قدار في خلدي أن أتأثر هذا الماء الزلال، لأرى مقره ومصبه أو مندفقه، وبقيت أتتبع منعطفاته، حتى أدى بي المسير إلى غدير كبير، ماؤه عذب نمير، واقع في وسط بقعة القصر المشيد، وفي جنباتها مجلس نضيد، وبين يديه أسرة متخذة من العاج، المرصع بالجور الوهاج، فلما شاهدت ذلك، دفعني حب الاطلاع على الغرائب، والاستكشاف عن الخفايا أن أستريح هنيئةً مما لحقني من العناء، وكابدته من البرحاء، وكانت عيناي شاخصتين شطر القصر، مفكراً ألف فكر.
فبينما أنا على تلك الحال، إذ فتح الرتاج، وخرج منه شاب مقنع بقناع مواج، وعلى رأسه تاج، ولا بس حلة من الديباج، يناهز عمره الحادية والعشرين، كأنه منحدر من عليين، ويحيط به مئات من الحور العين، وفئات من أجمل البنين، وهم يمشون كلهم مشياً وئيداً. ويكرمونه إكراماً حميداً. وما زالوا على تلك الحال، حتى بلغوا محلاً مرتفع المنال، فرقي السلم، ووقف ليتكلم، وأمر أحد حجابه أن يميط النقاب عن وجهه الوضاء، وطلعته الحسناء، فلما فعل الحاجب ما أمره به، ظهرت عليه جميع محاسن ربه، وبدا وجهه الوسيم، يتلألأ بنور أهل النعيم، ولاح جبينه الوضاح، أبهى من ضياء الصباح، تقول حواجبه دم عاشقي مباح، وهو ذو عيون كأنها عيون الجآذر الملاح، ووجنات تزري بالجلنار، تتوهج توهج النار. وخال كأنه قيراط عنبر، أو مسك أذفر، وقد كقضيب ألبان أو كاملود الخيزران.
وبعد أن تكلم كلاماً يؤنس الغزلان، ويوقظ الوسنان، أخذ يلتفت ذات اليمين وذات اليسار، منزهاً الطرف بين الأشجار والأزهار، مستأنساً مع أعوانه وهو في أحسن مقام، وأطيب أقوام، فوقع بصره عليّ فوجدني جالساً لا أتمكن من القيام، لما اعتراني من شدة الغرام، وكثرة الهيام، فأشار إليّ بالنزول، وأن لا أبقى في محلي كالسجين أو كالمغلول، ثم رأيته مقبلاً أليّ، مراقباً ما أحوالي. فقلت في نفسي: إنك لقد وقعت في بلاء عظيم، لدخولك في موطنٍ خاص بهذا الأمير الكريم.
وبينما كان الهلع قد أخذ من كل مأخذ، تقدم أليّ وحياني أحسن تحية، ورحب بي كل الترحيب، فرددت عليه السلام، مجيباً إياه بعبارات الإجلال والإكرام، ثم قال لي: لا تخف يا بني، وارك لا تعرفني، فقلت: لا يا سيدي: فقال أنا الذي طبق أسمي الخافقين، وسمع به سكان ديار القطبين، أنا الذي اسمه (العفاف، أنا الذي أقع من القلب في الشغاف. أنا مزكي النفوس، أنا زينة كل عروس، أنا سر السعادة، أنا مرقي الصلحاء إلى أوج الإمامة والعبادة. فلما سمعت هذه الكلمات، وما حوت من المعاني الطيبات، سكن روعي، واطمأن قلبي، وانقشعت من سماء أفكاري، سحب الخوف والفزع، وتذكرت هذه الأبيات:
لك منزل في القلب ليس يحله
…
إلا هواك وعن سواك أجله
يا من إذا جليت محاسن وجهه
…
علم العذول بأن ظلماً عذله
الوجه بدر دجى عذارك ليله
…
والقد غصن ثرىً وشعرك ظله
هذه جفونك أعربت عن سحرها
…
وعذار خدك كاد ينطق نمله
عار لمثلي أن يرى متسلياً
…
وجمال وجهك ليس يوجد مثله
هل في الورى حسن أهيم بحبه
…
هيهات أضحى الحسن عندك كله
وما كدت أفرغ من إنشاد هذه الأبيات، إلا وفزعت في نومي واستيقظت وقد انطبعت صورة (العفاف) في مخيلتي فقلت في نفسي: لأدعون الناس إلى حب هذا الخلق البديع، ذي الحسن السنيع، لما يورث النفس من المناقب السامية، والفضائل العالية. إن ربك لرقيب، وهو المجزي المثيب. فاجعلنا اللهم ممن يخافك ويترقب منك، ولا تجعلنا أن نصرف وجهنا عنك. اللهم آمين
(20 - 8040)