الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رقيق القلب تجاه أمه فصدق ما قيل له .. فنزل عمر عن راحلته ليركب أخوه عليها .. فإذا سريعة متى ما أحس بحاجة إلى الهرب .. وتمت التمثيلية .. ووقع عياش في الأسر والحزن .. وحاصرته جبال مكة حتى اقتربت من أضلاعه .. وطوته الأيام بالهموم والضياع .. حتى نزل الفرج من الله .. كلمات تشرح الصدور وتغرس فيها الآمال من جديد .. ولم يكن عياش وهشام وحدهما المأساة .. فـ (أم سلمة) كانت حزنًا يزحف في طريق الهجرة .. أم سلمة كانت غربة تبحث عن أرض كالحب .. كالأمان تحقق انتماءها عليها .. أم سلمة امرأة حزينة .. هامت على وجهها تبحث عن حياة حقيقية تليق بمسلمة مثلها لا ترضى بالذل ولا بالتخلف معها. ركبت البحر إلى الحبشة بصحبة زوجها العظيم (أبي سلمة رضي الله عنهما .. وركبته ثانية عائدة إلى مكة بعد أن لاح في الأفق أمل للحرية في أجواء مكة .. عادت وزوجها .. فوجدا مكة أكثر ظلمة .. وأكثر أنيابًا .. ولما سمعا بأن في حرة المدينة أذرعًا وقلوبًا مفتوحة وشمسًا مشرقة .. التفتا إليها لعل هذا الهم ينفض عن قلبيهما .. وسارا نحو مدينة الإِسلام الجديدة لا يعلمان ماذا تخبئ الجبال خلفها .. ولا أي حزن كانت تغطيه رمال الطريق.
مأساة هند
تقول رضي الله عنها:
(لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني "سلمة بن أبي سلمة" في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه، علام نتركك
تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه .. وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد "رهط أبي سلمة" (1) فقالوا:
لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا .. فتجاذبوا ابني "سلمة" بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة .. ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني .. فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي: سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة:
ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبن زوجها وبن ولدها. فقالوا لي:
إلحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد -أي عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله .. أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان (2) بن طلحة بن أبي طلحة -أخا بني عبد الدار- فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: أوما معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وابني هذا. قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي .. ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت أستأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها،
(1) أي قومه.
(2)
أسلم هذا الشهم فيما بعد.
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري، فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي. حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمر وابن عوف بـ (قباء) قال:
زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة بها نازلًا- فادخليها على بركة الله، ثم انصرف. فكانت أم سلمة رضي الله عنها تقول:
والله ما أعلم أهل بيت في الإِسلام أصابهم ما أصاب أبا سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة) (1). في غربة الدروب والأسفار لا طفل .. لا حبيب .. لا ظل .. لا أشجار .. عام بلا نهار .. عام بلا نهار .. في الأبطح المزروع بالرماح والقضبان .. هند تموت .. في كل ساعة تموت .. والشرك شرطة تحاصر الأنفاس .. وترفض العبور تقفل المكان .. وتفسح الطريق عبر غابة الأكفان. للحزن والرمضاء والزمام .. عثمان يخطف الزمام .. وينقش الشهادتين والوعود .. كي يعود .. لأنهر الحياة والإسلام .. لا بد أن يعود ..
فإن بين جوانح هذا الشهم إسلامًا مكتوف اليدين .. يحتاج إلى شرارة تحرق قيده .. وتزيح ركام الجاهلية الجاثم على أنفاسه.
(1) رواه ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 80) وقد صرح بالسماع من والده فقال: حدثني أبي يسار، عن سلمة بن عبد الله عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة، قالت: في هذا السند والد ابن إسحاق وهو إسحاق بن يسار وهو ثقة .. انظر التقريب أما سلمة فهو تابعى وثقه ابن حبان فيحتاج إلى مزيد من التوثيق وقد أوردته لأن سلمة تابعى روى عنه عدد من ثقات التابعين وأعلامهم ومنهم: الثقة الثبت عمرو بن دينار، وعطاء بن أبي رباح وهو ثقة فقيه فاضل وكذلك والد ابن إسحاق وهو تابعى ثقة. انظر التهذيب (4/ 148). ولأنه يروي هذا الحديث عن جدته.