الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدينة
…
أليس من سبيل إلى تشريدهم خلف جبال المدينة .. ؟ المدينة تقول: لا يا ابن أبي بن سلول .. ليس هناك من سبيل .. فلقد تغيّر أصحابك .. غيّرهم نبي الله .. وغيّر نفوسهم .. وغيّر بلدتك وغيّر اسمها .. وإن لم تكن تحتمل هذا التغير وهذا الحب الذي تكرهه فاذهب إلى دار أنس بن مالك لتنظر ماذا يفعل نبي الله صلى الله عليه وسلم .. وماذا يفعل معه المهاجرون والأنصار .. اذهب إلى دار أنس بن مالك فهناك أمرٌ خطير لا أظنك سوف تحتمله.
ماذا يحدث في دار أنس
نبي الله صلى الله عليه وسلم الآن في دار أنس .. والمهاجرون والأنصار من حوله يتطلعون إليه .. ينتظرون كلماته والحماس يقفز في جوانحهم .. يتطلعون إلى هديةٍ للجميع .. ها هو أنس بن مالك بين المهاجرين والأنصار .. سألناه:
ما الذي يحدث في داركم يا أنس؟ أخبرنا .. أجاب أنس إجابة كالعيد فقال: (حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا)(1) يا الله .. ما أروعه من خبر .. هنيئًا للدنيا ..
هنيئًا لك يا أنس .. وهنيئًا لداركم ..
ها هم الصحابة يخرجون من الدار .. وقد صاروا أخوة .. فوق أخوة الإِسلام .. فالمسلم أخو المسلم .. لكن ميزة الأخوة في دار أنس أنها لم تحدث من قبل .. ولن تحدث من بعد .. إنها غيمة وحي .. أمطرتهم حبًا ثم ارتحل ولم تمطر أحدًا سواهم .. ها هي الغيمة بين شفتي أحد الصحابة وهو يحدثنا عنها فيقول:
(1) حديث صحيح. رواه البخاري وأحمدُ واللفظ لأحمد (3/ 111).
(كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم)(1) لقد آخى صلى الله عليه وسلم بين صحابته .. فماهت الأرواح بالأرواح ..
ها هو أبو عبيدة يمسك بيد أخيه .. نسأل أنسًا مرة أخرى فيجيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد (آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة)(2).
ونسأل أنسًا رضي الله عنه: من هذا الذي يلح ويلح على عبد الرحمن ابن عوف فيقول رضي الله عنه:
(إن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري .. فقال له سعد:
أي أخي .. أنا أكثر أهل المدينة مالًا .. فانظر شطر مالي فخذه .. وتحتي امرأتان .. فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها.
فقال عبد الرحمن:
بارك الله لك في أهلك ومالك .. دلوني على السوق .. فدلوه .. فذهب .. فاشترى وباع فربح .. فجاء بشيء من أقط وسمن. ثم لبث ما شاء الله أن يلبث .. فجاء وعليه ودع زعفران .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهيم؟ " فقال:
يا رسول الله تزوجت امرأة .. قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من ذهب .. قال صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ ولو شاة".
قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا وفضة) (3).
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (4580).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم (مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه).
(3)
سنده صحيح. رواه الإِمام أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 327) حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وحميد عن أنس، عفان بن مسلم ثقة ثبت من رجال الشيخين (التقريب =
إن أخوة النسب تركض وتركض .. وتلهث وتتعب فلا تستطيع الإمساك بما أمسكت به أخوة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع .. لقد حولت دار أنسٍ سعد بن الربيع ربيعًا يتقلب فيه عبد الرحمن بن عوف .. ربيعًا أنصاريًا .. يتنقل فيه عبد الرحمن ويسافر فلا يجد له حدودًا .. يبحث عن أطرافه فلا يرى سوى الربيع أينما حل .. أينما اتجه ..
وعندما يحاصره هذا الكرم يتوجه بقلب المتيم المأخوذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكى من هذا الحب .. ومن هذا الكرم .. يتوجه هو والمهاجرون ..
ويقول هو و (المهاجرون: يا رسول الله:
يا رسول الله .. ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل .. ولا أحسن بذلًا من كثير .. لقد كفونا المؤونة .. وأشركونا في المهنأ .. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله .. قال صلى الله عليه وسلم:
"لا .. ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم"(1).
يحق للمهاجرين أن يشتكوا
…
ويحق لهم أن يحتاروا فلقد تساءلت الدنيا: من لهؤلاء الهاربن الهائمن .. المشردين .. من {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2).
= 2/ 25) وحماد وشيخاه أئمة ثقات معروفون. وهو عند البخاري دون قول عبد الرحمن في آخر الحديث (5072).
(1)
سنده ثلاثى صحيح. رواه الإِمام أحمد (ابن كثير 2/ 328) حدثنا يزيد أخبرنا حميد عن أنس، يزيد بن هارون بن زاذان ثقة متقن عابد من رجال الشيخين (التقريب 2/ 372) وشيخه حميد ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة سمع من أنس بن مالك. التقريب (1/ 202).
(2)
سورة الحشر: الآية 8.
فأجابت طيبة .. وأجابت الأنصار .. وتسابقت الأيدي إلى أحبابها المهاجرين .. وأشرعت الأبواب .. لم يكن هناك ازدحام من المهاجرين على أبواب إخوانهم الأنصار .. لكن كان هناك ازدحام بين القلوب الأنصارية على أحبابهم المهاجرين .. كانت الأنصار أمواجًا من الرحمة تغمر إخوانهم المهاجرين وتنعشهم بعد طول مسير وطول حرمان وعذاب .. حتى لقد (اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين)(1) .. أي حب هذا .. كانت أيدي الطواغيت تتخطفهم بالسياط واللكمات .. وهذه هي الأيدي المتوضئة تمسح آثار السياط وتمسح الدموع والجراح وتحمل هؤلاء الغرباء إلى حيث الرحب والسعة .. الفقراء من الأنصار كانوا أسرع من الأغنياء ينافسونهم ويطلبون القرعة أيضًا .. فالحب والكرم ليس حكرًا على أحد .. فالصدور أفسح من المنازل .. والكلمات ألذ من أطايب الطعام .. والشهادة تنزل من فوق سبع سماوات .. شرفًا للأنصار يفخرون وأبناؤهم بحمله .. الشهادة لهم لم تأت من بيت شعر مدفوع الثمن .. أو خطبة من فصيح يبتغى بها قربى .. الشهادة جاءت من أكرم الأكرمين .. من خالق الكرماء ومعطي الأغنياء .. آيات تتلى إلى يوم القيامة {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا (2) الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .. المرء يُمدح إذا كان كريما .. ويُمدح أكثر إذا كان يقدم للآخرين كل ما عنده .. لكن أن يكون محتاجًا أشد الحاجة فيقدم للآخرين حاجته الملحة فذلك كرم
(1) حديث صحيح. رواه البخاري وهذا جزء منه. ومعنى اقترعت أي قاموا بإجراء القرعة لشدة تنافسهم في إكرام المهاجرين وإسكانهم.
(2)
سكنوا.
(3)
سورة الحشر: الآية 9.
انتزعه الأنصار .. وهذا أحدهم .. يشهد له الله .. يشهد له سراجه .. وهذه امرأة أنصارية سخية يشهد لها الله .. ويشهد لها سراجها .. في ليلة جاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجاعت عائشة وجاعت سودة .. ولم يكن في تلك الحجرات الكريمة سوى قطرات من الماء تعكس لمعان النجوم وكرم الأنصار مع ذلك القادم من بعيد .. تلك الليلة تقول لنا: (إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه .. فقلن: ما معنا إلا الماء .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضم .. أو يضيف هذا؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا .. فانطلق به إلى امرأته .. فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني .. فقال: هيئى طعامك، وأصبحى (1) سراجك، ونوِّمى صبيانك إذا أرادوا عشاءً .. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها .. فأطفأته .. فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاوين .. فلما أصبحا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:
ضحك الله الليلة .. أو عجيب (2) من فعالكما:
فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)) (4).
ضحك الله وعجب من بيت من بيوت الأنصار ليس فيه سوى طعام الصغار .. ليس فيه سوى الإيمان والكرم .. أي شيء حزته أيها الأنصاري
(1) أي أوقدى مصباحك وأشعليه.
(2)
ضحك الله وعجب ضحكًا وعجبًا يليق بجلال الله وعظمته ليس كضحك المخلوق ولا كعجب المخلوق وليس كمثله شيء
…
نؤمن به ونسلم كما جاء من عند الله ورسوله وصدق الله ورسوله
…
فالله ليس كمخلوقاته وصفاته ليست كصفات مخلوقاته.
(3)
سورة الحشر: الآية 9.
(4)
حديث صحيح. رواه البخاري.
أنت وزوجتك الكريمة .. أي شيء فعلتماه بأخيكما المسكين .. أي كرم كان هناك عندما ردد الأنصار يا رسول الله .. (اقسم بيننا وبينهم النخل)(1) .. عرق السنن .. وحصاد العمر والجهد يبذله الأنصار كالماء البارد كالبسمة العذبة لإخوانهم المهاجرين .. من يلوم الدنيا في حب الأنصار .. من يلوم المهاجرين في حب الأنصار .. من يلومه صلى الله عليه وسلم عندما يعلن حبه للأنصار على الطرقات .. على النساء .. وعلى أطفال كالزهور (جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي
…
والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي") (2).
يا طيبة .. يا عاشقة الأنبياء والمرسلن .. يا حاضنة الوحي والمهاجرين .. يا أرض الأناشيد والنخيل .. حاصرت القادمين بحبك حتى استسلموا فأعلنوه متفجرًا من أعماقهم .. ها هو صلى الله عليه وسلم ذات يوم جميل كان فيه جالسًا على دروب أطفال الأنصار فلم يصبر .. قام معلنًا حبه .. حبًا رآه أنس ورواه فقال:
(رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين -حسبت أنه قال من عرس (3) - فقام النبي ممثلًا (4) فقال:
"اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي ..
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (3786).
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري (3785).
(3)
الذي قال: حسبت ليس أنس ولكنه أحد الرواة عنه.
(4)
أي مكلفًا نفسه
…
وجاء في رواية (ممتنًا).
اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي ..
اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي" (1).
إن بهجة النساء والأطفال والسامعين بما قاله صلى الله عليه وسلم تفوق بهجتهم بذلك العرس وأفراحه .. وإنهم والله ليستحقون هذا الحب، فالذي فعلوه لم يفعله أحد قبلهم .. ولم يفعله أحد بعدهم .. لقد تمادى حب الأنصار وتجاوز الكرم .. لقد تمادوا إلى حد (اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين) (2) .. تألق الأنصار فأوقفوا شمس التاريخ ونقشوا عليها .. ثم تركوها تنطلق للأجيال .. أوقفوا شمس التاريخ عندما توجهوا إليه صلى الله عليه وسلم بقلوب كالسحاب فأمطروه بقولهم:(اقسم بيننا وبينهم النخل)(3) لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بالانتهازي .. ولا يحب لصحابته أن يكونوا كذلك .. كان صلى الله عليه وسلم يربي الأمة ويلهم الأجيال .. كان يريد أمة حية تنبض بالحركة والمسير إلى لا حدود .. أدرك الأنصار ذلك فـ (قالوا: يكفوننا المئونة ويشركوننا في الثمر .. قالوا: سمعنا وأطعنا)(4).
وبدأ المهاجرون بالعمل .. وهوت سواعدهم كالحديد تشق الأرض .. تحرثها وتقطف .. وبدأ المهاجرون والأنصار صفًا واحدًا .. صفًا يشكل ملامح الدولة الجديدة .. دولة تنهض نحو السماء بعد أن تشعبت جذورها في القلوب وفي المدينة .. الجميع يبتهجون بذلك .. الجميع إلا قلوبًا يحرقها ما يحدث حولها فهي حانقة دائمًا ..
(1) حديث صحيح. رواه البخاري لكن الذي في البخاري: ثلاث مرار.
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري (3929) بلفظ: قرعت.
(3)
حديث صحيح. رواه البخاري (774).
(4)
حديث صحيح. رواه البخاري (774).