المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جده عبد المطلب - السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة - جـ ١

[محمد الصوياني]

فهرس الكتاب

- ‌هذه القصة

- ‌جده عبد المطلب

- ‌كان يحلم بعشرة وذبيح

- ‌الزواج

- ‌الفيل يمزق السكون

- ‌أساطير ومولد

- ‌طلوع نجم أحمد

- ‌التسمية

- ‌رضاعه وحضانته

- ‌إن محمدًا قد قُتِل

- ‌نعم شُقَّ صدره

- ‌في بيت عبد المطلب

- ‌في بيت أبي طالب

- ‌بحيرى والقافلة

- ‌الأمين والغنم

- ‌الشباب والنساء

- ‌خديجة

- ‌يبني الكعبة ويضع الحجر الأسود

- ‌النداء الأول لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌يشتغل بالتجارة

- ‌حتى الحجارة تحبه

- ‌لا أصنام

- ‌غرباء

- ‌لا تحدث إلا لنبي

- ‌الرؤيا الأخيرة

- ‌ليلة الحياة والقرآن

- ‌ثورة في السماء

- ‌كاهن وجنية

- ‌توقف الوحي

- ‌عودة الوحي

- ‌سرِّيَّة

- ‌الوحوش

- ‌إسلام أبي بكر الصديق

- ‌إسلام علي

- ‌سابقون .. سابقوق

- ‌للدعوة أسرارها

- ‌حر وعبد

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌أبو لهب .. أول مكذب

- ‌دعوة بني عبد المطلب فقط

- ‌الله وحده لا شريك له

- ‌يؤذون رسول الله

- ‌تعذيب الصحابة

- ‌أول الشهداء

- ‌يسرقون الفقراء

- ‌لقد كانوا مجرمين

- ‌عمر بن الخطاب

- ‌دعوة نبي مضطهد

- ‌إلى الحبشة

- ‌عبد الله بن مسعود

- ‌إسلام حمزة

- ‌المفاوضات بعد إسلام حمزة

- ‌لا تنازل

- ‌ما حدث لركانة

- ‌إسلام عمر

- ‌أول الدرب دعاء

- ‌عمر يلقي آخر السياط

- ‌قتل عمر

- ‌الذهاب إلى أبي طالب

- ‌الاضطهاد من جديد

- ‌الهجرة إلى الحبشة ثانية

- ‌أمَّا في مكة

- ‌إسلام أبي ذر الغفاري

- ‌أبو بكر يهاجر

- ‌دماء رسول الله

- ‌عبس وتولى

- ‌الوليد بن المغيرة: مؤمن فكافر

- ‌انشقاق القمر

- ‌مواساة

- ‌اعتراف أبي جهل بالحقيقة

- ‌الجنون تهمة جديدة

- ‌وحيد في حرة يثرب

- ‌سعد والفقراء

- ‌معجزة الذهب

- ‌مجاعة في مكة

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم والتعجيز

- ‌فتى قريش لا ييأس

- ‌من حطم الأصنام

- ‌الاتفاق على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌حصار جماعي في الشعب

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب

- ‌بطل إلى النار

- ‌الفتى الحزين علي

- ‌إلى الطائف

- ‌الجبال تنتقم

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌شق للسقف. شق للصدر

- ‌البراق

- ‌المسجد الأقصى

- ‌ترتيب الأحداث

- ‌1 - في بيت رسول الله:

- ‌2 - في المسجد الحرام عند بئر زمزم:

- ‌3 - شق صدره صلى الله عليه وسلم:

- ‌4 - إحضار البراق:

- ‌5 - ركوب البراق:

- ‌6 - المرور بقبر موسى:

- ‌7 - الوصول للمسجد الأقصى:

- ‌8 - الخمر واللبن:

- ‌العروج للسماء الدنيا

- ‌مَن مِنَ الأنبياء في السماء الدنيا

- ‌في السماء الثانية

- ‌السماء الثالثة

- ‌في السماء الرابعة

- ‌وفي السماء الخامسة

- ‌وفي السماء السادسة

- ‌في السماء السابعة

- ‌ سدرة المنتهى

- ‌صريف الأقلام

- ‌فرض الصلوات

- ‌آيات من تحت العرش

- ‌تفضل آخر

- ‌هل رأى ربه وسمعه

- ‌دخول الجنة

- ‌حوار بين الأنبياء

- ‌المسيح الدجال

- ‌خازن جهنم

- ‌أما في لجنة

- ‌وصية

- ‌العودة للمسجد الأقصى

- ‌رسول الله حزين معتزل

- ‌لكن أبا بكر لا يقول: كذبت

- ‌قريش تطلب الدليل

- ‌فرض الصلاة

- ‌أبو جهل يمنع الصلاة

- ‌يضعون السلا على ظهره

- ‌لم يبق إلا الدعاء

- ‌البحث عن الأنصار

- ‌في عكاظ

- ‌همدان

- ‌فتاة وحرير

- ‌الزواج بعائشة وسودة

- ‌عروس ولكن

- ‌في خيام ربيعة

- ‌وعند مفروق وقومه

- ‌إذًا

- ‌لقاء الأنصار

- ‌العقبة الأولى

- ‌مصعب بن عمير في يثرب

- ‌غربة مصعب

- ‌حيرة بين الأقصى والكعبة

- ‌العقبة الثانية

- ‌الشيطان يصرخ

- ‌رؤيا

- ‌هجرة عمر بن الخطاب وعياش وهشام

- ‌مأساة هند

- ‌رسول الله يؤمر بالهجرة

- ‌دار الندوة

- ‌علي بن أبي طالب على فراش الموت

- ‌ماذا دهاك يا أبا بكر

- ‌قريش غاضبة

- ‌الله ثالثهما

- ‌مطلوب حيًا أو ميتًا

- ‌على دروب السواحل

- ‌سراقة يتحدث

- ‌سراقة يبحث عن الدماء والدية

- ‌أبو معبد

- ‌خيمتا أم معبد

- ‌عودة أبي معبد

- ‌محطات

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم يودع مكة

- ‌اسم جديد

- ‌ماذا حدث .. ماذا حدث

- ‌كيف كانت قباء

- ‌مشاعر .. مشاعر

- ‌توقفت الناقة

- ‌عبد الله بن أُبي بن سلول- من عبد الله هذا .. وما هي قصته

- ‌أسد وأسيد وثعلبة

- ‌يوشع يرفض الإسلام

- ‌إبراهيم وأبناؤه

- ‌عبد الله بن سلام لا يقول: لا

- ‌أبو أيوب مُحرج

- ‌فمن هذا الشخص الغريب

- ‌قصة بناء المسجد النبوي

- ‌لكن ما قصة هذا اليمامى

- ‌عند صنع المنبر

- ‌امرأة من الأنصار وغلامها تبرعا بالمنبر

- ‌فماذا صنع

- ‌منبرًا من الجنة

- ‌تنتظر أسعد أيام حياتها

- ‌بيت أسعد بن زرارة

- ‌فمن هذا المتسلل

- ‌ماذا حدث لأبي بكر

- ‌الحمى والحنين .. والشعر والهذيان

- ‌شجرةً غريبةً

- ‌ماذا يحدث في دار أنس

الفصل: ‌جده عبد المطلب

‌جده عبد المطلب

لا أدري من أين أتى ..

ربما صعد جبلًا أو منه انحدر ..

ربما هبط واديًا؛ أو كان يرعى الغنم ..

لا أدري ..

لكنه كان متعبًا يقتلع خطاه ..

يسحب جسده الثقيل نحو الكعبة ..

حيث ألقى بذلك الجسد في الحجر ..

وتردى في هوة سحيقة من النوم ..

ليجد في قعرها هاتفًا يطالبه بعمق أكثر ..

فيقول له: (احفر طيبة)(1) ..

لم يمهله عبد المطلب ..

لقد عاجله قائلًا: وما طيبة؟

ولم تأت إجابة .. وأطبق الصمت، والهاتف اختفى ولم يرد. وفي الغد .. رجع عبد المطلب إلى مرقده ذلك عله يجد لذلك الحلم تفسيرًا. وما إن غاص في سباته حتى سمع ذلك الصوت الخفي يناديه مرة أخرى:(احفر بره)(2).

(1) اسم من أسماء زمزم.

(2)

اسم من أسماء زمزم.

ص: 9

(يقول عبد المطلب: قلت: وما بره؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه .. فجاءني فقال:

احفر زمزم.

قلت: وما زمزم؟

قال: لا تترف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل ..

فلما بيّن لعبد المطلب شأنها، ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمِعْوَلِه ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ وليد غيره .. فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطي (1) كبَّر (2). فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته .. فقاموا إليه.

فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًا .. فأشركنا معك فيها.

فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأُعطيتُه من بينكم.

فقالوا: أنْصفنا فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال عبد المطلب: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد هذبم.

قال عبد المطلب: نعم.

(1) طي البئر وهو من الحجارة.

(2)

قال: الله أكبر.

ص: 10

وكانت -هذه الكاهنة- بأشراف الشام. فركب عبد المطلب، ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز (1)، حتى إذا كانوا ببعضها نفذ ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم، فأبوا عليهم.

وقالوا: إنا بمفاوز .. وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.

فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل، دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخرهم رجلًا واحدًا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه. فقالوا: نِعْمَ ما أمرت به.

فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا) (2)

لقد كان ذلك الرأي سقيمًا، إنه انتحار بطىء سببه تلك الخصومة والضيق الذي لا مبرر له إلا حب الرياسة والشرف عند أولئك العرب، لقد أحس عبد المطلب بفساد ذلك الرأي فصاح في تلك الجثث الملقاة في اللُّحُود: (والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغى لأنفسنا؛ لَعَجْزٌ .. فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد: ارْتَحِلُوا.

فارتحلوا، حتى إذا بعث (3) عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب

(1) سميت بذلك لأنها مهلكة.

(2)

ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد، انظر ما بعده.

(3)

دفعها للنهوض.

ص: 11

وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش، وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال.

فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا واستقوا كلهم. ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة (1) هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم) (2).

رجع عبد المطلب بقسمة الله لا بقسمة الكاهنة وتمتماتها .. وأرجع الله بنبع الماء البارد الحياة إلى جثث التحفت بقبورها .. وقادتهم ناقة عبد المطلب إلى مكة يحملون على عيسهم بعض الماء والتسليم بحق عبد المطلب وزعامته. إنه الآن يتولى سقاية زمزم .. بئر جده إسماعيل عليه السلام.

(1) الأرض التي لا ماء فيها.

(2)

ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد إلى علي بن أبي طالب، رواه لنا ابن إسحاق فقال: حدثي يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير، إنه سمع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال عبد المطلب بن هاشم: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلي مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة. قلت: وما المضنونة

إلخ. انظر سيرة ابن كثير (1/ 167) ودلائل النبوة (1/ 93). وإسناد ابن إسحاق قوي: يزيد بن أبي حبيب شيخ ابن إسحاق: ثقة فقيه من رجال الشيخين، انظر تقريب التهذيب (2/ 363). ومرثد بن عبد الله اليزني شيخ ليزيد، انظر التهذيب (10/ 82) وهو ثقة أيضًا وفقيه. انظر تقريب التهذيب (2/ 236). وأما عبد الله بن زرير فهو تابعي ثقة، انظر التقريب (1/ 415) والتهذيب (10/ 82) والتهذيب أيضًا (5/ 216) علي رضي الله عنه لم يدرك جده فهو مرسل سمعه من أحد أعمامه أو غيرهم.

ص: 12

جده إسماعيل صاحب البئر .. وأول من شرب منها رغم أنه لم يحفرها لكنها من أجله تفجرت.

جده إسماعيل هو أول من جاء مكة من أجداد عبد الطلب .. بل هو أول من سكن مكة ..

عندما وصل إليها كان طفلًا محمولًا .. كان رضيعًا .. لكن مكة كانت أكثر طفولة

كانت أرضًا عراء .. جدرانها جبال .. كانت واديًا بلا شجر بلا حياة .. بلا بشر .. تمر بها القوافل فلا تتوقف .. والرياح أيضًا كانت تمر فلا تتوقف ..

لكن رفقة طيبة توقفت .. رفقة طاهرة قادمة من البعيد البعيد .. تعلو مع الدروب وتنخفض .. تعبر الفيافي والقفار .. تعبر المفاوز والرمال وتشق أمواج السراب.

امرأة طاهرة .. اسمها: هاجر .. جاء بها زوجها الخليل عليه السلام.

[جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت (1) عند دوحة (2) فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها .. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند

(1) قبل أن يبنى. والمقصود هنا موقع البيت الحرام- الكعبة.

(2)

الدوحة: الشجرة العظيمة.

ص: 13

الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1).

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه، يتلوى، يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت (الصفا)(2) أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي (3) رفعت درعها (4) ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت (المروة)(5) فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فعلت ذلك سبع مرات.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما".

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه .. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه (6)، وتقول بيدها هكذا .. وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.

(1) سورة إبراهيم: الآية 37.

(2)

هو جبل الصفا الذي يبدأ الحاج منه السعي.

(3)

وهو ما بين العلامات الخضر الموجودة داخل المسعى الآن.

(4)

درع المرأة هو قميصها.

(5)

جبل أخر.

(6)

تجمعه.

ص: 14

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينًا معينًا".

فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله .. فكانت كذلك حتى مرت بهم رِفْقَةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت من جرهم (1)، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين (2)، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم .. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم". وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.

وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشتهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشرٍ، نحن في ضيق وشدة وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه.

(1) جرهم حي من اليمن نزلوا مكة تزوج فيها إسماعيل، ومع مرور السنين ألحدوا فأبادهم الله (لسان العرب).

(2)

الجري هو الرسول.

ص: 15

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشىء؟ قالت: نعم .. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي .. وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوج منهم أخرى.

ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه: فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم .. فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللَّهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ .. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه".

قال ابن عباس: فهما لا يخلو عليهما (1) أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.

قال إبراهيم عليه السلام: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه: يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة -وأثنت عليه- فسألني عنك فأخبرته .. فسألى: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. وهو يقرأ عليك السلام. ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة .. أمرني أن أمسكك.

(1) أي اللحم والماء.

ص: 16

ثم لبث عنهم ما شاء الله .. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم .. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل .. إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك به ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: "فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا .. وأشار إلى أكمة (1) مرتفعة على ما حولها".

فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له .. فقام عليه وهو يبني .. وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:

"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم"

فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت .. وهما يقولان:

"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم"] (2)

هذه هي قصة قدوم إبراهيم وهاجر وابنهما إسماعيل عليهم الصلاة والسلام .. وهذه هي بداية الكعبة المشرفة التي أمر الله ببنائها. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا

(1) الأكمة الموضع الذي هو أشد ارتفاعًا مما حوله.

(2)

رواه البخاري عن ابن عباس.

ص: 17

مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1).

وكان لإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام قصة أخرى .. ليس فيها بناء .. بل فيها الصبر والدماء .. فقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه .. ورؤيا الأنبياء وحي من الله .. فكانت هذه الأحداث التي يقول الله عنها: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} . (2)

وكان هذا الذبح كبشًا افتدى الله به نبيه إسماعيل .. وحفظ به نسله من الانقطاع.

سافر إبراهيم .. وماتت هاجر .. وبقي إسماعيل في مكة حتى مات .. ودفن هناك .. ومرت الأيام على بيت الله وكعبته، وسلالة إسماعيل تحيط بها وتوحد الله .. وتحج بيته الحرام لا تشرك به شيئًا.

نعم لا تشرك به شيئًا .. حتى خرج ذلك المخرب .. ذلك الشيطان المسمى بـ: عمرو بن لحي .. فأعاد غرس الشك في أرض مكة وقلوب أهلها .. وانحرف بهم وبغيرهم عن توحيد الله الذي من أجله بعثت كل الرسل .. وأنزلت كل الكتب السماوية ..

(عمرو بن لحي بن عامر الخزاعي، يجر قصبه في النار .. وكان أول

(1) سورة البقرة: الآيات 125 - 129.

(2)

سورة الصافات: الآية 107.

ص: 18