الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب)(1).
حبيب الله-صلى الله عليه وسلم يهدده هذا الجعظ بأن يطأ على عنقه الطاهر .. فماذا ينتظر البقية سوى الموت. أليس هناك سوى مكة .. وطواغيت مكة؟ نعم إن مكة أطهر بقعة على وجه الأرض وأعظمها .. لكن هل البقاء فيها من أركان الإسلام .. هل يتحتم على المسلمين أن يربطوا مصيرهم بمكة وقد ضاقت بهم .. وحاصرتهم جبالها .. وكشرت وديانها وشعابها .. هل يتحتم على المؤمنين أن يبقوا فيها وقد نثر الشوك في وجوههم وأقدامهم .. وكعبة ربهم تئن تحت أطنان الأصنام وترزح تحت طقوس الوثنية؟.
رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الإجابة بيضاء واضحة لا غموض فيها .. الإسلام لا يرتبط بأرض ولا وطن .. لا يرتبط بشخص ولا حتى أمة .. الإسلام عظيم فسيح .. فسيح.
إنه من السعة بحيث تستطع أن تضع هذا الكون كله في زاوية من زواياه .. ومكة جزء من هذا الكون .. الإِسلام لا يرتبط بمكة .. ولا بفلسطين ولا ببقية أراضي الأنبياء مهما كانت .. فلا حرج على هؤلاء الضعفاء من المغادرة والهجرة من أكرم بقاع الأرض إذا ضاقت وضاق أهلها لكن إلى أين؟
إلى الحبشة
هذا ما تقوله امرأة مسلمة تدعى: أم سلمة (هند بنت أمية) التي عذبت هي وزوجها مع سائر المؤمنين لأنهم يقولون لا إله إلا الله .. تقول أم سلمة رضي الله عنها:
(1) حديث صحيح. رواه مسلم.
(لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، ومن عمه، لا يصل إليه شىء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم أحد عنده، فالحقوا ببلاده، يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا ، ولم نخش فيها ظلمًا)(1). كان النجاشي ملك الحبشة نصرانيًا يحمل الصليب على صدره لكنه كان عادلًا.
أرض بلال تجود مرة أخرى .. وشلالاتها تغسل دموع المؤمنين وأحزانهم وتطهر جرحهم من أشواك قريش ورماحها .. لكن لماذا الحبشة؟ هل لأنها أرض النصارى .. والنصارى أهل دين نزل من السماء كالإِسلام تمامًا .. ربما .. لا سيما وجزيرة العرب غابة من الأصنام .. وأرض فارس تتأجج نارًا تحرق أهل فارس .. وتحرق فطرتهم وتذيبها كلما ركعوا لها أو تمسحوا برمادها وتمرغوا .. ربما كانت في هذه بعض الإجابة .. لكن الإجابة المؤكدة هي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده) إذًا فهو العدل والعدل فقط .. وقريش قد فرغت جيوبها وقلوبها من العدل.
ابتسم المتسلطون وهم يرون هؤلاء الفقراء يحملون أطفالهم ويودعون مكة الحبيبة تبللهم الدموع ويتقلب الجمر في أكبادهم .. يتركون بيوتهم .. يتركون نبيهم صلى الله عليه وسلم وإخوانهم يتلبطون بين السياط.
(1) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق، (سيرة ابن كثير 2/ 172) فقال: حدثني الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها، وابن إسحاق لم يعنعن بل صرح بسماعه من شيخه الإمام المعروف: الزهرى، وشيخ الزهري هنا هو تابعي ثقة فقيه معروف. التقريب (2/ 398).
فرح الطغاة والمتسلطون كلهم إلا واحدًا كان يرقب المشهد بعمق يقف ملجمًا بالحزن .. مثقلًا بالندم .. ينظر إلى ضحاياه .. يتأمل مطاياهم وهى تتمايل مغادرة مكة فتنتزع من قلبه بعض قسوته وعروقه .. كان صامتًا يخاطبه الندم ويقول له:
ماذا فعلت يابن الخطاب .. وماذا جنت يداك .. ويحك يا عمر إنهم أهلك وجيرانك وأصحابك .. ألا ترحم .. ألا يلين قلبك لهذا المنظر .. نساء حزانى .. وشباب حيارى .. وأطفال لا ذنب لهم .. ورجال كرام أهنتهم وشردتهم وضيقت عليهم حتى ملوا الحياة .. وهم الذين كانوا يكرمون الضيف .. ويحنون على الضعيف .. إلى أين ألجأتهم يا عمر؟ إلى بحر يتقلب بهم .. أم إلى أرض لا يعرفون بها أحدًا .. ماذا سيكون مصيرهم .. أنت لا تعرف وهم لا يعرفون .. هل خلقت بلا قلب يا عمر؟ تقدم أيها القاسي وقل شيئًا يخفف من لوعتهم.
وتقدم عمر .. وتحرك قلبه وتحركت شفتاه في هذا المشهد المعبر الذي ترسمه لنا أم عبد الله زوجة عامر بن ربيعة بقولها:
(كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة. جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعير نريد أن نتوجه فقال: أين يا أم عبد الله؟
فقلت له: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله [والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجًا](1).
(1) هذه الألفاظ ما بين المعقوفين من رواية أخرى.
[ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا].
ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة، فأخبرته بما رأيت من رقة عمر ابن الخطاب فقال: ترجين يسلم؟ فقلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب -هذا من شدته على المسلمين- ثم رزقه الله الإِسلام) (1).
وتحركت المطايا والقلوب تلوح لمكة .. وركب المعذبون البحر .. وارتفعوا مع الموج وانخفضوا حتى قذفتهم المراكب على سواحل الحبشة فرأوا الأمان وتلمسوه فعانقوه وارتاحت قلوبهم .. واستراحت أبدانهم من شراسة قريش .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه فمكثوا في مكة يمشون على الأشواك .. ويحثى عليهم التراب .. ويبصق في وجوههم .. لكنهم لا يتراجعون يدعون ويدعون .. ويكثر أتباعهم كل يوم .. فتضطرب قريش من هذا الدين الذي يشتد عوده كلما اضطهد وعذب أتباعه .. كأنهم يقتاتون الشقاء والمعاناة .. يحتسون المرارة .. فيزدادون صفاءً وتألقًا .. هذا عبد الله بن عمرو بن العاص .. يحدث رجلًا ويخبره عن أشد المناظر فظاعة .. أشد مناظر قريش قسوة وهي تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد رأيتهم -وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر-، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا (2)، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصبرنا منه على أمر عظيم .. أو كما قالوا.
(1) هذه القصة رواها ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 33)(والمغازى والسير لابن إسحاق واللفظ له 181)، حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه ليلى. وسندها فيه ضعف يسير من أجل التابعى عبد العزيز بن عبد الله فهو يحتاج إلى توثيق فقد سكت عنه ابن أبي حاتم (5/ 385) وابن حبان الذي أورده في الثقات (7/ 115) لكننى أوردتها لأنه تابعى كبير ولأنه يروي هذه القصة عن أمه- جدته.
(2)
عقولنا.
فبينا هم في ذلك، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، فلما مر بهم طائفًا بالبيت، غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية؟ غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى ثم الثالثة، فغمزوه، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح. فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر (1) واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه (2) أحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم فما أنت بجهول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينا هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا -لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبكي دونه) (3) وذكر عبد الله بن عمر اسم ذلك الجلف فقال: (أقبل عقبة بن أبي معيط _ورسول الله يصلي عند الكعبة- فلوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ. بمنكبيه، فدفعه عن رسول
(1) أي أنهم قد سكتوا وخيم السكون عليهم.
(2)
يداريه.
(3)
سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقى (2/ 275)، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته، وهذا السند قوي: ابن إسحاق لم يدلس، ويحيى بن عروة ثقة. انظر (التقريب 2/ 354).
الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (1).
ووصف عبد الله الحارث مرة فقال:
(ما تنول من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كان أشد من أن أطاف بالبيت -ضحى- فلقوه حين فرغ، فأخذوا. بمجامع ردائه وقالوا: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا. فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ذاك. فقام أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ردائه ثم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وإن يك كاذبًا فعليه كذبه، وإن يك صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)(2).
كل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرع مرارة الأذى صابرًا .. فالدروب حوله أمر .. ولا بد من المعاناة .. فقد بعث ليبعث الحياة في نفوس مريضة .. ليلتقط أشلاءها الممزقة .. أشلاءها المبعثرة .. ليجعل من هؤلاء الجفاة شموس حضارة تمنح الضياء للعالم .. ولا بد أن يكون في دربه قلوب مطموسة .. وصخور عناد قاسية .. مشركون تكومت في قلوبهم أسباب النقمة وبين أيديهم سبل الانتقام .. لن يتورعوا عن ارتكاب الحماقات مهما كانت فادحة .. وسيتلذذون بذلك .. وسيشربون الخمر بهجة بانتصار مزيف .. لكن كل ذلك سيتلاشى مع الليالي والأيام والصبر والمصابرة.
(1) حديث صحيح. رواه البخاري. كتاب الفضائل.
(2)
سنده صحيح. رواه البيهقي (2/ 277) من طريق العباس بن محمد بن حاتم، وهو ثقة (التهذيب 5/ 129) حدثنا ابن مخلد وهو صدوق (التهذيب 3/ 116) حدثنا سليمان بن بلال وهو ثقة (التقريب 1/ 322) حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله .. وهشام ووالده ثقتان مرا معنا كثيرًا فالسند صحيح.