الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"لا حاجة لنا في إبلك وغنمك"، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق راجعًا إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1).
مَن سراقة هذا وما الذي أتى به خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكيف عرف أنهم يسلكون طريق السواحل؟
سراقة يتحدث
ويقص كيف علم بمسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أخبره رجل لمحهم يسيرون بقرب الساحل .. وكان ذلك الحديث في مرابع بني مدلج (قوم سراقة) فيقول: (جاء رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر"دية" كل واحد منهما: من قتله أو أسره. فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي -بني مدلج- أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه)(2).
سراقة يبحث عن الدماء والدية
فحالما سمع حديث الرجل انتصبت في مخيلته (مائة من الإبل)(3) تدفعها قريش لمن ينثر على الساحل دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه .. تخيل سراقة تلك الإبل المائة وهي تسيل بين الأودية نحوه ليضمها ويلحقها بما يملكه من الأغنام والإبل المنتشرة في طريق المدينة. لذلك حاول إخراس ذلك المتكلم .. وتثبيط عزيمة السامعين من قومه حتى لا يلحقوا بالمهاجرين فيخسر الإبل الجائزة. لقد قال سراقة لذلك الرجل: (إنهم ليسوا بهم،
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (3615) والبيهقيُّ (2/ 483) واللفظ له.
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري (3906) مناقب الأنصار. أي رأيت أشخاصًا قرب الساحل.
(3)
جاء ذلك في حديث صحيح الإسناد عند البيهقي (2/ 487).
ولكن رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا، يبتغون ضالة لهم) (1)، ويواصل سراقة حديثه فيقول:
(ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة (2)، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه (3) الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام (4)، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات. ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان (5) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له:
إن قومك قد جعلوا فيك الدية .. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم،
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (3906) مناقب الأنصار. أي ذهبوا يبحثون عن شيء ضاع لنا.
(2)
الأكمة: هي التل.
(3)
الزج: هو الحديدة التى في أسفل الرمح.
(4)
جمع الزلم، وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام، وكانوا يكتبون عليها الأمر أو النهي ويضعونها في وعاء، فإذا أراد أحدهم أمرًا دخل يده فيه وأخرج سهمًا (أي زلمًا) فإذا خرج ما فيه الأمر استمر في عمله وإن خرج العكس رجع عنه.
(5)
هو الدخان أو الغبار.
وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني (1)، ولم يسألاني، إلا أن قال:"أخف عنا" فسألته أن يكتب لي كتاب أمن .. فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) بعد أن أعطى الأمان لذلك الباحث الذي يريد قتله وحز رأسه، معجزة مخيفة ورادعة ما حدث لسراقة، إذًا فرسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن حصين لن تصل إليه أيدي المشركين، فلماذا يقول لسراقة: أخف عنا .. لماذا يقولها وهو محاط بهذا الحشد من الخوارق، والجنود التي لا يعلمها إلا الله؟
إنه يقولها لأنه رسول جاء بمنهج من عند الله للبشر، وعلى البشر مهمة نشره هنا وهناك، فبجهدهم ينتشر، وعلى البشر أن يركضوا هنا وهناك بحثًا عن الأسباب الموصلة للنجاح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته يرسم خطًا لا يمكن أن ينتشر الإسلام إلا بالسير عليه، لقد هاجر- صلى الله عليه وسلم بعد أن خطط ورسم، وتكتم وتلثم، وسار في الليل والناس نيام، ثم جعل نتائج كل ذلك إلى الله سبحانه، إنه لم يتحدث لأبي بكر قبل الهجرة عن معجزات ستحصل في الطريق، لأنه فعل الأسباب كما طلب منه، ثم فوض أمره إلى الله، إن الهجرة تطبيق عملي لقوله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه)(3) فإذا أتقنه فقد انتهى دوره .. وهذه طاقة البشر لا يكلفهم الله فوق طاقتهم .. فإن قبض عليه المشركون وقبضوا على صاحبه .. فقد أديا ما طلب منهما ولا شيء عليهما وإن أكرمهم الله بمعجزة أو خارقة فذلك فضل من الله .. لكن المسلم يأثم إن لم يتقن عمله أملًا في حدوث معجزة أو كرامة تقلب
(1) أي لم يأخذا منه شيئًا.
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (3906).
(3)
حديثٌ حسنٌ. انظر صحيح الجامع (2/ 144).
الأوضاع وعليه أن ينتظر النكسة في أية لحظة تطرق بابه .. لقد استوعب رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأصحابه المستضعفون هذه الحقيقة .. فدعوا وأسروا واختفوا ولاقوا ما لاقوا في سبيل ربهم .. ولما أقفلت قريش أبواب مكة كلها في وجوههم تركوها لهم .. غادروها وهي أحب البقاع إلى الله وإليهم .. لقد وقف صلى الله عليه وسلم يومًا (بالحزوراء في سوق مكة فقال: إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت وقال: علمت إنك خير أرض الله، وأحب أرض الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)(1).
غادرها صلى الله عليه وسلم بعد أن ضاقت به .. وغادرها الصحابة كلهم نحو مدينة مفتحة الأذرع والأبواب .. للهاربين للخلاص .. للحاملين سورة الإخلاص .. غادروها إلى مدينة عطوف .. يحن فيها كل شيء .. حتى الجذع يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى الحجارة فيها بادلت الصحابة عشقًا .. ألم يلتفت صلى الله عليه وسلم إلى جبل أحد فيقول: (أحد جبل يحبنا ونحبه)(2) إن الهجرة ترافق الشمس كل صباح تحيي الغرباء وتقول لهم: إذا أتقنتم أعمالكم تحولت مدن العالم إلى مدائن للحب والأنصار .. وشغفت جبال الدنيا بكم .. كما شغف جبل أحد بأسلافكم.
واصل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه المسير .. وفي طريقهما شاهدا بعض الأغنام وشاهدا بينهما الراعي .. فطلبا منه السقيا .. فقال: (ما عندي شاة تحلب، غير أن ها هنا عناقًا حملت أول الشتاء، وقد أخرجت، وما بقي لها لبن، فقال صلى الله عليه وسلم:
(1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البيهقي (2/ 17 - 518) من طريق الزهري قال: أخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهرى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزوراء في سوق مكة وهذا الإسناد صحيح وهو المحفوظ كما قال البيهقي.
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري. انظرصحيح الجامع (1/ 114). وأُحد جبل في المدينة.
"ادع بها". فاعتقلها النبي-صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب (1) وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط؟
قال صلى الله عليه وسلم: "أو تراك تكتم علي حتى أخبرك؟ " قال: نعم. قال- صلى الله عليه وسلم: "فإني محمد رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ. قال-صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال صلى الله عليه وسلم:"إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا") (2).
هذا الراعي المسكين نشأ في الصحراء حتى صار قطعة منها تهتز ربيعًا وجمالًا عندما يغشاها المطر .. ولقد اهتز إيمانًا عندما رأى المعجزات وحسن الأخلاق تهز عقله ليفيق من سبات الافتراءات التي أوصلتها إلى مسامعه قريش .. هذه الماعز التي لم يكن في ضرعها سوى الجفاف .. درت حليبًا وأنزلت .. أما هذا الرجل المطارد المتهم الذي حلبها فلم يشرب رغم عطشه .. لقد أسرت هذا الراعي أخلاق لم يعهدها .. يحلب وهو نبي الله ويسقي منهم دونه ثم يشرب آخرهم وهو الذي لو أراد لأدار الله له هذه الأرض ينتقي منها ما يشاء .. فأسلم الراعي وآمن وقرر ترك الصحراء والغنم ما دام بصحبة نبي.
لكن خلق النبي صلى الله عليه وسلم الكريم وخوفه على أتباعه من الاضطهاد جعله يريثه إلى أجل لا يعلمه إلا الله. وامتثل هذا الراعي وصبر رغم شوقه ولهفه. هذا الراعي أظنه.
(1) الذي حلب هو رسول صلى الله عليه وسلم، ثم سقى الجميع ثم شرب آخرهم.
(2)
إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البيهقي وأبو يعلى، وانظر تخريج الذي بعده فهو هو.