الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندما وصلت وجدت حمى المدينة الملتهبة تشتعل في أجسادهم .. وحمى المدينة شديدة فلقد (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله)(1).
لكن الله يجعل من الضيق منافذًا وأبوابًا .. ويجعل من المعاناة بشائرًا ووعودًا .. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يصبر على لأواء المدينة وجهدها أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا"(2).
ويقول لهم: "الحمى حظ كل مؤمن من النار"(2).
وما دامت الحمى من القدر فعلاجها من القدر أيضًا .. فالقدر يعالج بالقدر.، أرشد صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الصبر .. وأرشدهم أيضًا إلى العلاج فقال:
"الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء"(2)"الحمى كير من جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد"(2).
هذه هي حال الحمى فكيف كانت حال أبي بكر وصاحبيه رضي الله عنهم .. لقد كانوا مزيجًا من:
الحمى والحنين .. والشعر والهذيان
وصلت عائشة فكان حوارها معهم حنينًا .. وشعرًا وهذيانًا .. عائشة تحكى ما جرى في تلك الزيارة فتقول رضي الله عنها:
(لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .. قدمها وهي أوبأ أرض الله من
(1) حديث قوى السند (رواه البيهقي 2/ 567): الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
…
الأصم إمام وثقة معروف وسماع شيخه للسيرة صحيح، ويونس بن بكير أحد رواه السيرة وهو حسن الحديث. (التقريب 2/ 384) وهشام ووالده لا يسأل عنهما وقد مرا معنا كثيرًا.
(2)
أحاديث صحيحة. انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني.
الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاءً وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه .. فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال -موليا أبي بكر- في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم -وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب- وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك
…
فدنوت من أبي بكر فقلت:
كيف تجدك يا أبت؟ .. فقال:
كل امرئ مصبح في أهله
…
والموت أدنى من شراك نعله
فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول .. ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ .. قال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
…
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
…
كالثور يحمي جلده بروقه
فقلت: والله ما يدري ما يقول .. وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مِجنةً
…
وهل يبدون لي شامة وطفيل) (1)
كان بلال يحترق من الحمى لكنه أشد احتراقًا بشوقه المستعر إلى مكة .. إلى سوق مجنة في أسفل مكة إلى جبلى شامة وطفيل اللذين يطلان كالحب على ذلك السوق .. كان يحن إلى مراتع الصبا بين تلك النبتات .. بين الإذخر والجليل .. ثم يزفر بأنفاسه الملتهبة بالحمى فيقول والحسرة في صدره:
(1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 316) وقد سبق الكلام عليه
…
وهو عند البخاري ومسلمٌ أيضًا انظر ابن كثير (2/ 317).
(اللَّهم العن عتبة بن ربيعة .. وشيبة بن ربيعة .. وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء)(1).
تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشوق والحنين .. وأخذته الشفقة بأصحابه وبالمدينة التي تسكن قلبه عندما سمع شكوى حبيبته عائشة التي تقول:
(ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال صلى الله عليه وسلم:
"اللَّهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة (2) "(3).
وفي ليلة من تلك الليالي المحمومة كان صلى الله عليه وسلم في فراشه وعيناه نائمتان .. في تلك الليلة رأى شيئًا مخيفًا ومفرحًا في منامه .. فبشر به أصحابه وبشر به المدينة وقال:
(رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة .. فأولتها: أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة وهي الجحفة" (4) .. وارتحل الوباء .. وارتحلت الحمى عن أبي بكر وبلال وعن عامر بن فهيرة ليعودوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار ويكحل عينيه بهم .. لكن تلك المجالس الطيبة تفتقد إلى أحد عظماء الأنصار .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعيش في أبراج بعيدًا عن أصحابه .. إنه منهم وبينهم يصافحهم ويبتسم في وجوههم .. يمشي في أسواقهم .. ويأكل من طعامهم .. ويزورهم في منازلهم .. ويسأل عن
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (سيرة ابن كثير 2/ 315).
(2)
الجحفة.
(3)
جزء من حديث ابن إسحاق السابق وهو حسن.
(4)
حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 568).
غائبهم .. ويتفقد أحوالهم. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من الصحابة وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تحبه؟ " فقال:
يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"ما لي لا أرى فلانًا" .. فقالوا: يا رسول الله .. بنيه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه، فأخبره بأنه هلك، فعزاه عليه ثم قال صلى الله عليه وسلم:
"يا فلان أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك .. أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ " قال: يا نبي الله .. بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي، لهو أحب إلي. قال صلى الله عليه وسلم:"فذاك لك". فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله جعلني الله فداءك أله خاصة أو لكلنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل لكلكم") (1).
هذه القصة الحزينة الجميلة .. ما أجل الحب والبراءة فيها.
ما أجمل الطفولة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم .. وما أجمل هذا النبي وهو يسأل الرجل عن حبه .. وما أجمله وهو يحرضه على البوح بشيء من أعماقه .. وهو يعزيه .. وهو يعده بعينين بريئتين تتلهفان له عند باب الجنة .. هذه البشرى من عند الله ليست للرجال وحدهم .. وهذه العناية منه صلى الله عليه وسلم ليست للرجال فقط .. يحدثنا صحابي آخر فيقول: (كان صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعًا شديدًا، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه،
(1) حديث صحيح. صححه الإِمام الألباني في أحكام الجنائز (162) وقد رواه النسائي وأحمدُ والحاكم.