الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ارتشى القاضي ردّ قضاؤه، فإن ارتشى أحد أعوانه ليعين المرتشي ولم يعلم القاضي نفذ قضاؤه، وعلى القابض ردّ ما قبضه، ويأثم الرّاشي «1» .
الرّشوة من الكبائر:
قال الذّهبيّ: الكبيرة الثّانية والثّلاثون: أخذ الرّشوة على الحكم، وقد استدلّ على ذلك بقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة/ 188) قال الذّهبيّ: لا تدلوا بأموالكم إلى الحكّام: أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقّا لغيركم وأنتم تعلمون أنّ ذلك لا يحلّ لكم، وبعد أن ذكر الأحاديث الدّالّة على التّحريم «2» ، قال: إنّما تلحق اللّعنة الرّاشي إذا قصد بها أذيّة مسلم، أو ليدفع له بها ما لا يستحقّ، أمّا إذا أعطى ليتوصّل إلى حقّ له، أو ليدفع عن نفسه ظلما، فإنّه غير داخل في اللّعنة، أمّا الحاكم فالرّشوة عليه حرام سواء أبطل بها حقّا أو دفع بها ظلما، والرّائش (وهو السّاعي بالرّشوة) تابع للرّاشي في قصده إن قصد خيرا لم تلحقه اللّعنة وإلّا لحقته «3» .
الهدية للحاكم رشوة أم لا
؟
سئل ابن تيميّة- رحمه الله تعالى- عن رجل أهدى الأمير هديّة لطلب حاجة، أو للتّقرّب منه، أو للاشتغال بالخدمة عنده أو ما أشبه ذلك، فهل أخذ الهديّة على هذه الصّورة رشوة أم لا؟ وهو إن أخذ الهديّة انبعثت نفسه إلى قضاء الشّغل، وإن لم يأخذ لم تنبعث النّفس في قضائه، فهل يجوز أخذها؟ وقضاء شغله، أو لا يأخذ ولا يقضي؟ ورجل مسموع القول عند مخدومه (سكرتير أو حاجب أو مستشار أو ما أشبه ذلك) إذا أعطوه شيئا للأكل أو لغير قضاء حاجة، فهل يجوز أخذها؟ وهو إن ردّها على المهدي انكسر خاطره، فهل يجوز أخذ هذا أم لا؟.
أجاب- رحمه الله تعالى- عن الحالتين فقال:
في سنن أبي داود وغيره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هديّة فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الرّبا» «4» . وسئل ابن مسعود عن السّحت فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هديّة فتقبلها. فقال له: أرأيت إن كانت هديّة في باطل. فقال: ذلك كفر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (المائدة/ 44) .
ولهذا قال العلماء: إنّ من أهدى هديّة لوليّ الأمر ليفعل معه ما لا يجوز، كان حراما على المهدي والمهدى إليه، وهذه من الرّشوة الّتي قال فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لعن الله الرّاشي والمرتشي» ، والرّشوة تسمّى البرطيل، والبرطيل في اللّغة هو الحجر المستطيل فاه، فأمّا إذا أهدى له هديّة ليكفّ ظلمه عنه أو ليعطيه حقّه الواجب كانت الهديّة حراما على الآخذ، وجاز
(1) السابق (3/ 88) ، وقد أفاض التهانوي في أحكام رشوة المحتسب، انظرها في الموضع المذكور.
(2)
انظر الأحاديث أرقام (1، 5) .
(3)
الكبائر للذهبي 142- 143.
(4)
انظر الحديث رقم 6، وقد تم تخريجه هناك.
للدّافع أن يدفعها إليه كما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول «إنّي لأعطي أحدهم العطيّة فيخرج بها يتأبّطها نارا» قيل:
يا رسول الله فلم تعطهم؟ قال «يأبون إلّا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» «1» .
ومثل ذلك مثل من أسرّ خبرا، أو كان ظالما للنّاس، فأعطاه هؤلاء (كي يمتنع من نشر السّرّ أو من الظّلم) فهذا جائز للمعطي حرام على الآخذ، أمّا الهديّة في الشّفاعة كأن يشفع لرجل عند وليّ أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولاية يستحقّها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة- وهو مستحق لذلك، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القرّاء أو النّسّاك أو غيرهم- وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشّفاعة الّتي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرّم. فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهديّة. ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصّل به إلى أخذ حقّه أو دفع الظّلم عنه. هذا هو المنقول عن السّلف والأئمّة الأكابر، وقد رخّص بعض المتأخّرين من الفقهاء في ذلك وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسّنّة وأقوال الصّحابة والأئمّة، وهو غلط لأنّ مثل هذا العمل هو من المصالح العامّة الّتي يكون القيام بها فرضا: إمّا على الأعيان وإمّا على الكفاية.
ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصّدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم (أيضا) أن يكون كفّ الظّلم عمّن يبذل في ذلك، والّذي لا يبذل لا يولّى ولا يعطى ولا يكفّ عنه الظّلم، وإن كان أحقّ وأنفع للمسلمين من هذا. ولمّا كانت المنفعة لعموم النّاس: أعني المسلمين.
فإنّه يجب أن يولّى في كلّ مرتبة أصلح من يقدر عليها وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذّنين، وأهل العلم الّذين هم أحقّ النّاس وأنفعهم للمسلمين، وهذا واجب على الإمام، وعلى الأمّة أن يعاونوه على ذلك فأخذ جعل من شخص معيّن على ذلك يفضي إلى أن تطلب هذه الأمور بعوض، ونفس طلب الولايات منهيّ عنه فكيف بالعوض؟ ولزم أنّ من كان ممكّنا فيها يولّى ويعطى وإن كان غيره أحقّ وأولى، بل يلزم على ذلك تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم القادر، وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال، ويترك العدل الشّجاع النّافع للمسلمين وفساد مثل هذا كبير «2» .
وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحقّ وغيره أولى، فليس له أن يأخذ ولا يشفع وتركهما خير، وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحقّ الأولى، وترك من لا يستحقّ، فحينئذ ترك الشّفاعة والأخذ أضرّ من الشّفاعة لمن لا يستحقّ، ويقال لهذا الشّافع الّذى له الحاجة الّتي تقبل بها الشّفاعة: يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، وعليك أن تنصح المشفوع إليه فتبيّن له من يستحقّ الولاية والاستخدام والعطاء، ومن لا يستحقّ ذلك، وتنصح للمسلمين بفعل مثل
(1) انظر الحديث رقم (1) .
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد 31 ص 285.