الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم والتحاكم في خطاب الوحي
المؤلف/ المشرف:
عبد العزيز مصطفى كامل
المحقق/ المترجم:
بدون دار طيبة - الرياض ̈الأولى
سنة الطبع:
1415هـ
تصنيف رئيس:
توحيد وعقيدة ومنهج
تصنيف فرعي:
تحكيم الشريعة
الخاتمة
وبعد هذا التطواف الطويل مع نصوص الوحي عن الحكم والتحاكم أجدني أمام فيضٍ من الحقائق والنتائج المهمة أعددها فيما يلي:
1 -
موضوع الحكم والتحاكم من الموضوعات البارزة في القرآن، ولهذا فإن كلام المفسرين وأهل العلم في الموضوع بكل جوانبه كثيفٌ وكثير، وهو لهذا جديرٌ ببذل الجهد لاستخراجه وإبرازه.
2 -
مادة (حَكَمَ) تأتي في القرآن على أوجهٍ ومعانٍ وإطلاقات متعدِّدة منها:
القضاء - الفصل - الفقه - العلم - الحكمة - النبوة - حسن التأويل - الموعظة - الشريعة - الشعيرة - الاستخلاف.
3 -
مفهوم الحكم بما أنزل الله، يعني استمداد التشريع من القرآن والسنة النبوية الصحيحة؛ لأن كليهما من الوحي، وتأتي المصادر الأخرى كالإجماع والقياس وغيرهما مبنيةً على هذين الأصلين.
4 -
الخطاب الشرعي بالحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه، ليس خاصاً بالحكَّام والساسة، بل هو خطاب عام يشملهما ويشمل جميع من استرعاهم الله رعيةً، كلاً بحسبه.
5 -
جمهور علماء الأمة على أن شرع من قبلنا هو شرعٌ لنا، ما لم ينسخه شرعنا وهو يدخل بهذا القيد ضمن ما أنزل الله مما أمرنا بالحكم به.
6 -
مصطلح الحاكمية مصطلحٌ جديد، ولكنه وضع لقضية أصليةٍ مسلَّمة غير مستحدثة، ولا وجاهة للاعتراض عليه لمجرد كونه جديداً؛ لأن هذا شأن كثيرٍ من المصطلحات التي استحدثها أهل العلم ولم يرد بها نص في الكتاب أو السنة.
7 -
التحاكم إلى الشريعة عمل قلبي متعلق بالاعتقاد، وهو يعني إفراد الله تعالى بالطاعة، فلا يكمل التوحيد إلا به؛ لأنه قسم من أقسامه، وهو المعبر عنه بتوحيد الطاعة والانقياد، لهذا فهو من مسائل الأصول لا الفروع.
8 -
التحاكم إلى غير ما أنزل الله، قسمٌ من أقسام الشرك، وهو المعبر عنه بشرك الطاعة والانقياد.
9 -
الحكم بشريعة، حكماً عاماً؛ لا يكون إلا عن تحاكم إليها، فمن تحاكم إلى شرع الله حكم به، ومن تحاكم إلى غيره حكم به.
10 -
طريقة القرآن في الوصول إلى توحيد الإلهية عن طريق توحيد الربوبية، هي التي يمكن بواسطتها إثبات انفراد الله تعالى بالأمر والحكم، بعد تفرده بالخلق والملك والرزق والتدبير.
11 -
تفرد الله تعالى بالحكم نوعان: الأول: تفرده بالحكم الكوني القدري، ومعناه تفرده سبحانه بتقدير أحوال المخلوقات من منشأ وميلاد ومعاش وممات ومعاد، وتعيين حظوظهم من الأرزاق، والآجال، والعافية والابتلاء والصحة والسقم والغنى والفقر والسعادة والشقاء، ونحو ذلك. ويتفرع عن هذا الحكم: الحكم الجزائي، وهو قضاء الله تعالى بين الناس يوم القيامة وما يقسمه بينهم من درجات أو دركات. الثاني: الديني الشرعي المتعلق بالتحليل والتحريم والمنع والإباحة.
12 -
لله تعالى صفات مقدسة، بيَّن القرآن الكريم أنه -سبحانه- لأجلها استحق التفرد بالحكم قدراً وشرعاً، وهي صفات اختص بها جل وعلا، ولا يمكن أن يدعي بعضها الذين ينازعون الله في حكمه من المتشرعين الوضعيين، مثل كونه تعالى بكل شيءٍ عليم، وأنه سبحانه على كل شيءٍ قدير، ورؤوفاً بالعباد، وغنياً عن العالمين، وبصيراً بكل المبصرات، وسميعاً لكل المسموعات، وحكيماً، وخبيراً، ورحيماً
…
وغير ذلك من الصفات العُلا.
13 -
الأحكام الخمسة: التحريم والإيجاب والاستحباب والكراهة والإباحة. كلها محظور على المخلوقين اشتراعها سواءً في العبادة والنسك، أو في المأكل والملبس والمنكح، أو فيما يتعلق بأحكام الأزمنة والأمكنة.
وكذلك فيما يترتب على جزاءات هذه التشريعات ثواباً أو عقاباً، وكل تشريعٍ في شيءٍ من هذه الأمور أو جزاءاتها اعتداءً على أخص خصائص الإلهية، وهي التحليل والتحريم.
14 -
الأصل في نفاذ الأحكام، وموافقتها للشرع ومطابقتها للحق، ووظيفة الحاكم والقاضي: الاجتهاد لفهم الحكم الصحيح والقضاء به، ثم تنفيذه، فإن جانب الحكم الصواب، فإنه لا يحلل بذاته الحرام ولا يحرم الحلال، فمن قُضي له بشيءٍ ليس في حكم الله فلا يحل له أخذه، ولو كان صدر به حكم قضائي.
15 -
للقرآن الكريم في عرض قضية الحكم والتحاكم أساليب متعددة، تعتبر في مجموعها، من الأدلة القوية على إيجاب العمل بما أنزل الله، وكثرة هذه الأساليب وتنوعها من الأمور التي تميز الأصول عن الفروع، وتفيد يقينية الوجوب وأهمية الامتثال.
16 -
إضافةً إلى أدلة الأساليب الإجمالية، فهناك أدلةً نصيّةً كثيرةً، جاء بها الكتاب، وبينتها السنة، وهي تفيد إيجاب الحكم بما أنزل الله، وقد جاءت هذه الأدلة على معظم الصيغ التي يعتبرها علماء الأصول صيغاً للوجوب، مثل ما جاء على صيغة الأمر الصريح، والصيغة الطلبية بفعل الأمر أو لام الأمر، وما جاء على صيغة الإخبار بأن الفعل من مقتضى الإيمان، أو تركه يناقض الإيمان، وما جاء على صيغة الإخبار بأن ترك الفعل كفرٌ أو ظلم أو فسق، وما جاء على صيغة الاستفهام التعجبي والإنكاري على ترك الفعل أو إتيان ضده، وما جاء على صيغة حمل الفعل المطلوب على المطلوب منه.
17 -
وجاءت أدلة نصية أخرى تدل على إيجاب التحاكم إلى ما أنزل الله، منها ما هو متوجه إلى الحكام، ومنها ما يشملهم ويشمل المحكومين.
18 -
وهناك بواعث عديدة ذكرها القرآن، تقف وراء اتخاذ المعرضين مواقف الإعراض عما أنزل الله منها: كراهية ما أنزل الله، الاستكبار، واتباع الأهواء، وإيثار المتاع العاجل، والخوف والريبة وسوء الظن بالله، والأمان الكاذبة، وقصور العقل وجموده عند التقليد وفساد الطوية.
19 -
الانحراف عن شريعة الله تعالى يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين: الأول: الانحراف بها، والثاني: الانحراف عنها. فالأول هو ما يشمل كل أنواع الانحراف في التطبيق مثل: التحريف، والكتمان، التبعيض، والتفريق، والتأويل، والهجر. وفي أحكام هذا الانحراف تفصيل على حسب قدر الانحراف. أما الثاني: وهو الانحراف عن الشريعة، فهو انحراف عن أصل التطبيق، بمعنى إقصاء الشرعية جملةً واستبدال أخرى بها منسوخةً أو موضوعة، يُحكم بها ويُتحاكم إليها، وهذا النوع من الانحراف لم يختلف أحد من علماء السلف والخلف والمعتبرين في كون أصحابه كفاراً مرتدين ردَّةً صريحةً عن الدين، وخارجين خروجاً بيِّناً عن ملة الإسلام. وهذا اللون من الانحراف هو أخطر أنواع الانحرافات كلها.
20 -
التبديل مصطلح قرآني، يطلق على فعل من أهل الباطل مكان الحق، ليحكم به ويتحاكم إليه، وهو مصطلح يحتاج إلى إحياء وإعادة استعمال.
21 -
وضح علماء أهل السنة الضوابط التي بها يعرف ما يمكن أن يخرج به المرء عن الملة وما لا يخرج، وقرروا أن الكفر المخرج عن الملة هو الكفر بالصفات التي يستلزم الكفر بها نفي الإلهية، مثل الكفر بكون الله تعالى حكيماً، أو عليماً، أو خبيراً، أو بصيراً، أو سميعاً، أو أنه أرسل رسلاً لهداية الخلق، وأنزل كتباً على هؤلاء الرسل.
22 -
أطلق القرآن على من لم يحكم بما أنزل الله وصف الكفر فهو وصف لازم له، سواءً أكان كفره مخرجاً عن الملة أو لا.
23 -
الحكم بالقانون الوضعي هو أبرز مظاهر تبديل الشريعة، وهو انحرافٌ قديمٌ في الأمم، ولكنه لم يدخل على هذه الأمة إلا في عصر الغزو التتاري، حيث حُكم قطاع كبيرٌ من الأمة قسراً بقانون جنكز خان، ولكن ذلك الانحراف يومئذٍ كان مقصوراً على الطبقة الحاكمة، بخلاف ما حدث في الانحرافات المعاصرة، حيث جر الحكام المبدِّلون للشريعة قطاعات من الأمة خلفهم للتحاكم إلى غير شرع الله.
24 -
هناك آيات كثيرة توضح موقف القرآن من المبدلين، بما يقطع بأن التبديل مقوض لأركان الإيمان، وناقضٌ لقواعد الإسلام، وأنه إحياءٌ للجاهلية، ودعوةٌ لعبودية البشر ومحاربة لله ورسوله، وشرك وافتراء وتزوير للحقائق، وفتح لأوسع المفاسد الدنيوية والأخروية.
25 -
المتحاكمون إلى غير ما أنزل الله يخضعون للتفصيل في أحكامهم على حسب كيفية تحاكمهم إلى غير شرع الله. فهناك المتحاكمون عن علم وقصد، وهؤلاء حكمهم مثل حكم المبدلين في كونهم كفاراً مرتدين، وهناك متحاكمون مطيعون في المعصية لكنهم مقرّون بالشرع كله، وهؤلاء حكمهم حكم أهل الكبائر من هذه الأئمة، وهناك متحاكمون عن جهل، وهؤلاء مقصرون في طلب العلم، ولكنهم معذورون بالجهل في تحاكمهم -على المختار من قول العلماء في مسألة العذر بالجهل- وهناك متحاكمون مكرهون على التحاكم إلى القوانين الوضعية، وهؤلاء لا إثم عليهم، وهناك متحاكمون إلى أمور ليست من الشريعة ولكنها غير مخالفة لها، وهؤلاء لم يأتوا بمحظور، بل إن طاعتهم للأنظمة الإدارية غير المخالفة للشرع يعتبر طاعة لله، إذا كانوا في ظل حكومات تحكم بما أنزل الله.
26 -
للحكم بما أنزل الله خصائص تميزه عن غيره؛ لأنه صبغة الله، فمن خصائصه: الربانية، حيث تنعكس عليه معاني أسماء الله تعالى وصفاته من العلم والحكمة واللطف والخبرة والإحاطة. وقد تمثلت فيه لهذا صفات لا يمكن أن تتوافر في تشريع غير رباني، مثل: الثبات، وعدم القابلية للتغيير، والتأييد بالعصمة، والخلود، والبركة المتجددة والاستقلال والاستعلاء على الذوبان، والبراءة من الهوى، والتوسط والتوازن.
27 -
ومن خصائص الحكم الإسلامي: الكمال والشمول، فشريعة الإسلام عامةً وناسخةً وخاتمة. ولكمال هذه الشريعة وشمولها مظاهر متعددة منها: الثراء، والاستغناء، وتجاوز حدود الزمان والمكان، والمرونة، والوفاء بمصالح البشر.
28 -
ومن خصائص الشريعة الإسلامية: العدالة والمساواة، فالشريعة تجعل العدالة فريضةً في الأمور القولية والفعلية، والعائلية والمالية والقضائية والتعبدية، والنفسية، وفي المعاملات القلبية، والأمور السياسية، وفيما يتعلق بالتعامل مع الأعداء الأغيار، ومع المسلمين من أبرار أو فجار.
29 -
العدالة في حكم الإسلام مودعة في أحكامه نفسها، فمن حكم بالإسلام حكم بالعدل، بخلاف الشرائع الوضعية التي تعتبر العدل هو تنفيذ القانون، ولو كان ظالماً، وتجعل العدالة مبدأ يُلجأ إليه لتلطيف أحكام القانون الصماء، بينما العدل والعدالة في الإسلام وصفان لشيء واحد.
30 -
وللحكم في الإسلام مقاصد، ينفرد بتوخي تحقيقها: أولها: تحقيق العبودية لله، فالحاكمية تقصد إلى تحقيق التوحيد مثلما تهدف العبودية ومن تلك المقاصد أيضاً إقامة الدين في الأرض عن طريق نشر العلم وإطلاق الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد في سبيل الله.
ومن المقاصد أيضا: توخي الإصلاح في كل شؤون الدنيا والآخرة، حيث يدور منهاج الشريعة حول أمور ثلاثة فيها مصالح العباد، وهي درء المفاسد وجلب المصالح والجري على مكارم الأخلاق.
31 -
الدولة الحاكمة بما أنزل الله تقوم على ثلاث دعائم يصلح أمر الأمة بصلاحها، وهي:
(أ) الحاكم الصالح: وهو الإمام المستوفي للشروط الشرعية، التي إذا توافرت فيه ضمنت الصلاح المرجو في الحاكم المصلح.
(ب) الرعية الصالحة: وصلاحها يتحقق بقيام الحاكم بواجباتهم نحوها، وقيامها بواجباتها تجاه ولاة أمورها.
(ج) نظام حكم شرعي: وأصدق ما يمثله نظام الخلافة الإسلامية الذي يستمد قواعد دستوره من الكتاب والسنة، ومن إجماع الأمة على ما يفهم منهما، وحيث يقوم هذا الدستور على قواعد أساسية هي: إفراد الله بالحاكمية -والطاعة للولاة في طاعة الله- والشورى.
32 -
لم يكتف القرآن بعرض الأصول النظرية للحاكم الصالح، بل عرض من خلال قصصه أنماطاً من سلوك الحكام الصالحين، كان أبرزها: يوسف عليه السلام، وسليمان عليه السلام، وذو القرنين الحاكم الصالح، ومن خلال قصصهم في القرآن تستنبط فوائد غزيرة مما ينبغي أن يتحلى به الحاكم من صفات.
33 -
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل القمة التي وصل إليها البشر في مجال الحكم الصالح المصلح، فقد تجمعت في شخصيته عليه الصلاة والسلام الصفات التي تفرقت في جميع الأنبياء والمرسلين.
وقد قام عليه الصلاة والسلام بأعظم دور إصلاحي في التاريخ البشري، بحيث لم يُسبق في ذلك ولم يُلحق، ونظم للأمة العلاقات والصلاة الهامة الثلاث، وهي: صلة الأمة بربها، وصلتها بعضها ببعض، وصلتها بغيرها، وقد توافرت في شخصيته عليه الصلاة والسلام كل عناصر القيادة الناجحة للأمم في أوقات السلم والحرب.
34 -
كما أن لله تعالى أحكاماً شرعية دينية أمرنا بالامتثال لها؛ كذلك فإن له سبحانه أحكاماً قدرية كونية أمرنا بالإيمان والإيقان بها، وهي أحكام الله فيمن امتثل أو أعرض عن الأحكام الشرعية، وتلك الأحكام القدرية هي المعبر عنها في القرآن بـ (السنن). فالسنن الإلهية في الأنفس والآفاق توضح لمن استقصاها الآثار الطيبة التي تقتطف عندما يمتثل الناس لحكم الله، وتبين الآثار السيئة التي يجنيها الناس من جراء الإعراض عن حكم الله. وهذه الآثار المعبرة عن أحكام الله القدرية، تشمل الدنيا والآخرة، وهي تمثل مادة غزيرة جداً في كتاب الله تعالى.
35 -
وأخيراً ظهر لي أن الفساد الواقع والمتوقع من جراء الانحراف عن شرع الله تعالى قد جر الأمة -بل الناس جميعاً إلا من رحم الله- إلى مشارف هوة سحيقة، تطالع البشرية فيها مصيرها النكد في شقاء الآخرة بعد ضنك الدنيا الذي تحياه بعيدةً عن هدايات الرسل. وفي مثل هذه الفترات التي تظلم بالجهالات تارةً، وتكفهر بالصراعات أخرى تحت الغيوم الملبَّدة بالقلق والحيرة والترقب، كان يتوقع في تاريخ الأمم السابقة أن يبعث الله نبياً أو رسولاً، يرفع الظلام عن الأرض، ويدفع الانتقام الإلهي عن الناس، ولكن النبوة قد ختمت ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فهل ضاعت آمال البشرية في العودة إلى حياة القرار والطهر والسعادة لعدم قدوم نبي جديد؟
…
كلا.
إن شمس الرسالة المحمدية لم تنكسف، وغطاء رعايتها للعالم لم ينكشف، فلا زال الدين حياً، والكتاب محفوظاً، ولن تزال في الأمة طائفة على الحق الواضح يصلح الله تعالى بها أمر الناس كلما دهمتهم الفتن، أو ضربتهم المحن.
فالحاجة إذن ليست ماسةً إلى منقذ من الأنبياء جديد، ولكنها ماسةً إلى منهج إحياء وتجديد، يقوم عليه علماء ودعاة مخلصون، يترسمون خطا الأنبياء ويستلهمون مناهج الإصلاح التي جاءوا بها علماً وعملاً وجهاداً، ويصبرون على ذلك ويُصابرون، حتى تتجمع تيارات الخُلصاء من الأمة معهم في سيل إصلاحي جارف، فسيل الانحراف الذي أحدثه المبدلون لا يمسه إلا سيل يمده المستمسكون، وتيارات الأهواء لا تدفعها إلا تيارات أقوى منها، تستمد قوتها من الهدى لا الهوى. ولا أمل في إيقاف مسيرة التقهقر في الأمة إلا بدفعها إلى سيرة معاكسة تتقدم نحو الإصلاح بكفاح جاد، وجهدٍ مستبصر، وخطى لا تتردد، حتى يتحول المدرى مرةً أخرى لصالح الإسلام والمسلمين. وإن هذا العمل الكبير هو في الحقيقة خليق بالأنبياء وهم الجديرون به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(العلماء ورثة الأنبياء)(1). فقَدَرُ هؤلاء العلماء وقَدْرهم أن يقوموا بمثل ما كان يقوم به الأنبياء عندما كانت غربة الدين تشتد وسيطرة الباطل تطغى. وعلى هؤلاء العلماء والدعاة والمطلعين معهم بتلك المهمة الضخمة؛ أن يستجمعوا في ذوات أنفسهم صفات الربانيين المصلحين، وذلك بصدق اللجوء إلى الله، وكمال الاستعانة به، وجميل التوكل عليه، وقوة اليقين في نصرته وتأييده لأهل الحق، والمثابرة على الدعوة والصبر عليها، وعدم التعجل في قطف ثمارها، والتجرد لتلك الدعوة وتفريغ القلوب والأوقات لها، وإعطاء القدوة من النفس في الامتثال والخضوع لشريعة الله، والأخذ بالعزائم دون الرخص، كلما أمكن، والتزود الدائم من مناهل العلم النافع، والاستعداد المستمر بأنواع العمل الصالح. فإذا رأى الله تعالى في قلوب خواص الأمة تغييراً نحو الصلاح، غيَّر أحوالهم إليه، وغيّر بهم حال الأمة، وغيّر بالأمة وجه الدنيا، لتعود البشرية مرةً أخرى إلى نعيم الحياة تحت ظلال حكم الله، بعد طول شرود. قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(2).
فاللهم ردنا إليك رداً جميلاً، وأعدنا إلى دينك عوداً حميداً، واهدنا واهدِ بنا ويسر الهدى لنا.
وصلِّ اللهم على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذرّيته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(1) رواه الترمذي في أبواب العلم، ب (فضل الفقه على العبادة /19) ح (2683)(7/ 325) ورواه أبو داود في كتاب العلم، ب (فضل العلم/1) ح (3641)(4/ 57) وصححه الألباني.
انظر صحيح سنن أبي داود (2/ 694) ح (3096)
(2)
سورة الرعد، آية:(11).