الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العهد والميثاق في القرآن الكريم
المؤلف/ المشرف:
ناصر بن سليمان العمر
المحقق/ المترجم:
بدون دار العاصمة - الرياض ̈الأولى
سنة الطبع:
1413هـ
تصنيف رئيس:
تفسير
تصنيف فرعي:
دراسات قرآنية
الخاتمة
الحمد لله ابتداءً وانتهاءً، وله الشكر على تيسيره وإعانته وتوفيقه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه جلَّ وعلا.
وأصلي وأسلم على خير خلقه، الرحمة المُهداة، والنعمة المجتباة، به أخرجت البشرية من الظلمات إلى النور، وعلى آله وأصحابه، خير القرون وسادة الأمم.
وبعد:
ففي نهاية هذا البحث، وخير ختام لفصوله ومباحثه، أذكر أهم ما توصلت إليه من نتائج، مع الإيجاز غير المخلّ، فأقول مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه:
1 -
اتضح لي أهمية دراسة بعض القضايا القرآنية دراسة موضوعية، حيث تكشف لنا مثل تلك الدراسة عن جوانب مهمة، يصعب الوصول إليها عن طريق الدراسة التحليلية، وبخاصة إذا كانت هذه القضية من القضايا المستجدة والمرتبطة بواقع العصر كموضوع العهد والميثاق.
2 -
علمنا أنّ كلمة العهد تطلق على عدة معاني، وما اشتق من مادة (وثق) يستعمل لأكثر من معنى، ولكن الغالب على استعمالهما ما اتفقا فيه، وهو اليمين والموثق والعهد المحكم، وتعلق الذمة بشيءٍ أو تعلقه بها فإذا أطلق أي منهما لم يكد ينصرف إلَاّ إلى ذلك، أمَّا المعاني الأخرى فلا يفسران بها إلاّ بقرينةٍ تدل عليها.
3 -
ورد العهد والميثاق في القرآن الكريم في آيات كثيرة وبسور متعددة، وأكثر استعمالها في القرآن الكريم جاء بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه، وما سوى ذلك ورد في آياتٍ قليلة (1)، ومن هنا تدرك الأهمية العظمى لذلك المدلول، والأثر العظيم للالتزام به وخطورة نقضه والتفريط فيه، وكثرة ورودها في مواضع في القرآن الكريم، دليل على تلك الأهمية وذلك الأثر.
4 -
عرضت قضية العهد والميثاق في القرآن الكريم بعدة أساليب، كلها تشدّ النفس وتوقض الحس وتحيي القلوب الميتة.
فأكثر الآيات عرضت بأسلوب خبري فيه الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، نجد الإجمال والبيان، وإيجاز والتفصيل وإطناب، وهناك آيات جاءت بالأسلوب الطلبي فهذا أمر وذاك نهي، ومرة بصيغة الاستفهام الإنكاري، وأخرى بأسلوب الاستفهام التوبيخي.
ويقف الداعية أمام هذا الأسلوب ليتعلم أن عرض القضية جزء من ذاتها، ويحس بأننا بأمس الحاجة إلى الداعية الذي يحسن عرض دعوته، فكم من داعٍ خانه الأسلوب فنفر منه الناس.
والأمر ليس مجرد كمّ متراكم من النصوص يلقيها المعلم كيفما اتفق، بل عن البحث عن مداخل النفوس، وتحري منعطفاتها ومشاعرها مهمة سامية تتعلمها من القرآن الكريم في أسلوبه الرائع في عرض قضية العهد والميثاق، وليس المراد إقامة الحجة والبرهان فحسب، بل قبل ذلك الهداية هدف جليل وغاية مبتغاة يسعى إليها الدعاة والمصلحون.
5 -
كما ورد العهد والميثاق في القرآن الكريم فقد ورد في السنة المطهَّرة، حيث وردت أحاديث صحيحة فيها لفظ العهد وأخرى فيها لفظ الميثاق، وهذا يعطينا دلالة أكيدة على أهمية العهد والميثاق ومدى العناية بهما، حيث كثر ورودهما في الكتاب والسنة، ولم يكن ذلك عبثاً أو حشواً واستطراداً، وحاشاهما من ذلك، ولكن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى (2).
(1) وذلك خاص بما ورد بلفظ العهد، أو الميثاق فلم يرد إلا بمعنى العهد.
(2)
هذه العبارة يقصد بها بنية الكلمة، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
6 -
من التحقق في معنى الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم تبين أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم، مشهداً بعضهم على بعض، ومشهداً الإنسان على نفسه، أي أخذ بإقراره، فقال لهم سبحانه وتعالى:(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟) فأجابوا: (بَلَى) وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين كما سبق بيانه ولا يلتفت إلى قول مخالفيهم كالمعتزلة ونحوهم.
واتضح لنا أنَّ هذا الميثاق ليس كافياً لإقامة الحجة على الخلق، بل إنَّ الحجة تقوم بإرسال الرسل وإنزال الكتب:(لأَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(النساء: 165)
…
(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الإسراء: 15).
ولا تناقض بين الفطرة والميثاق، فلكلٍ منهما دلالته ومعناه.
ويشعر المسلم بوجوب الوفاء بهذا الميثاق الذي أخذه الله عليه في صلب أبيه آدم، حيث تأكد ذلك وتحقق برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك عذر لمعتذر، أو حجة لجاحد أو غادر.
7 -
أخذ الله العهد والميثاق على النبيين، والذي نفوا ذلك وقالوا إن الميثاق أخذ على أمم النبيين لا على أنفسهم، أوَّلوا الآية وجانبوا الصواب.
وهذا الميثاق هو أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضاً، وينصره، ويأخذوا ذلك على أممهم، وقد أقررهم الله بذلك فأقروا به، وأعطوا العهد عليه، وأشهدهم على ذلك فشهدوا.
وهذا الميثاق أخص مما أخذ عليهم في ظهر آدم مع الذرية.
8 -
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين أخذ العهد على بني إسرائيل، بعضها مجمل وبعضها مفصل، حيث أخذ الله عليهم العهد بأن يؤمنوا بما في التوراة جملة، ويعملوا بما فيها تفصيلاً، كما أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وأن يتبعوه، وأن يبينوا أمره للناس.
هذا هو الميثاق العام، ثم أخذت عدة مواثيق خاصة تؤكد هذا الميثاق وتبينه، وبعضها يخص قوماً من بني إسرائيل دون آخرين.
ويقف المسلم مندهشاً حائراً أمام هذا الجنس من البشر، قوم كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء، لا عهد لهم ولا ميثاق، آذوا موسى وهو منقذهم من فرعون وقومه، وأعطاهم الله أعظم الآيات فكفروا، ووهبهم أعظم النعم فجحدوا، وتوارثوا الغدر والمكر والخيانة منذ موسى _عليه السلام_ إلى يومنا الحاضر، وآيات العهد والميثاق لنا فيها أعظم العبر والدروس، إلى يومنا الحاضر، حيث تكشف لنا عن طوية هؤلاء وسوء أخلاقهم، وأنهم لا أمان لهم ولا وفاء.
ومن العجب أننا نجد من بني قومنا وممن يتكلمون بلغتنا وينتسبون إلى ديننا، نجد من يسعى جادّاً إلى إقامة المعاهدات مع بني إسرائيل، وكتابة المواثيق معهم، وكأنه لا يقرأ كتاب الله، ولم يعرف التاريخ، ولا يتعظ بتجارب البشر، إنني وأنا أسمع وأرى هذا السباق المحموم بين بني يعرب للتقرب من يهود وإقامة العلاقات معهم، ظنّاً أنهم سيأمنون شرَّهم، ويكونون في وقاية من غدرهم، أتساءل هل هؤلاء سيكونون أكرم عند اليهود من موسى عليه السلام؟ لا، وألف كلَاّ، موسى نبيهم ورسولهم ومنقذهم ومن بني جلدتهم، ولم يدخر وسعاً لهدايتهم وجلب الخير لهم ومع ذلك فعلوا به الأفاعيل، وأنبياؤهم من بعد موسى ماذا فعلوا بهم، فريقاً كذَّبوا به وفريقاً يقتلون، إذا كان هذا شأنهم مع أنبيائهم كيف سيفعلون بأعدائهم؟ ..
وسنن الله لا تختلف، ولكن أين المؤمنون وأين المعتبرون (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)، وهذا درس عظيم من دروس العهد والميثاق، يجدر بنا أن نفيد منه أيَّما إفادة قبل فوات الأوان، وحلول الذل والهوان.
9 -
بايع رسول الله صلى الله عله وسلم _ صحابته _ وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على السلام، وبايع النساء بيعة خاصة.
كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وآخرون على السمع والطاعة.
وبايع بعضهم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
هذه هي أهمّ المبايعات والعهود التي أخذها صلى الله عليه وسلم على صحابته، بعضها عام، وبعضها خاص.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب مادحاً أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنياً عليهم: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
نعم لقد وفَّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم وأبرز سجاياهم وطباعهم.
لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله؛ لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألَاّ يسأل الناس شيئاً أعطوه أو منعوه (1).
هذه هي الطاعة وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل على مدارج الرقي وسموّ الأخلاق، لقد كان جيلاً قرآنياً فذّاً، لم تعرف البشرية جيلاً كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) (الأنعام: 90)، (وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (الزمر: 18). 10 - عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة عهود مع اليهود، أبرزها عندما قدم المدينة، ومن آخرها ما كان في خيبر:
ولكن اليهود هم اليهود، لا يستقيم لهم عهد، ولا يبقى معهم ميثاق، وكما غدروا بنبيهم موسى عليه السلام فقد خانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعرف على مدار التاريخ أن اليهود وفوا بعهد أو حافظوا على ميثاق وبخاصة إذا أتتهم الفرصة للنقض فلا يدعونها تمر أبداً، وما يعرف من يسير وفائهم (2)، فسببه ضعفهم وعجزهم وقوة خصمهم، وحيث لم تسنح لهم فرصة للغدر والخيانة. وأكرر وأؤكد في هذه الدراسة أننا بأمسّ الحاجة إلى معرفة طبائع اليهود وسوء طويتهم، فهذا دين لا نعذر بجهله أو التفريط فيه، لما يترتب على الجهل من مفاسد عظيمة، وخسائر جسيمة، في الدين والعرض والمال.
11 -
تبين لنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرم عدة عهود مع المشركين، كان أبرزها وأهمها ما تم بين المسلمين وبين قريش في غزوة الحديبية، كما أنه عقد عدة معاهدات مع غيرهم كخزامة ومدلج وقبائل بني بكر، وهذه العهود هي التي أشار إليها القرآن في سورة التوبة، كما أشار إليها في سورة النساء، مما سبق بيانه.
وقد اتضح أنَّ بعض المشركين وفَّى بعهده وميثاقه وبعضهم خان الله ورسوله فلقي جزاءه.
12 -
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة كتب لبعض قبائل المسلمين، وقبائل أخرى من العرب غير المسلمين، كما كتب لبعض اليهود وبعض النصارى، وقد تضمنت هذه الكتب بعض العهود والمواثيق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأولئك، مما يعطي دلالة على استقرار الدولة المسلمة وقوتها، حتى إن القبائل أصبحت تخطب ودَّها والأمان منها، بل والحماية ضد أعدائها، وهذا أثر فعَّال للعهود والمواثيق، إذا سادت بين الدول والمجتمعات -وتم الوفاء بها- حلَّ الوئام والسلام، بدل الحرب والخصام.
(1) انظر عون المعبود شرح أبي داود، كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 5/ 55.
(2)
كالعهد الذي عقد معهم في خيبر بعد فتحها إلى إجلاء عمر رضي الله عنه لهم.
13 -
أشرت على أنه لم يكن للمنافقين عهود خاصة، وإنما كانوا يعطون العهود مع المسلمين كأفراد منهم -ظاهراً- وما أشار إليه القرآن من نقضهم للعهود حدث منهم بطرق ملتوية وبأساليب متعددة، ولقد ذكر القرآن تلك الأساليب دون التصريح بأسماء من قام بها، مع بيان أنهم من المنافقين.
14 -
استعمل مصطلح العهد والميثاق في عدة مجالات، ولقد شدَّ انتباهي كثرة هذه المجالات وأهميتها، وكيف أن العهد والميثاق جاء ليقرر مبادئ عظيمة، سعدت بها البشرية ماضياً وحاضراً، وتسعد بها مستقبلاً، وذكرت أن من أبرز تلك المجالات ما يلي:
أ- العقيدة هي أساس وجود الخلق، ولا خير في حياة بدون إيمان، وهل الظلمات إلَاّ الكفر والفجور، وما النور إلَاّ الإيمان والتقوى.
ولهذا جاء العهد والميثاق مقرراً هذه الحقيقة وملزماً البشرية بتحقيق عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وداعياً للإيمان به عز وجل، والعمل بما في كتب الله المنزلة، حيث تعمل كل أمة بكتابها، فكتب الله يصدق بعضها بعضاً، والمتأخر ناسخ للمتقدم ومصدق به، ولا تعارض في ذلك ولا تضاد.
كما أن الإيمان بالرسل من صميم عقيدة المسلم، فجاء العهد والميثاق في هذا المجال، طالباً الإيمان بالرسل عموماً وبالنبي المرسل خصوصاً فبعضهم يؤمن ببعض، فالمتقدم يبشر بالمتأخر والمتأخر يصدق المتقدم، ويعترف به، لا يستقيم الإيمان إلَاّ بذاك. والشرائع المنزلة كلها من عند الله، نؤمن بالمتقدم منها إجمالاً، وبالمتأخر تفصيلاً.
هكذا جاءت العهود والمواثيق في القرآن الكريم تؤصل هذا الجانب وتؤكده، وتدعو الناس للاهتمام بجانب العقيدة وتحقيقها في عالم الوجود.
ب- أمر المسلم بالعبادة، أصولها وفرعها، وقد أخذ الله الميثاق على الناس بأن يعبدوه، وذلك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من أنواع العبادات التي شرعها الله، وقد ورد مصطلح العهد والميثاق مبيناً أهمية هذا الجانب ووجوب العناية به، ومحذراً من التفريط فيه أو الإهمال، فذلك نقض للعهد والميثاق، وعاقبته وخيمة، ومآل صاحبه إلى الخسران والهلاك.
ج- الأخلاق سرٌّ من أسرار بقاء الأمم ودوامها، وفقدانها سبب لدمارها وفنائها والخلق الحسن سمة بارزة في جبين الفرد، يقوده إلى مدارج العزّ والخلود.
وهذا المجال واسع رحب له آثاره ومزاياه، لذلك جاءت العهود والمواثيق محتفية بهذا الجانب ومؤكدةً عليه، فوردت آياتٌ كثيرة من آيات العهد والميثاق مشتملة على بيان أخذ الله العهود على البشر، ليلتزموا بالأخلاق الفاضلة ويبتعدوا عن أي خلق ذميم، على مستوى الفرد والجماعة.
د- من مآسي العالم في عصرنا الحاضر -وما أكثر مآسينا- عدم احترام العهود والمواثيق التي تبرم بين الدول. فكم من اتفاقية وقعت، وعهود كتبت، لم تزد أن تكون حبراً على ورق، وهذا سبب القلاقل والفتن والحروب.
والإسلام يأبى هذه الأخلاق، ودين الله إلى الوفاء وحسن الجوار.
ومن هنا جاء مصطلح العهد والميثاق في مجال العلاقات الدولية ليرسم للبشرية ما يجب أن تكون عليه سياسة الدول، بعيداً عن الغدر والخيانة وأخذ الناس الآمنين على حين غرَّة.
وبهذا تسعد البشرية، وتعيش في أمن يسود حياتها، ويتيح لها أن تتقدم في جميع شؤون الحياة ومجالاتها، بعيداً عن الخوف والهلع، وتوقع الغدر والخيانة.
هـ- كما جاءت العهود والمواثيق في مجال العلاقات بين الدول، فقد وردت في مجال المعاملات بين البشر، وكما أخذ العهد بوجوب الإيمان بالله، وتصديق رسله، فقد جاء ليرسم للناس أسلوباً في تعاملهم وحسن تقاضيهم، بعيداً عن الالتواء والتربص وسوء الطوية، وهذا من عظمة هذا الدين وسمو أهدافه وغاياته، واحتفائه بالفروع كاهتمامه بالأصول.
وفي القضايا الاجتماعية وما يكون بين الأسر والأفراد أمور تحتاج إلى عناية ورعاية، ولذلك فقد كان للعهد والميثاق أثر فعال في حسن النظر ومراعاة هذا الجانب المهم في حياة الناس، والتساهل أو التهاون في ما يتعلق بحياة الناس الخاصة وأمور أسرهم يؤدي إلى فساد المجتمعات ومن ثمَّ دمار الدول، ولذلك فقد جاءت آيات كثيرة تبيّن للناس النمط السوي في محيط القضايا الاجتماعية والحياة الأسرية، وحذرت من أي خلل أو تصدع في هذا الكيان، مؤكدة ذلك بالعهود والمواثيق صيانة وحماية للأمة أفراداً وجماعات.
ما أروع هذا الدين وما أشمله وأكمله، كم يحس المسلم بسعادة وهناء وهو يرى مدى اهتمام الإسلام بأخص شؤونه وأدقها، بل ويؤخذ عليه العهد والميثاق ضمانة لاستمرار سعادته، وحماية له من الشقاء والعناء.
ز- لا حياة للأمة بدون الجهاد في سبيل الله، وأي أمة تدع الجهاد أمة تعيش الذل بأبشع صوره، الجهاد يحمي الدين والنفس والعرض والنسل، والمال، ويحمي البلاد والعباد.
الأمة المجاهدة لها العزة والرفعة والمنعة ولهذا فقد جاء العهد والميثاق في مجال الجهاد في سبيل الله ليرتفع بالبشرية عن مهاوي الردى ونوازع الهوى، ناعياً عليه التثاقل في الأرض أو الركون إلى شهواتها وملذاتها، وليطلب الموت من أراد أن توهب له الحياة، ومن وفَّى ببيعه وفَّى الله له عهده (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ) (التوبة: 111).
15 -
لا خلاف ولا نزاع في وجوب الوفاء بالعهد والميثاق، وآيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم صريحة بذلك، كما هي صريحة بحرمة نقض الميثاق أو الإخلال بالعهد، وتوعّد الله بأقسى العقوبات للناقضين عهودهم ومواثيقهم، وصريح المعقول يوافق صحيح المنقول على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
16 -
الوفاء بالعهد والالتزام بالميثاق صفات كرام الرجال وخيارهم، والآثار الحسنة التي تعود على الموفين بعهودهم ومواثيقهم لا تعدَّ ولا تحصى، منها الآثار التي يجنونها في الدنيا، وأعظم منها ما يحصل لهم في الآخرة، وإذا عظم المطلب فالجزاء أعظم.
إن من أعظم الآثار نعمة الإيمان، ولا يعرف قدر الإسلام إلا من عرف الكفر ومآسيه (1).
والتقوى ومحبة الله للمتقين جزاء من ربك عطاءً حساباً للملتزمين بعهودهم المحافظين عليها.
الأمن في الأوطان مطلب عزَّ مناله، لكنه حاصل لمن عرفوا قدر المواثيق وراعوا حقها، فلهم الأمن والحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم، وفي الآخرة يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنات، ما أعظم هذه الآثار وأزكاها، وما أجدر بالبشرية الحائرة أن تنشد السعادة من معينها فقد طال شقاؤها. في الإسلام تجد الطمأنينة وفي ظلال الإيمان تعيش الحياة الوارفة، تصون دماءها وتحمي ذمارها، هذه في الدنيا، أمَّا في الآخرة فرب كريم، ونزل عظيم، وحياة أبدية في جنات النعيم.
17 -
آثار نقض العهد والميثاق مدمرة ومفجعة، بعضها عاجل وبعضها آجل، شيءٌ منها يحلّ بالفرد وآخر يلحق بالأمة، جزاء وفاقاً.
الكفر صفة للناقضين عهودهم، والفسق ديدنهم، والخسران نهايتهم، واللعن في انتظارهم، قلوبهم قاسية قد طبع الله عليها، فأغروا بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
حرمت عليهم الطيبات في الدنيا، والنار مصيرهم في الآخرة.
القتل والتشريد جزاؤهم لقاء غدرهم وخيانتهم وضلالهم عن سواء السبيل.
يعيشون في الدنيا بخزيٍ أبدي، وفي الآخرة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم.
(1) المعرفة هنا لا تعني كونه كافراً قبل ذلك، بل هي أعم فقد يولد مسلماً ولكنه عرف الكفر من أوجه أخرى كمعرفته بالكفار مثلاً.
هم شرُّ الدواب وشرار الخليقة، ولذا فبعض الناقضين عجلت عقوبتهم فأصبحوا قردة وخنازير لغدرهم وخيانتهم. والناقض عهده يجني على نفسه وأمته ويرديها.
إن أثراً واحداً مما مضى كافياً للزجر والتهديد، فكيف بهذه الآثار مجتمعةً أو بعضها مما ينتظر الناقضين لعودهم.
إن البشرية اليوم بأمسِّ الحاجة إلى الاستقرار والسعادة بعد طول شقاء وعناء.
والمنقذ لها من ذلك كله هو التمسك بحبل الله والوفاء بعهده والالتزام بميثاقه، وأن يكون الإسلام هو المهيمن على شؤون الحياة دولاً وأفراداً.
وبعد ..
فقد عشت فترةً طويلةً وقصيرةً في هذا الموضوع، طويلةٌ في حساب الأيام والشهور، وقصيرة مع كتاب الله فلو قضى المسلم عمره مع القرآن الكريم فلا يعدوا أن يكون لحظة في عمر الزمن.
ازداد إيماني -ولم يكن ضعيفاً والحمد لله- بأن هذا القرآن هو المنقذ للبشرية من واقعها المرير، ففيه النور والبرهان، فيه المخرج لأزماتها، والحلول لمشكلاتها، لا الشرق ينقذها، ولا الغرب ينفعها، وإنما كتاب الله هادينا وقائدنا.
أدركت من خلال هذا البحث كم في القرآن الكريم من كنوزٍ مجهولةٌ، ودررٌ مغمورةٌ بالنسبة لكثيرٍ من المسلمين، ولذلك تخبَّطوا في حياتهم في الظلمات والنور بين أيديهم، يبحثون عن الهدى والهدي في حوزتهم، إن هذا القرآن منهجٌ للبشر، كلام الله لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد.
شدَّ انتباهي وأنا أعيش بين آيات العهد الميثاق معايشة هذا القرآن العظيم لحياة الناس لحظةً بلحظةً وساعةً بساعةً، موجهاً ومنقذاً، ومبشراً ومعاتباً ومعاقباً، يحيط الناس بعنايته، ويحنو عليهم برعايته، هذا يَعِدُهُ وذاك يتوعّده، وآخر يعلمه ويربيه.
إنها دعوةٌ صادقةٌ ملخصة أوجهها لأمتي عموماً وللعلماء خصوصاً بأن نعود إلى كتاب ربنا ومنهج حياتنا، نتفيء من ظلاله وتسعد البشرية الحائرة، فقد طال بلاؤها وزادت تعاستها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ختاماً:
لك الحمد ربي على ما تفضلت وأنعمت ووفقت، أشكرك مع كل حرفٍ أخطّه وكلمة كتبتها وجملة أصوغها، أشكرك مع كل نسمة هواء تمدّني بالحياة، وكل نقطة دمٍ تجري في عروقي، وقطرة ماءٍ تسير في أحشائي، تذكرني بأنك الخالق الواحد لا رب لي سواك.
سبحان ربك رب العزَّة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.