الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم. فجاء إلى أصحابي حتى قمنا على باب البيت، وكتبت كل شىء (1) حتى كتبت المنديل فلم أدع شيئًا ذهب إلا أخذته، ولو أشاء أن آخذ من أموالهم لفعلت.
ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين) (2). هذا ما حدث في الحبشة.
أمَّا في مكة
بعيدًا عن الحبشة، خلف آلاف الأميال خلف البحار خلف الجبال .. وسط لهب من الكفار كان صلى الله عليه وسلم صامدًا لا يذوب لا ينثني .. قد أدرك أن قريشًا تعاند .. فلا بد من البحث عن تربة خيرًا من هذه التربة .. خيرًا من هذه الصخور الصلبة التي لا تنبت إلا القسوة .. لا بد من البحث عن قبائل تحتضن الدعوة .. تساندها وتدافع عنها وتجمع أشتاتها .. فدعاتها هاربون دائمًا .. هائمون دائمًا .. وغربتهم موحشة مضنية قد أذابتهم الأحزان .. وطوحتهم الأيام خلف الجبال والبحار وبين اللحود .. يتلفتون كأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة .. يتلفتون خشية أن يؤخذ منهم .. يفزعون عند سماعهم خشف نعال .. أو طرق باب .. يفزعون فزع من حكم عليه بالإعدام .. فهو في زنزانته ينتظر الجلاّد ويرى الجلاد قادما مع كل حركة مع كل همسة .. يحس الموت يحصي بقية أنفاسه. فهل من مخرج.
(1) أي كتب عمرو بن العاص كل ما سلبه رفاقه المشركون منه ليرده النجاشى إليه منهم.
(2)
إسناده حسن، رواه البزار، كشف الأستار (2/ 297): حدثنا محمَّد بن المثنى: حدثنا معاذ، حدثنا ابن عون، حدثني عمير بن إسحاق، حدثني عمرو بن العاص قال: وهذا الإسناد جيد. محمَّد بن المثني بن عبيد المعروف بالزمن ثقة من رجال الستة. التقريب (20/ 240) ومعاذ بن معاذ بن نصر: ثقة متقن، وابن عون اسمه: عبد الله بن عون بن أرطبان المرني: ثقة ثبت فاضل. وعمير بن إسحاق تابعي حسن الحديث والكلام فيه لا يضر ولا ينزله عن رتبة الحسن.
يقول ربيعة الديلي:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول:
يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا.
ويدخل في فجاجها (1) والناس متقصفون (2) عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت يقول:
يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).
نعم .. تفلحوا إنه لا يريد مالكم ولا متاعكم .. ما يريده هو العودة بهذا القطيع الشارد إلى موارد الماء والكلأ .. بعد أن تاه في صحاري الشرك الشاسعة .. التي تقطع الأعناق باللهاث خلف سرابها.
لكن قريشًا لا تدعه .. لا ترحمه .. حتى وهو يخاطب من ليس منها لا تدعه .. يصف ربيعة ما رأى فيقول:
(إلا أن وراءه رجلًا أحول وضىء الوجه، ذا غديرتين، يقول:
إنه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا:
هذا محمد بن عبد الله وهو يذكر النبوة. قلت:
من هذا الذي يكذبه. قالوا: عمه أبو لهب) (3).
(1) الفجاج الطريق الواسع.
(2)
مجتمعون عليه.
(3)
حديثٌ حسنٌ. أي لغيره. لأن الإِمام أحمد رواه (الفتح الرباني 20/ 216) من طريق عبد الرحمن ابن أبي الزناد، وقد ساء حفظه عندما قدم بغداد، وربما كان هذا الحديث منها، وبقية رجاله ثقات، وللحديث شاهد قوي يجعله حسنًا. وهو الحديث التالي.
كأن السورة التي نزلت فيه وفي امرأته أضرمت بيته .. فصار لا يقر له قرار وهو يرى عاره على كل لسان .. وفي كل نظرة لهبًا يشويه .. إنه التشفى ومحاولة إطفاء متأخرة لما قد احترق منه .. إن إسلام المزيد من الناس يعني لأبي لهب المزيد من شتمه والتقرب إلى الله باحتقاره وبغضه .. إنه يمارس التحطيم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولو فر منه .. يركض خلفه لا يطلب الراحة لنفسه ولا لغيره .. وكيف يجدها وقد حشته ظلث الآيات جمرًا .. يقول ربيعة:
(رأيت أبا لهب بعكاظ وهو يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
يا أيها الناس إن هذا قد غوى فلا يغوينكم عن آلهة آبائكم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، وهو على أثره، ونحن نتبعه ونحن غلمان، كأني انظر إليه أحول ذا غديرتين، أبيض الناس وأجملهم) (1) بل ومن أشرفهم نسبًا .. لكن ذلك كله لا يجدي شيئًا في رجل حشرت في رأسه كل رموز التخلف والشرك والهمجية .. لا شىء سوى كتلة متورمة من الأحقاد والضغائن تتدحرج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتجاهله ويصوب بصره نحو الأمام .. يتبع القبائل كلها .. ويقف أمامها كلها .. يتلمس خيامها في كل سنة تنصب فيه تلك الخيام .. يدلف كل خباء .. يبحث فيه عن قلوب تتلمظ فيها الفطرة والعطش .. فيصغي إليها من سحاب التوحيد العذب والحياة الصافية مع الله ما يرويها ويذهب عطشها.
كان يغشى أسواقهم التي يقيمونها كل عام .. للتجارة والشعر
(1) حديثٌ حسنٌ، رواه أحمد (المصدر السابق 20/ 217)، حدثنا مصعب الزبير، وهو عالم صدوق، حدثط عبد العزيز بن محمَّد الداروردي وحديثه هنا حسن لأنه عن غير عبيد الله العمري، عن ابن أبي ذئب: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة وهو ثقة فاضل فقيه، عن سعيد بن خالد القرظي، وهو تابعى صدوق. انظر التهذيب (4/ 20). وهو شاهد لما قبله.
والأدب .. يغشاها ينثر في دروبها عبير الإيمان ويبحث عن أنصار .. وكان بصحبته رفيق طفولته .. وصدِّيق نبوته أبو بكر الصديق .. وشاب كله حياة .. هو وابن أخيه علي بن أبي طالب الذي يقول:
(لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر رضي الله عنه (1).
لقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في كل سنة على القبائل من العرب أن يؤوه إلى قومهم حتى يبلغ كلام الله عز وجل ورسالاته، ولهم الجنة)(2).
لقد (لبث عشر سنين يتبع الحجاج في منازلهم في المواسم: مجنة، عكاظ ومنازلهم بمنى: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)(3) عشر سنوات يتلطف مع (بني حنيفة) و (كندة وكلب) يذهب إلى (بني عبس وهمدان) وله مع (بني عامر بن صعصعة) لقاعات .. عشر سنوات من الصبر والمكابدة (يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضيء (4) ذو جمَّة (5)، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول:
يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به
(1) قطعة من حديث طويل صحيح سيمر معنا إن شاء الله. عند الحديث عن لقاء الأنصار، ومجلس المفروق.
(2)
حديثٌ حسنٌ بما بعده لأنه من طريق: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو رجل صالح عابد صدوق في نفسه لكن في حديثه بعض الاضطراب، لكن شهد له ما بعده وقد روى هذا الحديث الطبراني وأبو نعيم (292).
(3)
إسنادُهُ صحيحٌ وسيمر معنا كاملًا عند الحديث عن لقاء الأنصار إن شاء الله.
(4)
حسن وجميل.
(5)
ما ترامى من شعر الرأس على المنكبين.