الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأظهر لأتباع عيسى بن مريم أنه قد تاب وندم على ما قام به من قتل وتعذيب .. وأظهر لهم الرهبنة والتنسك .. وبعد أن تأكد من اقتناع من حوله بتوبته وبعد مرور زمن على ذلك بدأ بتنفيذ مخططه اليهودي الخبيث .. فقد ادعى أنه رأى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في البرق بين السحاب وأنه قد منحه حق النبوة .. ثم جاء بالطامة الكبرى فادعى أن عيسى بن مريم هو ابن الله .. وأن عيسى بن مريم نفسه أوحى له بذلك .. ثم تحول إلى تعاليم عيسى فنسخ كثيرًا منها .. كالختان وأكل لحم الخنزير .. وأدخل الوثنية إلى تعاليم نبي الله عليه الصلاة والسلام .. وأفسدها إلى اليوم .. فإذا كان اليهود قد فعلوا كل هذا وأكثر مع أنبياء من اليهود أنفسهم .. من إخوتهم .. فهل يُتوقع أن يستقبلوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأحضان والقلوب المبتسمة .. وهو ليس من أبناء اليهود؟ الإجابة معروفة.
فاليهود ينتظرون نبيًا منهم ليسحقوا به العرب وسائر الأمم لا ليهدوا به العرب .. فكيف يؤمنون بنبي يجعل من هؤلاء العرب سادة الدنيا وقادة العالم .. حسدُ بني إسرائيل يقول: لا .. وألف لا .. لكن عالمًا من يهود .. لا يقول: لا
عبد الله بن سلام لا يقول: لا
.. رجل من بني إسرائيل .. من اليهود .. عالم ومثقف كبقية علماء اليهود لكن صدره أبيض كالثلج .. واسع المدى .. متلهف للحقيقة كالضياع كالعطش .. عالم اسمه عبد الله بن سلام .. صادق اسمه عبد الله ابن سلام .. كان يحدث من حوله فيقول:
(لما أن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل (1) الناس قبله فقالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فجئت في الناس لأنظر في وجهه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه أن قال:
يا أيها الناس:
أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (2).
كلمات قليلة تذوب فيها كل نظريات العدل والمساواة والإصلاح التي ينادي بها البشر .. أي مجتمع سيولد في المدينة .. مجتمع تفشو بين أهله التحايا والهدايا والسلام .. مجتمع يمد يديه للمحتاج .. ويشق الطرقات بين الأقارب والأرحام .. وعندما يهدأ النهار ويدلف إلى خبائه .. وتسكن الطيور في الأوكار .. تحلق أرواحٌ مؤمنة إلى ربها تناجي وتخاف وترجو بدموعها رحمة الرحيم .. أيقن ابن سلام أن هذا الرجل ليس بكذاب .. ولا يأتي كذاب بمثل هذا الحب والسلام ..
لكن أين كان ابن سلام عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنس بن مالك يقول إنه كان في نخلٍ لأهله يخترف لهم الرطب .. فجاء وأدوات الاختراف بيديه نسي أن يتركها من شدة ذهوله .. يقول أنس:
(وقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاستشرفوا نبي الله ينظرون إليه، ويقولون: جاء نبي الله .. فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب ..
(1) انطلق الناس نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
سنده صحيح. رواه الترمذيُّ وابن ماجه والبيهقيُّ (2/ 531) من طرق عن عوف بن أبي جميلة وهو ثقة من رجال الشيخين عن زرارة بن أبي أوفى العامري وهو ثقة عابد وتابعي من رجالهما (التقريب 2/ 89) و (1/ 259).
فإنه ليحدِّث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف فيها، فجاء وهي معه .. وسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ..
وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري .. وهذا بابي .. قال صلى الله عليه وسلم:
"انطلق فهيئ لنا مقيلًا"، فذهب فهيأ ثم جاء .. فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هيأت مقيلًا، قوما على بركة الله فقيلا) (1).
لقد ذهب عبد الله بن سلام .. سمع وعاد فمتى أسلم وكيف أسلم؟ يقول أنس: (فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال:
أشهد أنك نبي الله حقًا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم .. ، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت، قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا، وأني جئت بحق أسلموا" فقالوا: ما نعلمه) (2). ترى هل أسلم هذا العالم المثقف لمجرد رؤيته رسول الله صلى الله عليه وسلم دون استفسار .. دون سؤال أو حصول على علامة وبيان .. ؟ هذا ما لا يفعله عادة المثقفون والعلماء وعبد الله بن سلام منهم .. فهو لم يسلم مباشرة .. أنس بن مالك مرة أخرى يتحدث .. مرة أخرى يخصص حديثه عن ابن سلام .. فيقول:
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (3911) والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 528).
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري (3911) والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 528).
(سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرضٍ
…
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى:
ما أول أشراط الساعة (1)؟
وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟
قال صلى الله عليه وسلم:
"أخبرني بهن جبريل آنفًا" .. قال ابن سلام: جبريل؟! قال-صلى الله عليه وسلم:
"نعم" .. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة .. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم
هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} .
أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت.
وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد.
قال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله .. يا رسول الله إن اليهود قوم بهت (2)، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسلهم عني بهتوني، فجاءت اليهود إليه .. قال صلى الله عليه وسلم:
"أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: خيرنا وابن خيرنا ..
(1) علامات الساعة، وعلامات الساعة كثيرة
…
منها بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لها علامات كبرى عجيبة مفاجئة للعالم هذه أولها ومنها خروج اليهودى المسيح الدجال ونزول المسيح عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من جهة المغرب
…
(2)
أقوام يفترون ويكذبون ويلصقون في المرء ما ليس فيه.
وسيدنا وابن سيدنا .. قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك .. ، فخرج عبد الله، فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قالوا:
شرنا وابن شرنا .. وتنقصوه (1). قال ابن سلام: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله) (2).
هذا هو الفرق بين اليهود والنصارى بل وغير النصارى غالبًا فالنصارى ضلوا الطريق فسماهم الله (الضالين) .. أما اليهود فهم يعرفون الحق ويتركونه ولذلك وصفهم الله بـ: (المغضوب عليهم) والتاريخ يحدثنا عن اليهود كثيرًا وعن رفضهم وقتلهم الأنبياء والمصلحين .. بل إنهم سبب ضلال النصارى (3) وبعدهم عن الحق .. فلا غرابة ولا عجيب أن رفضوا رسالة الإِسلام، لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس منهم .. هؤلاء يهود .. وغبي كل الغباء من يظن أنهم غير ذلك .. والتاريخ شاهد والواقع على طرقاتنا يتلو علينا كل صباح مؤامراتهم ..
فلننصرف عنهم كما انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولندخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي أيوب .. الذي أصبح مقرًا مؤقتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ريثما يجد له منزلًا مستقلًا به وبزوجته القادمة سودة رضي الله عنها .. فتحنا الباب فوجدنا أبا أيوب رجلًا من كرم .. رجلًا من شعور .. مهذب
وحساس ومحب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام أكثر من نفسه .. كان صدره أفسح من بيته .. وكانت يداه غيمتين .. جدران بيت أبي أيوب
(1) عابوه.
(2)
حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 529).
(3)
كما مر معنا في قصة بولس أو شاءول.
تحكى لنا هذه القصة .. تروي لنا كم كان أبو أيوب مسلمًا .. كم كان عظيمًا .. يقول أبو أيوب:
(لما نزل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو .. فقلت له: بأبي أنت وأمى يا رسول الله، إني أكره وأُعظِم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب (1) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفًا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ فيؤذيه.
وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده (2) فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلًا أو ثومًا، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أر ليده فيه أثرًا .. فجئته فزعًا، فقلت:
يا رسول الله بأبي أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى، فأما أنتم فكلوه .. فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة") (3) وما دام صلى الله عليه وسلم يكره رائحتها
(1) وعاء يوضع فيه الماء كالزير والجرة.
(2)
أي بحثوا عن مواضع أصابعه وقصدوها.
(3)
إسنادُهُ صحيحٌ. رواه ابن إسحاق وصرح بالسماع من شيخه يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم السماعى حدثنى أبو أيوب، ويزيد ومرثد فقيهان ثقتان وأبو رهم هو كلثوم بن الحصين أحد الصحابة رضي الله عنهم. انظر سيرة ابن كثير (2/ 277).