الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا ما يؤيدنا في هذا الرأي وفي أن الأصل هو الكركسة أو الكركشة. ومن ير الخلاف يظهر أدلته. والسلام.
تطواف في جوار بغداد والمدائن
زايلت بغداد في الساعة التاسعة عربية من نهار الخميس الواقع في 17 آب سنة 1911م قاصداً المدائن لا صرم بعض أيام عطلة المدارس وأقضي وطراً لي هناك وأتذكر أجدادي الكلدان وأعمالهم وما آل إليه أمرهم وأبكيهم على تلك الأطلال التي كاد يدرسها فيضان دجلة في أغلب الأعوام، إذ تسيل مياهه من ثلم ضفتيه على تلك الأراضي، فتطفح حتى ينتهي ماؤها إلى تلك الأطلال والروابي. فيهدمها وينقض آجرها ويحل لبنها فتطمس تلك الآثار شيئاً فشيئاً على مر السنين وفيضانها.
فسرت في رفقة مرافقين من الشمر خبيرين بتلك الأراضي، نتجاذب أطراف الأحاديث والروايات عن تيك الأطلال والروابي التي تجتاز بها.
لا يخفى أن ضفتي دجلة ذواتا منعطفات ومنحنيات من بغداد إلى الكوت لا بل إلى مقربة من العمارة، فتراها كقسي يدخل محدب قوس إحدى
الضفتين في مقعر قوس الضفة الأخرى وماء دجلة ينساب بين تلك المحاني انسياب الأفعى. فكل قوس من تلك القسي يسميها عرب تلك النواحي (بالزاوية) وكل زاوية من تلك الزوايا تسكنها عشيرة من أعراب الزبيد على الضفة الغربية من دجلة وعشيرة من عرب شمر طوقة (طوكه) على الضفة الشرقية منه وكل زاوية مختصة بعشيرة من القبيلتين وهي كالملك لها تؤدي للحكومة الخمس من غلات تلك الأراضي الأريضة. وأوتار تلك القسي أو الزوايا المتصلة بعضها ببعض هي الصراط المستقيم والأقرب مسافة للسائرين من زاوية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر. وفي نهاية كل وتر من تلك الأوتار تعترضك ضفة النهر فتسير عليها موصلة طرف الوتر السابق بطرف وتر الزاوية التالية وهكذا إلى النهاية وذاك المعترض يسميه العرب (طالعة) فهناك ترد الخيل الظمأى ويرتوي المارون وتملأ الأسقية ماءً قراحاً ومسافة كل وتر من تلك الأوتار ثلاثة أميال أقل أو أكثر أي مسير ساعة أو ما ينقص عنها أو يزيد وبين كل وتر ووتر طالعة ومسافة كل وتر منها تسميها العرب سوقة (سوكة) وكل زاوية من تلك الزوايا اسم مختص بها. فأول طالعة بلغناها بعد مسيرنا من بغداد طالعة القرارة (الكرارة) وتبتدئ قوس زاويتها من
كرد الباشا محيطة (بالسيد إدريس) وبساتين (القادرية أو الجادرية) الغناء التي منها خوخ الجادرية الفاخر المشهور بالطعم والرائحة واللون ينادي عليه البقالون في أسواق بغداد (خوخ الجادرية
يا خوخ) (أي شاري الخوخ): إلى أن تنتهي إحاطتها في طالعة القرارة واسم تلك الزاوية (الجادرية) ثم سرنا من هناك في وتر زاوية (الدودية) الكثيرة البساتين والنخيل وفي منتصف الطريق عن مسيرتنا اعترضنا تل يقال له (تل بليقة) وقد غرقت في هذه السنة أغلب الزروع الشتوية الواقعة على جوانبه وهي عبارة عن مجتمع أنقاض أبنية شامخة وآجره أحمر ينقل منه الفلاحون إلى ضفة دجلة لبناء أركان ركاياهم وفيه كسر خزف خوابئ وآنية الخ. وعن رواية: أن محل هذا التل كان مدينة عامرة زمن استيلاء الفرس على هذه الديار ومن هناك سرنا حتى انتهينا إلى نهر يقال له (ديالى) بعيد المغرب فعبرناه على جسره المبني على معبدات (سفن مقيرة) وديالى هذا هو من سواعد دجلة. فوجدنا هناك قهوة يجاورها بيبتات كأنك بها فندق للمسافرين فتعشينا وبتنا ثم هببنا من نومنا بعد طلوع القمر في الساعة السادسة فسرينا قاطعين وتر زاوية (الثويتة) ومن هنا يرى حديد البصر محدب إيوان كسرى ومسافة هذا الوتر يساوي مسافة وترى زاويتين وفي منتصف الطريق عن ميمنتنا رويبية يقال لها (أبو الحيايا أي أبو الحيات) ثم واصلنا السرى حتى بلغنا (طالعة قصيبة) ويقال لذلك المكان (المعيرض) لأن هناك تعترضنا مفارق الطرق المؤدية إلى العزيزية (والجزيرة أو الصيرة) والمدائن الخ فتروينا وملأنا تنكنا (التنك في لغة العراقيين جمع تنكة وهي كوز من فخار له عروتان وليس له بلبل) ثم سرينا قاطعين وتر الزاوية (باوي) أو (السمراء أو السمرة) وهذه الزاوية متوسطة المدائن إلى أن انتهينا إلى مسجد الإمام سلمان الفارسي الذي كان يسمى قبلاً روزية وهو بمقربة من
إيوان كسرى فألقينا فيه العصا في الساعة التاسعة من تلك ليلتنا ثم أوينا إلى قهوة هناك واضطجعنا على الأسرة غافين حتى بزغت الشمس فاستيقظنا وسرنا متجهين إلى زاوية (السطيح).
إن مسجد الإمام سلمان واقع في الشمال الشرقي من إيوان كسرى ويبعد عنه مسافة ربع ميل وسور كسرى يبعد عن إيوانه مسافة ميل واحد والسور المذكور هو الحد الفاصل بين الزاوية (باوي) الواقع فيها إيوان كسرى وزاوية السطيح.
وأعلم أن هذا السور لم يبق منه شاخص سوى زاوية قائمة متجهة إلى الشمال تماماً وضلعين يحيطان بها أحدهما يتجه إلى الجنوب الغربي وقد خرقه وبتره ماء دجلة وجعل طلل المبتور منه شاخصاً إلى يومنا هذا في جانبه الغربي والضلع الآخر متجه إلى الجنوب الشرقي لكنه لا يكاد ينتهي طرفه إلى دجلة من الجهة الأخرى من زاوية السطيح بل باق رسمه إلى شاطئ دجلة وارتفاع هذا السور الآن عن الحضيض نحو من سبع اذرع وأعلاه منثلم متآكل قد أذابت لبنه الأمطار والثلوج وهو مبني من لبن (ملوح) أي مجبول بجل الحنطة وسنبلها (الجل قصب الزرع إذا حصد وقطع) وإلى الآن ترى سنابل الحنطة في مكسر اللبنة. وعلى رواية أن هذا السور سور حديقة أو جنينة (باغجة)(شاه زنان) ابنة كسرى العادل (انوشروان).
وهذه (شاه زنان) بعد ما استولى الحسين بن علي بن أبي طالب مع الصحابة على أبيها وعلى بلاده قيدت أسيرة فتزوجها الحسين بن علي المشار إليه. قلت هذه رواية العوام على علاتها.
ويلي زاوية السطح (زاوية الصافي) والحد بينهما أو قناة أواردب (الذرعية) حفره ذريعي بن خدر المنصوري وعشيرته وهم من شمر طوقه (طوكة) وقد وجدوا في ضحضاح شاطئ دجلة عند فم هذا النهر الجاري وقت الفيضان إلى أرض (السعدة) عند حفره لقطاً كخاتم ذهب ساقط فصه وأجراس ذهب
إلى غير ذلك. ووجدوا جثث أشخاص موضوعة في ما هو كالدن أو الراقود من خزف وعلى بعض تلك الجثث حلى من ذهب وغيره والذي وجد بعض ذلك ورأى بعضه رواه لي وهو من ثقافتهم. ويلي زاوية الصافي (زاوية الخناسة) ويلي الخناسة (اللج) وهكذا إلى الآخر.
وأغلب هذه الزوايا وأراضيها المقابلتها أريض مخصب يزرع فيه الحنطة والشعير والهرطمان والحمص والسمسم والذرة البيضاء والصفراء والعدس والماش واللوبيا وتعرف عند أعراب تلك الجهات بالعوين الخ وهذه المزروعات يسقيها ماء المطر وفيضان دجلة وتسقى بعضها الدوالي.
وجميع الزوايا الواقعة على الجانب الشرقي من دجلة من (باوي) إلى ما وراء (كوت الإمارة) تسكنها شمر طوقة وتزرعها. وبيوت هؤلاء العشائر في الشتاء خيم منسوجة من
شعر المعز وهي مظالهم وكل مظلة منها مؤلفة من ثلاث أو أربع أو خمس شقاق (شكاك) حسب التمكن وعرض كل شقة ذراع وثلث أو نصف الذراع قل: متر. وطولها نحو من نيف وعشرين إلى ثلاثين ذراعاً فيضمون حاشية الشقة الواحدة إلى حاشية الأخرى ويخيطها الرجال وخيمهم في الصيف من شقاق شوب العوين أو اللوبياء ومعنى الشوب أنهم يأخذون قضبان العوين وسوقها بعد اصفرار ورقها وينقعونها في الماء مدة سبعة أو ثمانية أيام ثم يرفعونها منه ويخبطونها بالعصي والهراوي ويدقونها بالأخشاب والحجارة دقاً بليغاً إلى أن تصير كالقطن وهذا المدقوق يسمى عندهم بالشوب ثم تشرع النساء يغزلنه وينسجنه شقاقاً ثم يخيطها الرجال خيمة فيرفعونها بالأعمدة سقفاً للبيت.
روى بعض شيوخ شمر طوقه الثقات الإثبات وأنا جالس بحضرتهم قال: قبل خمسة أو ستة أظهر أي أجيال كنا في الجانب الغربي من دجلة مع شمر الجرباء البدو تجمعنا جامعة واحدة وسابلتنا لا تقطع من الموصل والشرقاط إلى سوق الشيوخ والقرنة ولأمور عرضت لأجدادنا تظاهروا أي تدابروا فعبر أجدادنا من عبر دجلة الغربي إلى عبره الشرقي فتخلف في العبر الغربي كلبة من كلابنا وكان اسمها طوقة فأخذت امرأة منا تشليها قائلة طوقة! طوقه! طوقه! طوقه! طوقه! فسمى البدو شمر الجرباء أجدادنا بشمر طوقه إهانةً واستخفافاً بهم وسار هذا الاسم علينا إلى يومنا هذا فأصبحنا قبيلتين أو فصيلتين ولنا عشائر