الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد أصبح هذا اليتيم بين البهم وحيدًا في الصحراء فهل حدث له شىء؟
نعم شُقَّ صدره
لقد جرى لهذا اليتيم شيء لا يجري لغيره .. دعونا نستمع إليه وهو يحدثنا فيقول: (فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان، عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجًا، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه:
زنه بعشرة من أمته. فوزننى فوزنتهم.
ثم قال:
زنه بمائة من أمته. فوزنى بمائة فوزنتهم.
ثم قال:
زنه بألف من أمته. فوزنني بألف فوزنتهم.
فقال: دعه عنك، لو وزنته بأمته لوزنهم) (1).
لقد شُقَّ صدر هذا الصغير بين غنماته حقًا .. بينما هو ينظر ما يفعله هذان الملكان به .. ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه موضع الشق بعد النبوة. مما يؤكد أن هذه الحادثة حقيقة مادية .. كانت الطريقة التي تمت بها فوق إمكانات البشر وطاقاتهم وتصوراتهم .. يقول أنس بن مالك رضي
(1) هذا الحديث صحيح وقد مر معنا، عند الحديث عن استرضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد بن بكر، وعند الحديث عن المولد والأساطير بصيغة أخرى وهي في الحديث التالي.
الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره حليمة- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون)(1).
يقول أنس بن مالك مؤكدًا ذلك: "وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم) (2).
هذا ما حدث لمحمد الصغير صلى الله عليه وسلم .. ولقد ازداد إعجاب بعض الناس بهذه الحادثة .. فصاروا يلفقون حولها الأكاذيب ظنًا منهم أنهم يحيطون نبيهم بشيء من التكريم والتعظيم .. وهو أغنى الناس عنهم وعن أكاذيبهم (3) .. كما شطح على الطرف الآخر أناس تطرفوا فقالوا: إن هذا الشق كان حلمًا وليس حقيقة .. فبماذا تراهم يفسرون لنا قول أنس السابق: من أنه رأى أثر المخيط .. ؟ نعم لقد رآه .. ولقد صدق. ولقد حدث. وهذا ما جعل حليمة بعد سماعها للقصة تعيد محمدًا صلى الله عليه وسلم لأمه خوفًا عليه .. أتراها تعيده من أجل رؤيا .. ثم هؤلاء الصبية الذين أقبلوا يقولون: إن محمدًا قد قتل .. هل كانوا في الحلم .. هل دسهم محمَّد صلى الله عليه وسلم قبل نومه في عقله الباطن .. ؟! لئن هربت عقولنا من كل حديث صحيح النقل لمجرد أننا لم ندركه إن تلك لكارثة (4).
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 47).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 47).
(3)
مثال ذلك ما لفقه الغلابى وغيره حول هذا الحدث. انظر ذلك في موسوعة السيرة.
(4)
مثال ذلك حديث رواه البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن الذباب إذا وقع في شراب أحدكم فليغمسه كله في الشراب ثم يخرجه فيرميه لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر =
عاد محمَّد الصغير إلى أحضان آمنة .. ترعاه وتحنو عليه .. تحدثه ويحدثها تلاعبه ويلاعبها .. وتقص عليه وتملأ دنياه ويملأ دنياها .. فأي براءة كانت تشع في عيني ذلك الطفل الطاهر .. المغسول بالثلج في مرابع حليمة .. لا شيء كالأطفال براءة .. فتخيل براءة محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو صغير .. يا لبهجة آمنة وسعادتها به .. ويا لشقاءه بها وحزنه عليها .. بعد أن أخذته معها متجهة به نحو أخواله في (يثرب) .. حيث قضى وقتًا هناك يمرح في طرقاتها ويتأملها .. وكأنه يقول: انتظريني يا يثرب .. فسأعود لأضع لك اسمًا جميلًا خالدًا كجمال التوحيد وخلوده.
ثم رجعت آمنة بصغيرها إلى مكة .. وفي مكان يقال له الأبواء بين مكة والمدينة توقفت المطايا .. ونزلت آمنة عن ظهر الراحلة ونزل صغيرها وقد تعلقت عيناه بها وهي تتوجع وتئن أمامه .. فلا يستطيع منحها ما يخفف ألمها سوى نظرات حائرة خائفة .. وتزيد آلامها ويزيد أنينها، وتموت آمنة وتدفن أمام عينيه .. بعيدًا عن مكة .. بعيدًا عن عبد المطلب .. بعيدًا عن أعمامه .. تؤخذ آمنة منه .. وتوارى تحت أكوام التراب .. ويعود باكيًا وحيدًا حزينًا وقد تيتم مرة ثانية .. يعود إلى مكة .. يعود إلى ذلك البيت الصغير .. ويجول ببصره في أركانه الصامتة .. هنا كانت ترقد آمنة ..
= دواء هرب بعض أبناء المسلمين من هذا الحديث وحاربوه واتهموا الإمام البخاري بالكذب، واستغل بعض الشيعة هداهم الله ذلك فصار يطعن في الأحاديث وفي السنة -والشيعة لا يؤمنون بالأحاديث التي نقلها الصحابة- فماذا كانت النتيجة، لقد جاءت الشهادة بصحة هذا الحديث من أرقى وأحدث المختبرات العلمية في العالم وأكدوا صحة هذا الحديث علميًا بعد أن أجروا التجارب الكثيرة، ولقد تابع هذه التجارب الأستاذ الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر ودَوَّنَها في كتابه (الإصابة في صحة حديث الذبابة) وهو يبحث في صحة هذا الحديث من الناحية النقدية والطبية.
وهنا كانت تعد له طعامه .. وهناك كانت تلاعبه وتسعى لإضحاكه عندما تقوده خطواته الصغيرة إليها باكيًا .. وفي هذا المكان كان يستحم بيديها.
أيها البيت الصامت كالحداد لم يعد هناك صوت .. أيها البيت الصامت لم يعد هناك أم .. لم يعد هناك آمنة .. إنها ترقد هناك بالأبواء .. فيا للوعته ولهفه ويا حر قلبه عليها.
ربما تنبه ليلة فلم يجدها بقربه ففاضت عيناه بالدمع .. وألجمه الحزن والحنين إليها .. أو ربما كان يسأل جده وأعمامه عنها فيتجرعون الصمت .. وتفيض أعينهم شفقة عليه وحزنًا، فتتيه عنهم الإجابة .. إن للطفل أسئلة ملحة ومحرجة .. فكيف بأسئلة طفل مفجوع أصابه الدهر بأبيه وأمه .. يسأل عنها ومتى ستعود وإلى أين ذهبت .. وهل ستتركه وحيدًا أم سيذهب إليها .. أسئلة كلها بث وانكسار متى ما حاصرتك خفضت رأسك وبكيت.
لقد تعلق بها رغم أنه لم يحظ بقربها إلا سنوات قليلة .. مر ذات يوم بقبرها فرئي له بكاء لم يبكه من قبل .. يقول بريدة رضي الله عنه: (انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:
يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال:
هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فأبى عليها، وأدركتني رقتها فبكيت.