الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل: يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك فأمرها بتقوى الله وبالصبر"، فقالت: يا رسول الله .. ما لي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الرقوب: الذي يبقى ولدها"، ثم قال:"ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة"، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمى .. واثنن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "واثنين") (1).
إذًا فالنبي صلى الله عليه وسلم (كان يتعهد الأنصار، ويعودهم ويسأل عنهم)(2).
كان يتفقدهم رجالًا ونساءً .. أغنياء وفقراء .. كان يفرح معهم .. ويواسيهم في مصائبهم وأحزانهم .. كان يخفف عنهم بعض أعباء الحياة وهمومها ..
ها هو يتهيأ للخروج .. سوف يعود مريضًا .. وهذه المرة لم يكن المريض رجلًا عاديًا إنه أحد أبطال الأنصار وزعمائهم .. لقد سمع صلى الله عليه وسلم بأن سعد بن عبادة يلازم فراشه فتحركت مشاعره نحو أخيه وحبيبه وتحركت دابته نحو هذا الأنصاري الكريم .. دعونا نمشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوف يصادف في طريقه.
شجرةً غريبةً
رآها صلى الله عليه وسلم في المدينة .. نبتة مشوهة تظهر لأول مرة .. أثارها غبار دابة
(1) سنده حسن على شرط مسلم كما قال الإِمام الألباني في الجنائز (164) وقد عزاه للحاكم والبزار تبعًا للهيثمى.
(2)
سنده حسن على شرط مسلم كما قال الإِمام الألباني في الجنائز (164) وقد عزاه للحاكم والبزار تبعًا للهيثمى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم المتجهة تحمل حبًا نحو سعد بن عبادة .. أثارها ذلك الغبار فاهتزت وتطايرت أشواكها فجرحت مشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ما هذه الشجرة .. وهل وصل صلى الله عليه وسلم إلى بيت سعد بن عبادة .. ؟ لا أحد يستطيع وصف ما حدث مثل الطفل أسامة بن زيد حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق تلك الدابة .. ها هو أسامة .. يحدثنا فيقول:
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكاف (1) على قطيفة فدكية (2) .. وأردف أسامة بن زيد وراءه .. يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر .. حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا بالمجلس أخلاط من المسلمين .. ومن المشركين عبدة الأوثان .. واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة .. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة (3)، حمَّر (4) ابن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا.
فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل .. وقرأ عليهم القرآن ..
فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا .. فلا تؤذنا به في مجالسنا .. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ..
(1) سرج الحمار.
(2)
نسبة إلى فدك وهي بلدة قريبة من المدينة المنورة.
(3)
غبارها.
(4)
غطى.
فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله .. فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك .. واستب المسلمون والمشركون .. واليهود .. حتى كادوا يتثاورون (1) ..
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا .. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة .. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي .. ؟ " قال: كذا- وكذا .. قال سعد بن عبادة:
يا رسول الله اعف عنه واصفح .. فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك .. ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (2) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (3)، فلما رد الله بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت ..
فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكان وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمره الله عز وجل ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4).
(1) يتواثبون للقتال.
(2)
أي القرية أي المدينة المنورة.
(3)
أي يجعلوه زعيمًا للأوس والخزرج.
(4)
سورة آل عمران: الآية 186.
(5)
سورة البقرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله عز وجل به ..) (1).
لأنه ظل وارف للجميع .. حتى لهؤلاء المشركين واليهود .. ولولا ذلك لما تجرأ أحد منهم حتى على الهمس .. وفي هذا الظل المتاح للجميع تحول ابن أُبي إلى كهفٍ للأصنام والمشركين وكهفٍ لليهود .. لقد تحول إلى كهفٍ لمشروعٍ يحاك في الظلام لتقويض هذه الدولة الجديدة ..
عبد الله بن أبي لم يتأذَ من غبار الدابة .. ولم يخمر أنفه من أجل سلامة رئتيه .. فهو ليس غريبًا على الغبار .. والغبار ليس بغريب عليه .. لكنه خمر عقله وقلبه عن الحقيقة ..
هو يضيق براكب الدابة وبكل ما يفعله ويقوله .. إنه يقرأ هزيمته في كل سعادة أدخلها نبي الله صلى الله عليه وسلم على كل بيت .. إنه يرى نكسته في فرح الرجال والنساء وابتسامات الأطفال وهم يلتصقون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا أدري ما هو مصير المدينة لو توج عبد الله بن أبي بن سلول .. وإلى أي قاع سوف يرسو بها .. إن زعامة عبد الله بن أبي ليست -في حالة نجاحها- سوى تأجيل لوقت انفجار قنبلة موقوتة فالجاهلية هي الجاهلية .. والثأر لا يطفئه سوى الثأر ما دامت الأصنام رابضة في البيوت والأندية ..
عبد الله بن أُبي بن سلول المشرك ضاق بهؤلاء الأضياف المهاجرين .. وطار صوابه لهذا الكرم الأنصاري .. لقد فقد صداقاته وزعامته .. فقومه يحبونهم أكثر مما يحبونه .. إنهم يلتقون في ذلك المسجد خمس مرات في اليوم .. كيف ذلك .. أليس من سبيل إلى استعادة أحد منهم .. أو شيءٍ منهم .. أليس من سبيل إلى إعادة هؤلاء المهاجرين وطردهم مع نبيهم من
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (4566).