الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الاستعاذة)
قُدِّمت عَلَى البسْمَلَةِ لتَكونَ تَطْهِيراً للْقَلْبِ واللِّسانِ مِنْ ذِكْرِ غير اللهِ تَعَالَى، ليَصْلُحَ لذكْرِ اسمِ اللَّهِ. ولأَن دفعَ المولم آكدُ مِنْ جَلْبِ الْمُلائِمِ.
فإنْ قُلتَ: لم تَرَكَ تقديمَ المستَعَاذِ بِهِ ليُفيدَ الحصْرَ معَ تقديمِ اسْمِ اللَّهِ؟.
قلتُ: لِمَا قُلناهُ مِنْ أن تقديمَ الاسْتِعَاذَةِ للتطهُّرِ قبلَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ.
ولفْظُ أَعُوذُ خبر في معنى الدعاء، أي: اللهم أعذني. وعبر بالمضارع المقتضي للتجدد، لتكرر وسوسة الشيطان للإنسان مدة حياته.
وانظر هل تكون الاستعاذة في الجنة أو لا؟؛ والأول أظهر، لما ورد من أن أهل الجنة يقرؤون القرآن، وفيه (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ).
وحكم الاستعاذة: قيل الوجوب، وقيل الندب؛ علي اختلاف الأصوليين في صيغة "افعل" مجردة عن القرائن. وظاهر "المدونة" قول ثالث بالتخيير؛ لقوله فيها:"ومن قرأ في غير صلاة، تعوذ قبل القراءة إن شاء"؛ وبعض القراء يتعوذ بعد القراءة؛ لظاهر (فَإِذَا قَرَأتَ)، وبعضهم قبل وبعد؛ فالأقوال ثلاثة.
ولما كان كل ما نهى الله عنه مستعاذا منه، وذلك إما اعتقادات قلبية -والمتكفل بذلك مسائل علم الكلام-؛ وإما أعمال بالجوارح -والمتكفل بذلك مسائل الفقه وأصوله-، اندرج تحت تفسير الاستعاذة علي التفصيل ما لا يحصره العد من المسائل، ولا يحصل استيفاء ذلك إلا في مدة طويلة.
وجعل المستعاذ به، الاسم الدال علي الذات وجميع صفاتها وهو الله. وآكد الصفات في هذا المقام صفتا العلم والقدرة، إذ بهما يحصل دفع الشيطان.
فإن قلت: من جعل اسم اللَّه مشتقا غير مرتجل، يلزمه كون القديم
مسبوقا بغيره، ضرورة أن المشتق منه سابق على المشتق. فالجواب: أن المشتق اللفظ لا مدلوله. أو نقول: ليس المراد هنا الاششقاق حقيقة، الذي هو إنشاء فرع من أصل، بل مجازا وهو تقارب الألفاظ والمعاني.
المهدوي في "شرحه" على كتابه في القراءات المسمى بـ "الهداية": "ما روي عن حمزة من أنه كان يخفي التعوذ ويظهر البسملة في أول سورة الحمد، فوجهه التفرقة بينهما؛ إذ التعوذ ليس من القرآن بإجماع، والبسملة عنده آية من القرآن، فكره أن يظهر التعوذ مع إظهار البسملة، فيتوهم السامع أنه جعله من أم القرآن كما جعل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية منها، وأخفاه ليكون قد أزال اللبس، وفعل ما أمره الله به من التعوذ".
قلت: وإلى هذا أشار الشاطبي بقوله:
وَإِخْفَاؤُهُ فَصْلٌ أَبَاهُ وُعَاتُنَا
…
وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فيهِ أَعْمَلَا
يعني: روى إخفاء التعوذ عمن رمز له بالفاء والألف، وهما حمزة ونافع، وهذا أول رمز وقع في نظمه. والواو في "وعاتنا" للفصل. ثم قال:"وكم من فتى" أي: أن جماعة من العلماء اختاروا الإخفاء واحتجوا له كالمهدوي وغيره. وأما قوله: "فصل أباه وعاتنا"، فيحتمل أن يريد أنه فصل من فصول القراءة كرهه أشياخنا وحفاظنا، ويحتمل -وهو الظاهر- أن يكون إشارة منه إلى وجه الإخفاء، وهو الفصل بين ما هو من القرآن وما ليس منه، كما نقلناه عن المهدوي. فجملة "إخفاؤه فصل" ابتدائية، وجملة "أباه وعاتنا" فعلية، هي صفة الفصل على الاحتمال الأول، وهي مستأنفة على الاحتمال الثاني، وأبوا على الإخفاء لأن الجهر إظهار لشعار القراءة. وقوله "فيه أعملا"، أي: أعمل فكره.
فإن قلت: الاستعاذة في معنى النفي، و "الشيطان الرجيم" أخص من مطلق "الشيطان"، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم. قلت: هو نفي أعم لا نفي أخص، بمعنى أن الوصف بـ "الرجيم" بعد الاستعاذة والمستعاذ به ومنه.
والشيطان في اللغة يطلق على كل عاتٍ متمردٍ من الجنِّ والإنسِ
والدواب، والعرب تسمي الحيات شيطانا، وبه فسر بعضهم قوله تعالى {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} أي الحيّات، نقله الفرَّاء.
واختلف في الجن والشياطين على القول بوجودهما؛ وهو مذهب أهل الحق. قيل: هما نوع واحد، والشياطين متمردة الجن. ثم قال المتكلمون إنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل. وزعمت الفلاسفة أنها لا متحيزة ولا قائمة بمتحيز، وأكثرهم على أنها مخالفة بالنوع لأرواح البشر، ومنهم من يقول: الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها كانت شديدة الانجذاب إلى ما يشاكلها إن خيرة فخيرة، وإن شرية فشرية، وتعينها على الخير أو الشر، متعلقة بها ضربا من التعلق، وهى الشياطين.
وأوائل الفلاسفة والمعتزلة أنكروا الشياطين قائلين: إن كانت
بلطافة الهواء لم تقو على شيء من الأفعال وأفسد تركيبها أدنى سبب، وإن كثفت لزم رؤيتها. والجواب: عدم لزوم الرؤية ما لم يخلقها اللَّه سبحانه.