الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتطعم فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين (1)، مسنتين (2)، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة (3)، فقال: ما هذا الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال-صلى الله عليه وسلم:"بها من لبن؟ " قالت: هى أجهد من ذلك. قال- صلى الله عليه وسلم:"أفتأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت: بأبي أنت وأمي، نعم. إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.
فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ضرعها بيده، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شأنها، فتفاجت (4) عليه ودرت واجترت، فدعا بإناء يريض الرهط (5)، فحلب فيها ثجًا (6)، حتى علاه البهاء (7)، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ثم أراضوا (8)، ثم حلب ثانيًا بعد حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا عنها) (9).
عودة أبي معبد
بعد رحيل هؤلاء الأطهار (ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا (10)، يتساوكن هزلًا، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال:
(1) أي نفذ ما عندهم كأنهم لصقوا بالرمل.
(2)
أصابتهم سنة أي القحط.
(3)
أي جانب الخيمة.
(4)
أي فرجت ما بين رجليها للحلب.
(5)
يريض: أي يروي.
(6)
ثجًا: أي لبنًا سائلًا كثيرًا.
(7)
هو بريق رغوة الحليب.
(8)
أي شربوا عللًا بعد نهل أي الشرب الثاني.
(9)
انظر تخريجه في نهاية الخبر.
(10)
هزيلة.
من أين هذا والشاة عازب حائل (1) .. ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله: كذا .. وكذا .. فقال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة .. أبلج (2) الوجه، حسن الخلق .. لم تعبه ثجلة (3) .. ولم تزر به صعلة (4) .. وسيم قسيم، في عينه دعج (5) .. وفي أشفاره عطف (6) .. وفي صوته صهل (7) .. وفي عنقه سطع (8) .. وفي لحيته كثاثة (9) .. أزج أقرن (10) .. إن صمت فعليه الوقار .. وإن تكلم سماه وعلاه البهاء .. أحمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه من قريب .. حلو المنطق .. فصل لا نذر ولا هذر، كأنه منطقه خرزات نظم تحدرن، ربعة (11)، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر (12)، غصن بين غصنين، هو أنظر الثلاثة منظرًا .. وأحسنهم قدرًا .. له رفقاء يحفون به .. إن قال أنصتوا لقوله .. وإن أمر تبادروا إلى أمره .. محفود محشود (13) .. ولا عابس ولا معتد. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره. ما ذكر بمكة "ولقد هممت بأن أصحبه" ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.
(1) أي لم تحمل.
(2)
مشرق الوجه مسفر.
(3)
ضخامة البطن واسترخاؤه.
(4)
النحافة.
(5)
اشتد سوادها وبياضها.
(6)
الأشفار: طرف جفن العين التي ينبت منها الشعر، أي إنها طويلة حتى انعطفت.
(7)
وقيل: صحل أي أنه حاد الصوت.
(8)
سطع: أي طال عنقه.
(9)
اجتماع وكثرة.
(10)
أي لا قليل ولا كثير.
(11)
وسيط القامة.
(12)
أي لا تتجاوزه العين إلى غيره احتقارًا.
(13)
مطاع في قومه يسرعون لخدمته.
فأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعون ولا يدرون من صاحبه:
جزى الله رب البيت خير جزائه
…
رفيقين قالا خيمتى أم معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به
…
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنهم
…
به من فعال لا تجازى وسؤدد
ليهن بنى كعب مقام فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شائها وإنائها
…
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
…
عليه صريحًا صرة الشاة مزبد
فغادرها رهنًا لديها لحالب
…
يرددها في مصدر ثم مورد
وأصبح صوت بالمدينة بين السماء والأرض يسمعون ولا يرون من يقوله) (1).
سمع شاعر الحياة الجديدة حسان بن ثابت تلك الأبيات، فهاجت
(1) رواه أبو نعيم في الدلائل -واللفظ له- (1/ 337) والحاكم (3/ 9) والطبرانيُّ (مجمع الزوائد 6/ 58) وابن سعد (1/ 230). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو يعتبره صحيحًا لأسباب هي قوله:
إن نزول المصطفى-صلى الله عليه وسلم بالخيمتين متواتر في أخبار صحيحة ذوات عدد، وإن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون بوضع الحديث والزيادة والنقصان، وقد أخذوه لفظًا بعد لفظ عن أبي معبد وأم معبد، ومنها أنه له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه والأب عن جده لا إرسال ولا وهن في الرواة، ومنها إن الحر بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الذي رويناه بسياقه: الحديث عن الكعبين فإنه إسنادٌ صحيحٌ عال للعرب الأعاربة، وقد علونا في حديث الحر بن الصباح هذا ما قاله الحاكم رحمه الله. لكن هناك ملاحظات على قوله رحمه الله منها: أن الحديث حسن لكن ليس بهذا النص لشدة ضعف طرقه
…
خاصة حديث الحر بن الصباح ففي سنده متهم.
ومنها: أن الشعر المذكور وأن قائله من الجن يحتاج إلى طرق أخرى تقويه لكن الحديث حسن برواية البيهقي والبزار اللتين ذكرهما ابن كثير في السيرة (2/ 258) وهي رواية مختصرة.
شاعريته، وأطلق الشعر يخطف ما لدى كفار قريش من فضائل ويحملها أنوارًا نحو مدينة الإسلام الجديدة:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
…
وقدس من يسرى إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
…
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
…
فأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا
…
عمايتهم هاديه كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب
…
ركاب هدى حلت عليهم
نبي يرى ما يرى الناس حوله
…
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
…
فتصديقها في اليوم أو في ضحى
ليهن أبا بكر سعادة جده
…
بصحبته من يسعد الله يسعد
ليهن بنى كعب مقام فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وبعد أن ودع صلى الله عليه وسلم أم معبد أحث السير وربما صادفه في مسيره آخرون .. فكان يواجه كل شخص بأسلوب مناسب .. فإن كان المار ممّن يخشى منه تسرب الأخبار .. تكفل أبو بكر بالإجابة. ولذلك يقول أنس رضي الله عنه: (أبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير)(1) الذي يصل الدنيا بالآخرة، ويحطم الأبواب بينهما، فتشع أنوار الجنة في قلوب المؤمنين ودروبهم أينما حلوا أو ارتحلوا.
(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري (3911).