الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
وانحدرت قريش من ذلك الجبل تلهث وتلهث .. وتتصبب عرقًا وهزيمة .. تدحرجت أمامها كبرياؤها وغطرستها .. وأعلنت لمن حولها عن هزيمة قاسية تلقتها من محمد صلى الله عليه وسلم .. وأعلنت عجزها وضعفها .. وحاولت الاستنجاد وطلب العون من أي شخص كان ليقبض على محمد صلى الله عليه وسلم فهو:
مطلوب حيًا أو ميتًا
وقد فتحت قريش صناديق الحلال والحرام .. وعرضت الهدايا والهبات أمام الجميع .. تقدمها لمن يحضر رسول الله حيًا .. أو يسحبه ميتًا .. أو يحمل رأسه ورأس صاحبه إلى قريش .. أحد الذين سمعوا بالجائزة .. أحد الذين فركوا أيديهم طمعًا فيها رجل اسمه: سراقة بن مالك .. يحدثنا فيقول: (جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية، كل واحد منهما، من قتله أو أسره)(2).
إذًا فقريش قد استنفرت رجالاتها وأموالها وتوجهت إلى كل العرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم تستحثهم وتغريهم .. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم-كان أذكى من الجميع وقد أعد خطة محكمة لتذهب ضربات قريش في الهواء .. خطة تجعلها لا تجني من ركضها سوى الغبار والعرق .. أما تنفيذ هذه الخطة فقد بدأ حالما انحدرت قريش من جبل ثور .. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينحدر بعدها لقد قرر أن يمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام .. هذه الأيام الثلاثة
(1) سورة التوبة: الآية 40.
(2)
جزء من حديث صحيح طويل سيمر معنا. رواه البخاري.
ستكون محمومة بالبحث والتفتيش .. وهي كفيلة بالفتِّ من عزيمة الكفار وتسريب الإحباط إلى نفوسهم.
لكن كيف سيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ما يجري .. كان الجواب شابًا من أبناء أبي بكر الصديق أيضًا .. ملأه الإيمان حبًا .. وحماسًا وبذلًا .. اسمه: عبد الله بن أبي بكر يعيش مع قريش في وضح النهار .. يخالطهم يكلمهم. يسمع منهم .. يلتقط أخبارهم ومشاريعهم ثم يحملها إذا جن المساء .. فيصعد بها الجبل .. وفي الغار تكون أخبار قريش ومخططاتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه .. وقبيل طلوع الشمس عند الفجر .. وبعد أن يؤدي الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدر إلى مكة ثانية ليقوم بمهمته من جديد .. وعبد الله لم يكلف في هذه المرحلة إلا بمهمة واحدة .. هي حمل الأخبار فقط .. حتى لا يثير شك من يصادفه في طريقه.
أما الطعام .. فقد كلف به شاب تربى في بيت أبي بكر أيضًا .. إنه أحد رعاة الغنم .. واسمه: عامر بن فهيرة .. كان يسوق غنماته ويسيح معها في نزهة خارج مكة .. وهذا أمر طبيعي لا يلفت الانتباه أبدًا .. فهو راعي غنم ومهمته تقتضي أن يكون خارج المدينة .. فكان يحمل الزاد إليهما بعد العشاء .. ثم ينصرف عنهما قبل طلوع الشمس أيضًا. تقول عائشة رضي الله عنها:
(فَكَمِنا (1) فيه ثلاث ليال، ويبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر -وهو غلام شاب، ثقف (2)، لقن (3) - فيدلج (4) من عندهما بسحر (1)، فيصبح مع
(1) اختفيا في الغار.
(2)
حاذقًا: خفيفًا.
(3)
ذكى.
(4)
الإدلاج: هو السير أول الليل، والمراد هنا إنه يسير من عندهما وقت السحر.
قريش بمكة كبائت (2)، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- منحة (3) من غنم، فيريحها (4) عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما (5) - حتى ينعق (6) عامر بن فهيرة بغلس (7)، يفعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث) (8).
إذًا هناك بطلان: أحدهما يكشف تفكير العدو. والآخر يحمل الطعام. لكن هل سيدوم الحال على هذا الوضع؟ لقد اشترى أبو بكر راحلتين فأين هما .. أعند عبد الله .. أم بين أغنام عامر بن فهيرة؟ وكيف سيحصلان عليهما وعيون قريش تدور .. تتلصص في كل مكان؟
لم تكن الإجابة صعبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد أعد لذلك خطةً محكمة .. هذه الخطة تقضي بألا تكون الراحلتان عند عبد الله بن أبي بكر ولا عند عامر بن فهيرة .. فلو كانتا عند أحدهما لارتابت قريش وزرعت شكها عينًا تلاحقهما حتى تظفر بما تريد .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك
= (1) السحر: هو قبيل الصبح.
(2)
أي كأنه نائم في مكة.
(3)
عطية.
(4)
المراح: هو ما تأوى إليه الإبل والغنم بالليل.
(5)
اللبن الذي رضفت فيه الحجارة المحماة بالنار لينعقد ويثخن وتزول رخاوته.
(6)
النعق: صوت الراعي بغنمه.
(7)
الغلس: ظلمة آخر الليل.
(8)
حديث صحيح. رواه البخاري (3905).