الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلمانيون والقرآن الكريم
المؤلف/ المشرف:
أحمد إدريس الطعان
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار ابن حزم - الرياض ̈الأولى
سنة الطبع:
1428هـ
تصنيف رئيس:
توحيد وعقيدة ومنهج
تصنيف فرعي:
العلمانية والعلمانيون
يمكننا بعد تلك الجولة في المصادر المختلفة أن نشير إلى النتائج التالية:
1 -
لقد خلق الله عز وجل العقل وزوده بأدوات تمكنه من سلوك الطريق الذي يفضي به إلى الحق إذا تجرد عن الأهواء والنوازع والأغراض، ولكنه سبحانه وتعالى أيضاً جعل لهذا العقل حدوداً كما جعل للبصر حدوداً، وحدوده لا يمكن أن تتجاوز عالم الشهادة والحس، ولذلك فكل المغامرات العقلية التي تريد أن تسكتنه الغيب أو تستكشف الملكوت الأعلى باءت بالفشل، والتاريخ الفلسفي الذي بين أيدينا أبرز دليل على ذلك، ونجد فيه مغامرتين للعقل الغربي استغرقت كل مغامرة منهما أكثر من خمسمائة عام، الأولى: مغامرة العقل اليوناني، والثانية: مغامرة العقل الأوربي الحديث، وكلتا المحاولتين انتهت إلى الشك والعدمية واللاأدرية.
2 -
وعندما ينتهي العقل إلى الشك والعدمية واللأدرية مع تمكن النوازع الغريزية والأرضية منه فإنه يصبح وحشاً جامحاً لا يمكن أن يقف في طريق رعوناته وشهواته وأهوائه شيء. وهذا ما حصل عبر مسيرة الفكر الأوربي على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول والمجتمعات، حتى سئم الإنسان نفسه، ولم يعد يشعر لوجوده معنى، لقد أصبح همه وغايته لا يتجاوزان الحدود التي وقف عندها عقله، فلم يفكر بعالم آخر للجزاء والحساب ولذلك فكل ما يمكنه أن يصل إليه من المتع والملذات يجد أن عليه أن يقضيها بسرعة قبل أن تذهب منه، فترسخت الدنيوية (العلمانية) في قلبه، وتمكنت الشهوات من نفسه، وتفاقم ذلك بشدة حتى دفع البشر الثمن في حربين عالميتين أزهقت فيهما ملايين الأرواح عدا عن الملايين الأخرى التي أزهقتها الأمراض المفترسة، أمراض العلمانية والرأسمالية كالإيدز والقلق والاكتئاب والانتحار وغيرها، ولا يزال البشر ينتظرون الكثير من المآسي والكوارث التي ستكون نهايات الآخر ما توصلت إليه الدنيوية العلمانية الجامحة.
3 -
هذه التجربة الغربية كان يفترض أن تكون درساً وعبرة لنا نحن المسلمين بالذات؛ لأن ديننا الحنيف في الوقت الذي مجد فيه العقل وأكد دائماً على دوره في عالم الشهادة وعالم المحسوسات، بين لنا ما لا يمكن للعقل أن يخوض فيه أو يقتحمه من عوالم الغيبيات كالآخرة وكنه الذات الإلهية وكنه صفاتها.
ولكن تواكبت عوامل مختلفة من استعمار وجهل جعلت الدنيوية تجد طريقاً سهلاً إلى دنيا المسلمين، وتفسح لنفسها مكاناً في عقولهم وقلوبهم ومجتمعاتهم، حتى تسبب ذلك في اضطراب في الفكر وبلبلة في العقل، وتحتاج الأمة إلى تظافر الجهود وتكاتف العلماء والمفكرين المخلصين للتخلص من آثارها والحيلولة دون تفاقهما.
أن أبرز ما تجلى من آثار سلبية للعلمانية كانت من حيث التعامل مع القرآن الكريم فظهرت دعوات تكتفي أولاً بالقرآن وتحيد السنة، بحجة أن السنة دخلها الوضع بشدة فلم يعد يمكن تمييز الصحيح فيها من غيره، ثم تطورت الدعوة إلى التخلص من القرآن تحت مسمى خفيف الصدمة هو فكرة (التاريخية) التي تعني في حقيقة الأمر (إخضاع الأحداث والأفكار للصيرورة المادية المكانية النسبية) وكان ذلك يعني بالنسبة للقرآن الكريم (خضوعه لأثر الزمان والمكان والمخاطب بشكل مطلق) أي بدون دليل.
4 -
هذه التاريخية سلك إليها الخطاب العلماني مسالك يستأنس بها المسلمين، فاستخدم لهذا الغرض مفاهيم إسلامية مفرغة من مضامينها الحقيقية، ومجردة من ضوابطها وكوابحها الأساسية، مثل: المقاصد وعلوم القرآن، والفن الأدبي والتأويل، ثم قام بتضمينها وتعبئها بمضامين جديدة استوردها من الشرق والغرب.
5 -
ثم تبين أن المضامين الحقيقية التي ألبست ثياباً إسلامية هي في الحقيقة فلسفات علمانية غربية مستهكلة دنيوية وإنسية وماركسية وهومينوطيقية قد هجرت في ديارها، ولم يجن أهلها منها إلا الضياع والقلق ومزيداً من اليأس والإحباط.
6 -
انعكس ذلك على المرجعية التي يجب أن تحكم الحياة فأصبح المرجع والحاكم هو الإنسان والواقع، أما القرآن فهو مجرد غطاء للتبرير، عليه أن يبارك الواقع، ويرضخ له وإلا فإنه يمكن أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
7 -
ولذلك لم يعد للقرآن معنى في الفكرانية العلمانية لأنه أصبح يقول كل شيء دون أن يقول شيئاً، يقول كل شيء يريده الإنسان، ويسكت عن كل شيء لا يريده الإنسان، ولم تعد له القداسة التي يكنها له المسلمون، فأصبح يدعو إلى النفور، ويمارس التعمية (والإيديولوجية) والخداع والمخاتلة، ويوصم بالتناقض والتفكك -والتبعثر.
8 -
ولمزيد من الوفاء العلماني لجذوره الغربية الدنيوية اجتر كل ما قاله المبشرون من أمثال فندر في كتابه ميزان الحق والمستشرقون من أمثال نولدكه وبلاشير بخصوص تاريخ القرآن وجمعه وكتابته، فردد كل ما قاله هؤلاء من طعن في سلامة القرآن عن التحريف، وإشاعة للأخبار الكاذبة التي وضعها الزنادقة، وروجها المبطلون، وهو في كل ذلك يعبر عن أشد أنواع الاستلاب، ويعاني من أخطر جراثيم الافتراس.
أما واجبنا نحن المسلمين فعلينا أن نقارع الخصم بنفس أسلحته، وعلينا أن لا نكتفي بالإدانة والرفض والتسفيه، لأن ذلك إذا لم يقترن بالحجة والبرهان يكون ضرره أكثر من نفعه، ولابد من قراءة مصادر العلمانيين ومراجعهم والإطلاع على أحدث ما يتبجحون به، مع العلم بأن أحدث ما يتبجحون به مرفوض في بيئته، ومهجور في عقر داره. لقد قلت كما قال الدكتور عبد العزيز حمودة بأن العلمانيين أو الحداثيين يحسنون فن العرض والتغليف، يساعدهم على ذلك الإطلاع على اللغات الأجنبية التي تثري في نفس الوقت لغتهم العربية بسبب تفاعل اللغات، وتراكم التراكيب والكلمات، وتيسر النحت والاشتقاق الذي يتأتي بكثرة المتقابلات والمترادفات الحديثة والجديدة، والتي تغري الجيل الجديد، وتعزر ثقته بقدرة الخطاب العلماني على الإبداع والتجديد.
إننا في عصر تكون الغلبة فيه لمن يحسن الدعاية والإعلان في الغالب، وعلينا أن لا نزدري ذلك وأن نوليه كثيراً من الاهتمام إلى جانب ما نملكه من جوهر نفيس، وتراث عزيز، وحضارة باسقة. إن علماءنا السالفين لم يستهينوا بالأفكار الوافدة، والفلسفات الغازية، بل تفاعلوا معها وأتقنوها حتى بزوا أهلها، وفاقوا أعلامها، فنازلوهم عند ذلك منازلة الأقران، وصاولوهم مصاولة الشجعان فلم تمض سنوات قليلة حتى هضمت العلوم المختلفة ثم أعيد بناؤها من جديد بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام ومثله العليا.
ونحن اليوم بحاجة إلى أن نمسك بالأفكار الجديدة من منابعها، ونتابع ما آلت إليه تطبيقاتها في واقعها، لكي نتمكن من رؤية حقيقية لأضرارها ومنافعها، فإذا قال العلمانيون: اللسانيات أو الهرمينوطيقا أو الإنتربولوجيا أو غير ذلك، فلابد من وضع هذه الدعوات في عين الاعتبار، والبحث عن أصولها، وقراءة أعلامها، وسنكتشف دائماً أن الحق لا يعدم من أنصار، وأن الباطل دائماً ينهار، لأن الحق دائماً أبلج، والباطل دائماً لجلج. وهذه هي وصيتي الأولى.
أما الوصية الثانية: فهي أنني أرى أن البحوث الأكاديمية الفلسفية في أقسام الدراسات الإسلامية تولي اهتماماً لدراسة التراث أكثر من اهتمامها بدراسة الواقع المعاصر، وقد ترتب على ذلك أن تركت الساحة للخطاب العلماني يسد الثغرة، ويملأ الفراغ، وكان لذلك انعكاسات خطيرة على الفكر والعلم والواقع، وخصوصاً في استقطاب أعداد كبيرة من أنصاف المثقفين الذين تغريهم المناهج بسبب عدم استنادهم على قاعدة أصولية متينة. ولا يعني ذلك أنني أدعو إلى التقصير في دراسة التراث، وإنما أدعو القائمين على توجيه الدراسات الأكاديمية إلى إقامة توازن بين الواقع والماضي، ونسج وشائج تواصل بين دراسة التراث والواقع المعاصر بما فيه من أطروحات جديدة، ومناهج حديثة. إن أكثر الأفكار الجديدة هي في حقيقتها ليست جديدة، وإنما أفكار قديمة تصاغ بقوالب جديدة، فلماذا لا نكون نحن هؤلاء الصياغ، لماذا نترك مهنة الصياغة لغيرنا مع أنها من أكثر المهن ثراء وجلباً للأرباح.
إن ما أدعو إليه هو أن يكون الانطلاق من الواقع والحاضر إلى الماضي، ولكن الذي يحصل هو أن الدراسات الإسلامية لا تنطلق حتى من الماضي إلى الحاضر، وإنما تظل حبيسة الماضي دون أن تقيم أي صلة مع الحاضر والواقع المعاصر، وهو ما يجعلنا غرباء عن عصرنا، ويجعل غيرنا أكثر تآلفاً وتصالحاً ومودة معه، وبالتالي قبولاً منه.
إن المشاريع العلمانية التي تطرح نفسها باسم الواقع والإنسان والمصلحة والمغزى يمكن أن تواجه ببدائل إسلامية تنفي عنها الزغل والخبث، وتستفيد من النافع والحسن. إن الإسلام ليس عقبة في وجه الواقع أو التطور وهو المعنى الذي يتضمنه قوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولكنه في الوقت نفسه لا يترك الواقع هملاً دون رعاية أو هداية. إن مساحة الواقع في الإسلام واسعة جداً، وحرية الحركة له متاحة إلى تخوم بعيدة، ومرونة النصوص والأصول تفسح المجال لدفع الحرج والتواؤم مع تقلبات الأزمنة والأمكنة، وتملك إجابات مريحة لكل الأسئلة التي قد تؤرق الإنسان. ولكن مع هذه السعة وهذه المرونة والحرية فهناك سياج يلف الإسلام به الواقع، وهذا السياج هو الرحمة التي تعصم العقل وتحول دون الوقوع في هاوية الهوى والأنانية والنفعية.
إن الخطاب العلماني يريد أن يدمر هذا السياج – الدوغمائي بنظره – ليقتحم الغيب، ويزحزح هذه الحدود والثوابت لأنه يطمح إلى معرفة ما وراء هذا السياج، ولا يكتفي بالخبر الموثوق، ويأبى إلا أن يقتحم هذا السياج ويرتع في الحمى، ويتجاهل التجارب الإنسانية الطويلة الفاشلة في هذا المجال، ومهمتنا نحن المسلمين ليس في دفعه إلى الهاوية، وإنما في انتشاله منها كما علمنا نبينا المصطفى الرحمة المهداة للعالمين صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.