الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة
المؤلف/ المشرف:
عثمان علي حسن
المحقق/ المترجم:
بدون مكتبة الرشد - الرياض ̈الأولى
سنة الطبع:
1412هـ
تصنيف رئيس:
توحيد وعقيدة ومنهج
تصنيف فرعي:
عقيدة - أصول المنهج
الخاتمة
وتتضمن مطلبين:
الأول: حكم من خالف منهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد.
الثاني: نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، ونتائج المخالفة لذلك.
المطلب الأول
حكم من خالف منهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق -أسوةً باليهود والنصارى- إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، وأن جميعها في النار، خلا واحدةً هي الناجية، وهي الجماعة، وهي الفرقة المنصورة، وأن سبب نجاتها هو التزامها بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أمور الديانة: علماً وعملاً.
وقد أفتى أهل العلم بأن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث، قال الإمام أحمد رحمه الله:(إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم)(1). وروي نحوه عن يزيد بن هارون، وأحمد بن سنان، وعلي بن المديني، والإمام البخاري رحمهم الله (2).
وأهل الحديث والسنة: هم الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، وهم -أيضاً- أعظم الناس اتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذي يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة -عن رأي أو ذوق- ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بعث به من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه.
وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأحكام، ومسائل المعاد وحشر الأجساد وغير ذلك، يردونه إلى الله ورسوله، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدىً من الله ظلم (3).
وعليه، فما عدا طائفة أهل الحديث هم أهل أهواء وبدع وتفرق، محكومٌ على جملتهم بمخالفة الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق:
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام: أهل بدعٍ وزيغٍ، ولا يعدون عند الجميع -في جميع الأمصار- في طبقات العلماء، وإنما العلماء: أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم)(4).
وقال هارون الرشيد رحمه الله: (طلبت أربعةً فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث)(5).
وقال رجلٌ للحسن بن زياد اللؤلؤي في زفر بن هذيل: (أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله! ما أحمقك! ما أدركتُ مشيختنا: زفر، وأبا يوسف، وأبا حنيفة، ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم)(6).
(1) رواه عنه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص: 25 برقم: 42، ص 27 برقم:48.
(2)
انظر: شرف أصحاب الحديث ص: 26 برقم 46، ورقم: 47، ص: 27 برقم 48، ورقم: 49، ورقم: 50، ورقم:51.
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 347، 348.
(4)
جامع بيان العلم 2/ 117.
(5)
شرف أصحاب الحديث ص: 55 برقم: 110.
(6)
جامع بيان العلم 2/ 117.
وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا تجوز الإجارات في شيءٍ من كتب الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتباً، ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك)(1).
وقال ابن خويز منداد -من أئمة المالكية-: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع: أشعرياً كان، أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادةً في الإسلام أبداً، ويُهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها)(2).
وقال يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي -يوم ناظره حفص الفرد- قال لي: يا أبا موسى لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنبٍ ما خلا الشرك، خيرٌ من أن يلقاه بشيءٍ من الكلام، لقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه)(3).
وأيضاً قال الشافعي رحمه الله: (حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويُطافُ بهم في العشائر والقبائل؛ فينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام)(4).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إنه لا يفلح صاحب كلامٍ أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل)(5).
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: (
…
فلم يسع مسلماً يُقرُّ بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يأبى عما وُجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحُجّة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلاً للخروج عن أمرهما، وموجباً لطاعة أحد دونهما فهو كافر لاشك عندنا في ذلك) (6).
وقال رحمه الله -في موضعٍ آخر- عقب قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)(النساء: 61) قال: (فليتق الله -الذي إليه المعاد- امرؤ على نفسه، ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختاراً للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسائل الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها، فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما، ودعاه إلى قياس، أو إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقاً. نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة)(7).
حكم الاثنين وسبعين فرقة:
اختلف الناس في تكفير أصحاب الفرق العظمى: الخوارج والشيعة والمرجئة والجهمية، والذي يقوى في النظر، وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، ويدل عليه عمل السلف الصالح فيهم (8):
فمعاملة علي رضي الله عنه للخوارج مشهورةٌ، حيث امتنع عن تكفيرهم، وقاتلهم مقاتلة البغاة، لا الكفار (9).
(1) جامع بيان العلم 2/ 117.
(2)
جامع بيان العلم 2/ 117.
(3)
جامع بيان العلم 2/ 116.
(4)
شرف أصحاب الحديث ص: 78 برقم: 168، وتحريم النظر ص:17.
(5)
جامع بيان العلم 2/ 116، وتحريم النظر ص:17.
(6)
الإحكام 1/ 110.
(7)
الإحكام 1/ 113.
(8)
انظر: الاعتصام 2/ 185 - 186، 198، 202، وانظر: مسألة في تكفير أهل البدع أم هم كأهل الكبائر (ضمن ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأندلسي) ص: 33، 34 تحقي: د/محمد عبد الوهاب خلاف -المركز العربي الدولي للإعلام، المطبعة العربية الحديثة- الطبعة الأولى 1981م - مصر، وإيثار الحق ص:416.
(9)
انظر: إيثار الحق ص: 429.
وكذلك لما ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر والتجهم لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران (1)، ولو خرجوا إلى كفر محضٍ لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين.
وأيضاً فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) فيه إنفاذ الوعيد، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه؛ لأن الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين.
وأيضاً فإن ظاهر الحديث (ستفترق أمتي
…
) يقتضي أن هذه الفرق من الأمة، وإلا فلو خرجوا إلى الكفر لم يعدوا منها البتة.
وقد أخرج عبد الله بن المبارك الجهمية من الفرق الاثنتين وسبعين وقال: (أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم (2) وكان يقول: (إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية)(3). قال ابن تيمية: (وهذا الذي قاله اتبعه عليه طوائف من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم
…
) (4).
وقال آخرون من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين وسبعين فرقة (5).
فمن أخرج الجهمية لم يكفر الفرق الاثنتين وسبعين، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق العصاة، ومن أدخل الجهمية فهم على قولين (6):
الأول: تكفير الاثنتين وسبعين فرقة، وهو قول بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين. أما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -الذين يقدمون علياً على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم جميعاً- ونحو ذلك.
الثاني: عدم تكفير أحدٍ من الفرق الاثنتين وسبعين إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، فكما لا يكفر أحد بذنب، كذلك لا يكفر أحدٌ ببدعة.
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة، المنكرين للصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم، ولا يرى، ولا يباين خلقه، ولا علم له، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، وأن القرآن مخلوق
…
وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاعٌ عند أحمد وغيره، وأما القدرية النافون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال (7).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (8): (وفصل الخطاب بذكر أصلين:
أحدهما: أن يُعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً، فإن الله منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمنٌ به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافقٌ مستخفٍ بالكفر
…
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً، وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.
(1) كقول طاووس: (احذروا معبداً الجهني فإنه قدري، كتاب السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 108، وكان الحسن ينهى عن مجالسته ويقول: (لا تجالسوه فإنه ضال مضل) كتاب السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 109.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 350، وانظر: السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 6.
(3)
السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 7، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 350.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 350.
(5)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 351.
(6)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 351، 352.
(7)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 352.
(8)
مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 352 - 355.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمانٌ باطناً وظاهراً، لكن فيه جهلٌ وظلمٌ حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوانٌ وظلمٌ يكون به فاسقاً أو عاصياً، وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفوراً له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفراً: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ بعيدةً لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيءٍ مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب (تعالى) عليه، ولما أنزل الله على رسوله.
وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة وإنما يردونها بالتحريف.
الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع. فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله.
الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها، لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثيرٍ من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطناً وظاهراً؛ وإنما التبس عليهم واشتبه هذا، كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه).
البدعة نوعان:
لا شك أن كل بدعة ضلالة، ومجاوزة لحدود الله، واتهامٌ للشريعة بالنقص والقصور، وهي من هذه الجهة كبيرة وأي كبيرة، بل هي كفر بالله ورسالاته.
لكن إذا أضيفت البدع بعضها إلى بعض، تفاوتت رتبها، فبعضها يقدح في أصل الإيمان وهي البدع المكفرة، وآخر يقدح في كماله الواجب أو المستحب، وهي ما يكون من البدع في مرتبة الكبيرة أو الصغيرة (1):
فالبدعة المكفرة تكون بإنكار أمرٍ مجمعٍ عليه متواتر من الشرع معلومٌ من الدين بالضرورة، من جحود مفروض، أو فرض ما لم يفرض، أو تحليل محرم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله وكتابه عنه من نفي أو إثبات، ويدخل في ذلك اعتقاد إلهية في بعض البشر كما فعلت النصارى في عيسى عليه السلام، وغالية الشيعة في علي رضي الله عنه، وغالية المتصوفة مع بعض الشيوخ، ويدخل في ذلك -أيضاً- نفي الأسماء والصفات عن الله تعالى؛ لأنه تكذيبٌ للنصوص المتواترة المعلومة من الدين بالضرورة ولما يستلزم من تشبيه الله تعالى بالمعدومات، ويدخل في ذلك -أيضاً- قول من يقول: العقل أو الذوق أو السياسة حجة مقطوعٌ بها، وتعارض بها الشريعة، وقول من يقول: أنا لا أحتاج -في أمور الديانة- إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنا معه كالخضر مع موسى لا تلزمني شريعته أو نحو ذلك من المقالات الكفرية (2).
(1) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/ 334 ومسألة في تكفير أهل البدع لأبي الأصبغ ص: 35، 36، وإيثار الحق ص: 415، 416، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد للشيخ حافظ بن أحمد حكمي 2/ 503 - 505، دار الفتح الإسلامي الإسكندرية (بدون رقم الطبعة وتاريخها).
(2)
انظر: مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية 1/ 21، 22.
أما البدعة غير المكفرة فهي كل بدعةٍ لم تقدح في أصل الإيمان، ولم تبطل ما تواتر من الشرع وكان معلوماً من الدين بالضرورة، لكنها ضلال وزيغٌ عن الحق وعدولٌ عن السنة، وهي في ذلك على درجات:
منها: قول بعض الرافضة: إن علياً إمام، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، والأئمة من ولده يقومون مقامه في ذلك.
ومنها: تأخير الصلوات عن أوقاتها والمداومة على ذلك.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (ومما ينبغي -أيضاً- أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة)(1).
التفريق بين الكفر وقائله:
وهذا من الأصول العظيمة التي امتاز بها أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق، أنهم يفرقون بين المقالة وصاحبها، فالمقالة قد تكون كفراً أو فسقاً وصاحبها ليس بكافر ولا فاسق، كما أنها تكون إيماناً وتوحيداً وصاحبها ليس بمؤمن ولا موحد.
ولكي توافق مقالة الكفر صاحبها، ويوصف بها، لابد من تحقيق شرائط وانتفاء موانع:
أما الشروط، فمنها (2):
1 -
أن يكون صريح قوله الكفر، عن اختيار وتسليم.
2 -
أن يكون لازم قوله الكفر، وعرض عليه فالتزمه، أما إذا لم يلتزمه، بل ردَّه وأنكره فليس بكافر.
3 -
أن تقوم الحجة عليه ويتبينها؛ لقوله تعالى: (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الإسراء: 15) وقوله: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(النساء: 115).
وأما الموانع، فمنها (3):
1 -
أن يكون حديث عهد بالإسلام.
2 -
أن يكون قد نشأ بباديةٍ بعيدةٍ، ويدخل معه من لم يجد إلا علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم.
3 -
أن يكون مغيب العقل بجنون ونحوه.
4 -
أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسنة، أو بلغته ولم تثبت عنده -إن كانت سنة- أو لم يتمكن من فهمها.
5 -
بلغته وثبتت -عنده- وفهمها، ولكن قام عنده عارض -من رأي أو ذوق- أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً. ويدخل معه المجتهد المخطئ، فإن الله يغفر له خطأه ويثيبه على اجتهاده إن كان حسن النيّة.
وعليه، فلا يجوز الحكم على معينٍ بالكفر إلا بعد تحقيق شروطه وانتفاء موانعه، وما أثر عن بعض السلف من إطلاق التكفير واللعن فهذا يبقى على إطلاقه وعمومه، ولا يتعين في حق إنسان إلا بدليل: قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذي لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثيرٌ من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية؛ من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكفار
…
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 348.
(2)
انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/ 334، ومجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 504.
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 179، 231، 23/ 345، 346، 7/ 217، 218، وطريق الهجرتين لابن القيم ص: 412، 413.
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحةٌ في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة
…
) (1).
فالمخالف للكتاب والسنة إما أن يكون مجتهداً مخطئاً، أو جاهلاً معذوراً، أو متعدياً ظالماً كأن يرتكب كبيرةً، أو منافقاً زنديقاً كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أو مشركاً ضالاً وهو المصرح بالكفر، وكلٌ يعامل بحسبه.
ومع ذلك فلا ينبغي أن يفهم أن من قام في حقه ما يمنع لحوق الوعيد به، أو عمله هذا -مخالفته للسنة- جائزٌ أو مشروع، فضلاً عن الوجوب أو الاستحباب.
العذر بالجهل (2):
لابد من التفريق بين جاهلٍ تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه، وآخر لم يتمكن من ذلك بوجه:
فالمتمكن المعرض مفرِّط تاركٌ للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم لا يتمكن منه بوجه، فهم قسمان:
الأول: مريد للهدى، مؤثرٍ له، محبٍ له، لكنه غير قادرٍ عليه وعلى طلبه، وذلك لعدم وجود من يُرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له، لكنه لا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. فهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق:
فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه -بعد استفراغ الوسع في طلبه- عجزاً وجهلاً.
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرقٌ بين عجز الطالب وعجز المعرض.
والمقصود في هذا المطلب بيان أن مخالفة منهج أهل السنة في الاعتقاد، قد تكون كفراً صريحاً، وقد تكون دون ذلك، والمخالف قد يكون كافراً معلناً كفره، وقد يكون منافقاً مبطناً كفره، وقد يكون معتدياً ظالماً، أو جاهلاً معذوراً، أو مجتهداً مخطئاً. قال ابن تيمية رحمه الله: (ليس كل من خالف في شيءٍ من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته
…
بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً) (3).
المطلب الثاني
نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، ونتائج المخالفة لذلك
وقد جمعت في ذلك عشرين نتيجةً، أذكرها على النحو التالي:
النتيجة الأولى: تحقيق كمال الدين، وتمام النعمة، وقيام الحجة:
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 488، 489، وانظر: 23/ 348، 349.
(2)
انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص: 412، 413، ومجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 16، واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 580.
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية 3/ 179.
التزام هذا المنهج فيه اعترافٌ حقيقي بأن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وكشف الغمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم حواريو الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثته في العلم والإيمان، وحفظة الله تعالى في عباده، أقاموا الدين علماً وعملاً، وبلغوه لفظاً ومعنى، وهذا وإن كان واضحاً في كل مسائل الديانة إلا أنه في مسائل الاعتقاد أشد وضوحاً، وأعظم رسوخاً، إذ معرفة الاعتقاد (أصل الدين)، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!.
ومن المحال -أيضاً- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيءٍ حتى الخراءة، وقال:(تركتكم على المحجةٍ البيضاءٍ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)
…
ماحالٌ على تعليمهم كل شيءٍ لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب: زائدين فيه أو ناقصين عنه
…
) (1).
النتيجة الثانية: بيان ثبوت العصمة للشارع:
الالتزام بهذا المنهج يفيد إثبات العصمة للشارع الحكيم، بحيث لا يجوز الاستدراك عليه، وذلك بعد أن تقرر بالأدلة والبراهين اليقينية أن ليس في الشرع ما يخالف مقتضيات العقول الصحيحة، كما أنه ليس في العقل الصحيح ما يخالف نصاً صحيحاً صريحاً من نصوص الكتاب والسنة؛ بل كل ما يظن أنه يخالف الشرع من العقل فيمكن إثبات فساده بعقلٍ صحيح يبين أن تلك المخالفة مجرد ظن وتوهم.
وعليه، فيجب النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان واعتبارها اعتباراً كلياً في العقائد والعبادات والمعاملات، وعدم الخروج عنها البتة؛ لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، المنحرف عن جادة الصواب إلى بنيات الطرق، وهذا هو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسببه الاستدراك على الشرع (2).
النتيجة الثالثة: التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة:
الالتزام بهذا المنهج يفيد التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة، والاستدلال بها مجتمعةً -مالم يكن بين بعضها تناسخ- لأنها خرجت من مشكاةٍ واحدة، وتكلم بها من وصف نفسه بكمال العلم وتمام الحكمة، ومن أصدق من الله قيلاً، فلا يجوز ضرب بعضها ببعض؛ لأن ذلك يقتضي التكذيب ببعض الحق، إذ أنه من باب معارضة حق بحق، وهذا يقتضي التكذيب بأحدهما أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق؛ قال تعالى:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)[الزمر: 32، 33](فذم سبحانه من كَذَبَ أو كذَّب بحق، ولم يمدح إلا من صدَق وصدَّق بالحق، فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون)(3).
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 6، 7.
(2)
انظر: الاعتصام للشاطبي 2/ 310، 311.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 8/ 404.
النتيجة الرابعة: تعظيم نصوص الكتاب والسنة:
إن الالتزام بهذا المنهج يجعل المسلم في موقف المعظم لنصوص الكتاب والسنة؛ لأنه يعتقد أن كل ما تضمنته هو الحق والصواب، وفي خلافها الباطل والضلال.
أما المخالفون فقد سقطت من نفوسهم هيبة النصوص حتى استحلوا حرماتها، وعاثوا فيها تكذيباً أو تحريفاً، وإن أحسنوا المعاملة أعرضوا عنها بقلوبهم وعقولهم ولم يستدلوا بشيءٍ منها، فهم:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ)(البقرة: 78).
النتيجة الخامسة: عصمة علوم أهل السنة:
أهل السنة معصومون فيما يأخذونه عن إجماع الصحابة والتابعين؛ لأن إجماعهم حجة، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فكيف إذا أجمع السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم على مسألةٍ، فإن خلافهم فيها لا يجوز؛ لأنه خلاف الإجماع، وخلاف القرون المفضلة.
أما أهل البدع والتفرق فلم يبالوا بهذا الأصل، حتى أعلنوا مخالفتهم لسلف الأمة وأئمتها، ونسبوهم إلى أعظم السفه والجهل.
النتيجة السادسة: السكوت عما سكت عنه السلف:
كل مسألة سكت عنها الصحابة والسلف الصالح وتكلم فيها الخلف -ولاسيما فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد والإيمان- إلا كان السكوت عنها أولى وأليق، ولم يأت فيها الخلف إلا بباطل من القول وزورا. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في وصيته إلى عدي بن أرطأة: (
…
فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما يرضى به القوم لأنفسهم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصرٍ قد كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى -بفضل- لو كان فيه أجر، فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) (1).
النتيجة السابعة: النجاة المحضة موقوفة على متابعة مذهب أهل السنة:
إن النجاة المحضة وقف على من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا إنما يُعرف عن طريق السنن المروية، والآثار الصحابية، وأولى الناس بمعرفة ذلك هم أهل السنة والجماعة؛ وذلك لاشتغالهم وعنايتهم بها، وانتسابهم إليها، بعكس أهل البدع من المتكلمة والمتصوفة الذين هم من أبعد الناس عن معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مستغنين عن ذلك بالمحاورات الفلسفية والخيالات الصوفية، ومنهم من يعترف بقلة بضاعته من الإرث النبوي، ومنهم من لو اطلعت على مصنفاته لا تكاد تقف على آيةٍ كريمة، أو حديثٍ شريف، أو أثرٍ عن صحابي شاهدين على أنفسهم بالجفاء.
ثم ها هي الفرق الكبار: المعتزلة والخوارج والشيعة كلهم يطعن في الصحابة رضوان الله عليهم طعناً صريحاً (2):
أما المعتزلة فقد طعن زعيمهم النظام في أكثر الصحابة وأسقط عدالة ابن مسعود، وطعن في فتاوى علي بن أبي طالب، وثلب عثمان ابن عفان، وطعن في كل من أفتى من الصحابة بالاجتهاد، وقال: إن ذلك منهم إنما كان لأجل أمرين: إما لجهلهم بأن ذلك لا يحل لهم، وإما لأنهم أرادوا أن يكونوا زعماء وأرباب مذاهب تنسب إليهم، فنسب خيار الصحابة إلى الجهل أو النفاق.
ثم إنه أبطل إجماع الصحابة ولم يره حجة، وأجاز أن تجتمع الأمة على الضلالة.
(1) الشريعة للآجري ص: 233.
(2)
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 318 وما بعدها.
وأيضاً كان زعيمهم واصل بن عطاء الغزال يشكك في عدالة علي وابنيه، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وعائشة وكل من شهد حرب الجمل من الفريقين، فقال مقالته المشهورة: لو شهد عندي علي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق ولا أعرفه بعينه. ووافقه على ذلك صاحبه عمرو بن عبيد وزاد عليه بأن قطع بفسق كل من الفريقين.
وأما الخوارج فتكفيرهم لعلي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم واستباحتهم لدمائهم وأموالهم مشهورٌ معلوم، بل ساقوا الكفر إلى كل من أذنب من هذه الأمة.
أما الشيعة فشعارهم الطعن في سائر الصحابة -عدا آل البيت- وغلاتهم من السبئية والبيانية، وغيرهم قد حكم علماء الإسلام عليهم بالردّة والخروج من الدين بالكلية.
والإمامية منهم ادعت ردَّة أكثر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والأشاعرة ونحوهم من المتكلمين ممن يدعي في طريقة الخلف العلم والإحكام، وفي طريقة السلف السلامة دون العلم والإحكام، يلزمهم تجهيل السلف من الصحابة والتابعين، وهو طعنٌ فيهم من هذا الوجه؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن حكى عنهم هذا الكلام:(ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض)(1).
فكيف يقال في هؤلاء جميعاً أنهم موافقون للصحابة في علومهم وأعمالهم؟!.
النتيجة الثامنة: شرف الانتساب للسلف الصالح:
لقد تقدم في التمهيد لهذا البحث بيان أن السلفية تطلق ويراد بها أحد معنيين:
أحدهما: الحقبة التاريخية التي تختص بأهل القرون الثلاثة المفضلة؛ لحديث: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
).
الثاني: الطريقة التي كان عليها أهل تلك القرون الفاضلة من التمسك بالكتاب والسنة وتقديمها على ما سواهما، والعمل بهما على مقتضى فهم الصحابة والسلف.
فالسلفية بالمعنى الثاني منهاجٌ باقٍ إلى يوم القيامة يصح الانتساب إليه متى التزمت شروطه وقواعده؛ لحديث: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
وعليه، فكل أحدٍ وإن تأخر زمانه عن عصر السلف، لكنه التزم منهاجهم في العلم والعمل فهو منهم، وسلفي معهم، فالمرء مع من أحب. قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله لبعض أصحابه:(أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن مثلهم، وإن رأيتَ أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت)(2).
النتيجة التاسعة: عدم صحة الإيمان بالمشروط:
الالتزام بهذا المنهج يقرر عدم صحة الإيمان المشروط كمن يقول: أنا لا أؤمن بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعلم انتفاء المعارض العقلي، وأنا لا أؤمن حتى تصدق خبره رؤيا منام، أو كشف، أو ذوق، أو حس (التجربة المعملية) أو نحو ذلك من الشرائط، فهذا إيمانٌ لا يصح، وصاحبه فيه شبه من الذين:(قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)(الأنعام: 124)، والذين قالوا:(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)(البقرة: 55).
فالواجب على الإنسان -إذا تبين له صدق الرسول- أن يؤمن بالله ورسالاته إيماناً غير مشروط، ولا متعلق بشيء من خارج. ولهذا كان شعار أهل الإيمان:(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)(البقرة: 285)، وشعار أهل الكفر والطغيان:(سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)(البقرة: 93).
النتيجة العاشرة: تكثير الصواب وتقليل الخطأ:
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 157.
(2)
تلبيس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص: 85. إدارة الطباعة المنبرية -الطبعة الثانية 1368هـ - مصر - دار الكتب العلمية بيروت.
الاعتماد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الاستدلال يقلل الخطأ ويكثر الصواب والتوفيق، وهذا الخطأ يكون بسبب نقص علم المستدل أو قصور فهمه، أو سوء قصده، وهذا قد يوجد في بعض أهل السنة (ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأً مغفوراً، وقد يكون منكراً من القول وزوراً، وقد يكون من البدع الضلالات التي توجب غليظ العقوبات؛ فهذا لا ينكره إلا جاهلٌ أو ظالم
…
) لكن -مع ذلك- هم بالنسبة إلى غيرهم -في ذلك- كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خيرٍ يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث والسنة بالنسبة إلى غيرهم من طوائف المسلمين (1): يعرفون الحق ويرحمون الخلق، أما أهل البدع فيكذبون بالحق ويكفرون الخلق، فلا علم ولا رحمة
…
(2).
النتيجة الحادية عشرة: الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما:
الالتزام بهذا المنهج يفيد الاستغناء بالكتاب والسنة عن النظر في الكتب المتقدمة: كالتوراة والإنجيل والزبور، لما أصابها من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، فالقرآن الكريم كتاب مستقل بنفسه، ناسخٌ لما قبله، لم يحوج الله تعالى أهله إلى كتاب آخر -كما هو حال أهل الزبور والإنجيل مع التوراة- والقرآن قد اشتمل على جميع ما في الكتب الأخرى من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد فيها، مع ضمان الحفظ ونزاهة النص عن التحريف، ولهذا كان مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، ويقرر ما فيه من الحق، ويبطل ما حرف منه، وينسخ ما نسخه الله تعالى (3). ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر في صحيفة من التوراة غضب وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية
…
والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
النتيجة الثانية عشرة: طريقة السلف: أسلم وأعلم وأحكم:
إن الذين يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهي التأويل الذي هو صرف النصوص إلى معنى قد تحتمله اللغة، لكن في غير هذا السياق المعين، والتأويل عندهم مظنون بالاتفاق (4) فلا أحد منهم يقطع بالمعنى الذي صرفوا اللفظ إليه، لم يحصلوا شيئاً، بل تركوا النصوص وفيها الحق واليقين، ولجأوا إلى احتمالات وتجويزات مزقتهم كل ممزق، مع حيرة وضياع:
قال الشوكاني رحمه الله (5): (فهم -أي أهل الكلام- متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ضفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا: هنيئاً للعامة، فتدبر هذه الأعلمية التي حاصلها أن يهنئ من ظفر بها للجاهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم ويمشي على طريقهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوته، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبها: الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه، وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلاً به، عاطلاً عنه، ففي هذا عبرة للمعتبرين وآيةٌ بيّنةٌ للناظرين
…
).
النتيجة الثالثة عشرة: اجتماع محاسن الفرق الأخرى لأهل السنة خالصة من كل الدر:
(1) انظر: نقض المنطق لابن تيمية ص: 22، 23.
(2)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/ 431.
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 19/ 184، 185.
(4)
انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 104.
(5)
التحف في مذاهب السلف ص: 3، 4.
الالتزام بهذا المنهج يجمع لأهل السنة ما عند الفرق الأخرى من الحق، مع نبذ أباطيلهم؛ لأن ما عند الفرق المخالفة للحق شبه، والشبهة ما أشبهت الحق من وجه، ولهذا تشتبه على الناس، فأهل السنة يأخذون بالوجه الحق، ويدعون الوجه الباطل، وسبب هذا التوفيق هو استدلالهم بجميع النصوص، من غير توهم تعارض بينها، أو بينها وبين العقل الصحيح الصريح، أما أهل الفرق الأخرى فقد ضربوا النصوص بعضها ببعض، أو عارضوها بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وأهل السنة آمنوا بالكتاب كله، وأقاموه علماً وعملاً.
النتيجة الرابعة عشرة: مخالفة مسالك الأمم الضالة:
الالتزام بهذا المنهج يفيد مجانبة مسالك الأمم الضالة من اليهود والنصارى وغيرهم، وقد أمرنا بمخالفة طرائقهم، وتجنب سننهم، ومنها أنهم ردوا على الرسل ما أخبروا به، واعترضوا عليه بالاعتراضات الباطلة، كما قالت اليهود لموسى عليه السلام:(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)(البقرة: 55) وقال الذين كفروا: (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)(الأنعام: 124).
وكل من أوقف الإيمان بالنصوص على موافقة عقله أو قياسه أو ذوقه أو كشفه أو منامه أو حسه ففيه شبه من اليهود والنصارى والذين كفروا، وقد أمرنا بمخالفتهم. ولهذا لا تكاد تجد شبهةً أو مقالةً منحرفة في الفرق المخالفةِ لأهل السنَّة والجماعة إلا وفي اليهود والنصارى نظيرها.
النتيجة الخامسة عشرة: ما تلزمه المخالفة من الكفر، وما يلتزمه المخالف من الدعوة إلى بدعته:
مخالفة هذا المنهج تؤدي إلى كثير من الكفريات كنفي الصفات، والقول بخلق القرآن، والتكذيب بالقدر، ونفي رحمة الرب تعالى ومشيئته واختياره، والحلول والاتحاد، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، والتكذيب بأخبار المعاد وحشر الأجساد، والطعن في الصحابة وحملة الدين، وغير ذلك من الأمور الكفرية، وقد كان لكل فرقة من الفرق المخالفة لأهل السنة نصيبٌ من هذه الأمور وغيرها.
قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: (وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وكثيرٌ منهم إلى الإلحاد؛ تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين
…
) (1).
كما أنه يغلب على مخالف هذا المنهج أن يكون داعياً إلى بدعته؛ لأنه يتدين بذلك، أي يعتقده ديناً وشرعةً، وأن ما عليه غيره بدعة وضلالة، وعلى هذا يفهم قول من قال: المبتدع لا توبة له (2)؛ لأنه يعتقد أن ما عليه هو الحق، وما دونه الباطل، بخلاف العاصي فإنه مُقِرٌّ بمخالفته ومعصيته، فهذا يُرجى رجوعه وتوبته، بخلاف ذلك المبتدع.
النتيجة السادسة عشرة: اليقين والثبات لأهل السنة، وفي مقابله الاضطراب والتنقل لأهل البدع:
الالتزام بهذا المنهج يفيد الرجل يقيناً وثباتاً، ومخالفته تفيده اضطراباً وتنقلاً: قال ابن تيمية رحمه الله: (إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قولٍ إلى قول، وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه، وتكفير قائله في موضعٍ آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحدٌ منهم عن دينه سخطةً له، بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد. ولهذا قال بعض السلف -عمر بن عبد العزيز أو غيره-: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل (3).
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 85.
(2)
انظر: الاعتصام 2/ 272 - 274.
(3)
رواه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/ 116.
أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفُتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأمة
…
ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعةٍ -عليها طائفةٌ كبيرة- من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث: ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يُقبل بحال.
وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة
…
) (1).
النتيجة السابعة عشر: الشك والحيرة والضياع مصير المخالف:
مخالفة هذا المنهج أورثت المخالفين شكاً وحيرةً وضياعاً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب (كشف الأسرار في المنطق)، وهو عند كثير منهم غايةً في هذا الفن. أنه قال عند الموت: أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف عدمي. أموت وما علمت شيئاً) (2).
وقال رحمه الله: (حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: أبيت بالليل، وأستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء)(3).
وقال آخر: (بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليلٍ على التوحيد سالمٌ عن المعارض فما وجدته)(4).
وهذا الفخر الرازي يقول (5):
(نهاية إقدام العقول عقال وأكثرُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا)
وهذا الشهرستاني يصف حال المتكلمين في قوله (6):
(ولقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم)
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي المتشيع يصف حاله وحال إخوانه من المتكلمين (7):
(فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقض عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفرِ
فلحي الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظرِ
كذبوا إن الذي ذكروا خارجٌ عن قُوة البشر)
قال ابن تيمية: (ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (الذاريات: 8، 9): يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، ويُطافُ بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 50، 51.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 262.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 263، 264.
(4)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 263.
(5)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 160.
(6)
نهاية الإقدام ص: 3.
(7)
شرح الطحاوية ص: 171.
ومن وجهٍ آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذٌ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأُعطوا فهوماً وما أُعطوا علوماً، وأُعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) (الأحقاف: 26). ومن كان عليماً بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً) (1).
ولهذا من أدركته رحمة الله تعالى منهم خرج عن ذلك ورجع إلى طريقة السلف وأوصى بذلك:
روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أحمد بن سنان أنه قال: (كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم)(2) قال أبو بكر بن الأشعث: (كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي)(3).
وقد سُئل الإمام أحمد عنه وما أظهر: فكلح وجهه ثم قال: (إنما جاء بلاؤُهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب)(4).
وقال أبو المعالي الجويني: (لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق وهرباً من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني)(5) وكان يقول لأصحابه: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به)(6).
النتيجة الثامنة العشرة: أهل السنة أعمق علماً وأسد عقلاً:
لما كان أهل السنة ملتزمين بالمنهج الصحيح كان كلامهم في مسائل الكون صحيحاً متفقاً، لا يتكلمون فيها إلا بعلم عقلي أو سمعي، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)(محمد: 17) قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء: 66 - 68)(7).
وقال ابن القيم رحمه الله في شرح آية: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)(النور: 35) قال رحمه الله: (النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نوراً على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهدُ العقلِ والشرع والفِطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادفان ويتوافقان)(8).
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 119/120.
(2)
شرف أصحاب الحديث ص: 55، 56 برقم: 111، وكذلك رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص:84.
(3)
شرف أصحاب الحديث ص: 56.
(4)
شرف أصحاب الحديث ص: 6 برقم: 6.
(5)
تلبيس إبليس ص: 84، 85.
(6)
تلبيس إبليس ص: 85.
(7)
انظر: فتاوى ابن تيمية: 4/ 10.
(8)
اجتماع الجيوش الإسلامية ص: 8.
أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم:
يقول عبد القاهر البغدادي -وهو يذكر ما أجمع عليه أهل السنة وهم- عنده -الأشاعرة-: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها
…
وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها، وكذلك السماء متناهية الأقطار من الجهات الست) (1) وزعم أنه يرد بذلك على الفلاسفة والدهرية.
فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل فضلاً عن الإجماع، بل هو -في زماننا هذا- أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:(والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل، ولا شرع)(2).
النتيجة التاسعة عشرة: قيام المدنية وازدهار الحضارات:
اعتقاد منع التعارض بين النقل والعقل يفيد في عمران الحياة، وازدهار الحضارات؛ فتنعم البشر بهدي الله وشرعه، ولأهل السنة اليد الطولى والقدح المعلّى في تقدم المعارف العقلية، والعلوم التطبيقية، إذ لا هناك ما يحجزهم دونها، كما حدث في الدولة المسيحية في عصور الظلام، حين انقدح عندهم التعارض بين نصوص الإنجيل ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم التطبيقية والمعارف العقلية إلى أشد أنواع التنكيل من قبل الكنيسة كان الانعتاق من سلطانها، وبداية ظهور الاتجاه العلماني.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم (بذلك)(3) متمتعين .. ) (4).
النتيجة العشرون: توحيد الصفوف وجمع الكلمة:
إن الالتزام بهذا المنهج يوحد بين صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم؛ على تنوع اهتماماتهم العلمية والعملية، وتفاضل مقاديرهم في العلم والإيمان، ولا يعني هذا الاتفاق في جميع تفاصيل المسائل ودقائقها، ولكن اتفاق في الطريق والمنهج الموصل إلى الحق، فإن وجد اختلافٌ بعد ذلك لم يفسد للود قضية، بل يندفع بالتناصح والتشاور، وتذوب حدته في بحر الألفة والمودة:
قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله (5): (السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطرق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلَّما تختلف، وإن (اختلفت)(6) في لفظٍ أو كلمةٍ فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما ذكر دلائل العقل (7) فقلَّما تتفق، بل عقل كل واحدٍ يرى صاحبه غير ما يرى الآخر
…
وبهذا تظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول؛ فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم، فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة
…
فكانوا مع الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، فلم ينقطع عنهم نظام الإلفة
…
فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاً ولا تفرقاً، وبقيت بينهم الإلفة والنصيحة والود والرحمة والشفقة
…
).
ولهذا قيل الاختلاف مع التعادي والتفرق عادة أهل الكلام، والاختلاف مع التوالي والتصويب عادة السلف وأصحاب الحديث (8).
وقال قتادة رحمه الله: (لو كان أمر الخوارج هدىً لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق)(9).
وقال ابن قتيبة رحمه الله: (لو أردنا -رحمك الله- أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف
…
) (10).
(1) الفرق بين الفرق ص: 330، 331، وانظر: أصول الدين له ص: 124، والمواقف للإيجي ص: 199، 217، 219.
(2)
الرد على المنطقيين ص: 311.
(3)
في الأصل (كذلك) ولعل الصواب ما أثبته.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 10.
(5)
الحجة في بيان المحجة ورقة: 165، وهذا النص نسبه ابن القيم في مختصر الصواعق 2/ 426 وما بعدها إلى أبي المظفر السمعاني.
(6)
في الأصل (اختلف) ولعل الصواب ما أثبته، كما في مختصر الصواعق 2/ 426.
(7)
هكذا في الأصل، وفي مختصر الصواعق: وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلَّما تتفق
…
2/ 426.
(8)
انظر: إيثار الحق ص: 160، 161، ومجموع فتاوى ابن تيمية 24/ 172.
(9)
تفسير الطبري 3/ 178.
(10)
تأويل مختلف الحديث ص: 16.