الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تظهر، أو منقبة تشكر، فيثير حسدا قد خامر بغضا وهذا النوع لا يكون عامّا، وإن كان أضرّها، لأنّه ليس يبغض كلّ الناس.
2-
أن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه، فيكره تقدّمه فيه، واختصاصه به، فيثير ذلك حسدا لولاه لكفّ عنه، وهذا أوسطها، لأنّه لا يحسد من الأكفاء من دنا، وإنّما يختصّ بحسد من علا، وقد يمتزج بهذا النوع ضرب من المنافسة، ولكنّها مع عجز، فلذلك صارت حسدا.
3-
أن يكون في الحاسد شحّ بالفضائل، وبخل بالنّعم وليست إليه، فيمنع منها، ولا بيده، فيدفع عنها، لأنّها مواهب قد منحها الله من شاء، فيسخط على الله- عز وجل في قضائه، ويحسد على ما منح من عطائه، وإن كانت نعم الله- عز وجل عنده أكثر، ومنحه عليه أظهر، وهذا النوع من الحسد أعمّها وأخبثها، إذ ليس لصاحبه راحة، ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشرّ وقدرة كان جورا وانتقاما، وإن صادف عجزا ومهانة كان جهدا وسقاما.
وأضاف الغزالي إلى ذلك أسبابا أخرى أهمّها:
الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختصّ بمتزاحمين على مقصود واحد. فإن كان واحد يحسد صاحبه في كلّ نعمة تكون عونا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصد الزوجيّة، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتّوصّل به إلى مقاصد الكرامة والمال «1» .
دواء الحسد:
الحسد يعالج بأمور هي له حسم، إن صادفها عزم، فمنها: اتّباع الدين في اجتنابه، والرجوع إلى الله عز وجل في آدابه فيقهر نفسه على مذموم خلقها، وينقلها عن لئيم طبعها وإن كان نقل الطباع عسرا، لكن بالرّياضة والتدريج يسهل منها ما استصعب، ويحبّب منها ما أتعب.
ومنها: العقل الّذي يستقبح به من نتائج الحسد ما لا يرضيه، ويستنكف من هجنة مساويه. فيذلّل نفسه أنفة، ويطهّرها حميّة، فتذعن لرشدها، وتجيب إلى صلاحها.
وهذا إنّما يصحّ لدى النفس الأبيّة، والهمّة العليّة، وإن كان ذو الهمّة يجلّ عن دناءة الحسد.
ومنها: أن يستدفع ضرره، ويتوقّى أثره، ويعلم أنّ مكانته في نفسه أبلغ، ومن الحسد أبعد، فيستعمل الحزم في دفع ما كدّه وأكمده، ليكون أطيب نفسا وأهنأ عيشا. ومنها: أن يرضى بالقضاء، ويستسلم للمقدور، ولا يرى أن يغالب قضاء الله، فيرجع مغلوبا، ولا أن يعارضه في أمره، فيردّ محروما مسلوبا.
فإن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب، واقتادته المراشد إلى استعمال الصواب، سلم من سقامه، وخلص من غرامه، واستبدل بالنّقص فضلا، واعتاض من الذمّ حمدا، ولمن استنزل نفسه عن
(1) أدب الدنيا والدين (176) ، وإحياء علوم الدين للغزالي (3/ 200)(ط. الريان) .
مذمّة، وصرفها عن لائمة هو أظهر حزما، وأقوى عزما، ممّن كفته النّفس جهادها، وأعطته قيادها «1» .
قال ابن القيّم- رحمه الله: «ويندفع شرّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
السبب الأوّل: التعوّذ بالله من شرّه، والتحصّن به واللجوء إليه.
السبب الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتّقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره.
السبب الثالث: الصبر على عدوّه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدّث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوّه بمثل الصبر عليه.
السبب الرابع: التوكّل على الله. فمن توكّل على الله فهو حسبه، والتوكّل من أقوى الأسباب الّتي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإنّ الله حسبه، أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوّه.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلّما خطر له. فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه. وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرّه.
السبب السادس: وهو الإقبال على الله، والإخلاص له وجعل محبّته ورضاه والإنابة إليه في محلّ خواطر نفسه وأمانيّها تدبّ فيها دبيب تلك الخواطر شيئا حتّى يقهرها ويغمرها ويذيبها بالكلّيّة. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيّه كلّها في محابّ الربّ، والتقرّب إليه.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب الّتي سلّطت عليه أعداءه. فإنّ الله تعالى يقول:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (الشورى/ 30) .
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنّ لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ودفع العين، وشرّ الحاسد ولو لم يكن في هذا إلّا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفي به. فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ولا عرّضها للزّوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقّها عليها، ولا يوفّق له إلّا من عظم حظّه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلّما ازداد أذى وشرّا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنّك تصدّق بأنّ هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه، فاستمع الآن إلى قوله- عز وجل: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي (262- 264) ، (176) وما بعدها (ط. بولاق) .
صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت/ 34- 36) .
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كلّه، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحّل بالفكر في الأسباب إلى المسبّب العزيز الحكيم، والعلم بأنّ هذه الآلات بمنزلة حركات الرّياح، وهي بيد محرّكها، وفاطرها وبارئها، ولا تضرّ ولا تنفع إلّا بإذنه.
فهو الّذي يحسن عبده بها، وهو الّذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يونس/ 107) » «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الغل- الأثرة- صغر الهمة- الطمع- النقمة- البخل- الشح- السخط.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرضا- القناعة- المحبة- الإيثار- الزهد- السخاء] .
(1) التفسير القيم، لابن القيم (585، 593) .