الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. فقال جبريل:
مرها فلترجع.
فأمرها، فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي) (1) آية عظيمة .. تسليه صلى الله عليه وسلم .. تمسح عنه دماء نازفة .. ودموعًا حارقة. فيعود لمكة مرة أخرى .. متخفيًا عن أعين القوم وأيديهم .. فيجد أتباعه يفترشون الرمضاء .. يلتحفون السياط يعجون إليه يطلبون الإذن بالهجرة من جديد فيأذن لهم .. وكانوا هذه المرة أكثر من ثمانين صحابيًا معذبًا .. يريدون أن يعبدوا الله بحرية .. ويعمروا الدنيا بسلام .. فأذن لهم صلى الله عليه وسلم.
الهجرة إلى الحبشة ثانية
إحدى المعذبات هي أم سلمة رضي الله عنها .. تحدثنا عن رحلة الآلام كاملة فتقول: (لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم (2) ..
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) إسنادٌ صحيحٌ: رواه الإِمام أحمد (الفتح الرباني 20/ 220)، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك، والأعمش مدلس وقد عنعن، لكن يذهب شبهة تدليس كونه راوية شيخه التابعي الثقة: أبي سفيان، طلحة بن نافع القرشى، فقد جاء في التهذيب (5/ 26): روى عنه الأعمش وهو راويته، وقال ابن روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة، بالاضافة إلى أن تلميذ الأعمش الثقة: أبو معاوية: محمَّد بن حازم الكوفي قد قال عنه وكيع ما أدركنا أحدًا كان أعلم بحديث الأعمش من أبي معاوية هذه الميزات في الشيخ والتلميذ تنفى شبهة التدليس.
(2)
مر معنا تخريج هذا الجزء.
إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه.
فخرجنا إليها أرسالًا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار، وإلى خير جار، آمنًا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا. فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارًا وأمنًا اجتمعوا على أن يبعثوا إليه (1) فينا، فيخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا، ولبطارقته (2)، فلم يدعوا رجلًا منهم إلا هيأوا له هدية على حدة، قالوا لهما:
ادفعوا إلى كل بَطْرِيق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمكم فافعلوا.
فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، وكلموهم، فقالوا لهم:
إنا قدمنا إلى هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه، فأشيروا عليه أن يفعل. فقالوا:
نفعل. ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم (3)، فلما أدخلوا عليه هداياه، قالوا له:
(1) أي إلى النجاشي.
(2)
البطريق أو البطريرك هو رئيس الأساقفة والأسقف العالم النصراني وهو فوق القس والقس غالبًا هو المتفرغ للعبادة وخدمة الكنيسة.
(3)
الجلود.
أيها الملك، إن فتية من سفهائنا فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم فهم أعلاهم عينًا. فقالت بطارقته:
صدقوا أيها الملك، لو رددهم عليهم كانوا أعلاهم عينًا، فإنهم لم يدخلوا في في دينك فتمنعهم بذلك، فغضب، ثم قال:
لا، لعمر الله لا أردهم إليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أحل ما بينهم وبينهم، ولم أنعمهم (1) عينًا.
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شىء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم، فقال:
ماذا تقولون؟ فقالوا:
وماذا نقول: نقول والله ما نعرفه، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي:
ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر:
(1) نعمة العين أي قربتها، أي أقر أعينكم برجوعهم إليكم.
أيها الملك، كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان، نأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا، نعرف وفاءه، وصدقه، وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى لله، ونصوم له، ولا نعبد غيره.
فقال النجاشي:
فهل معك شىء مما جاء به -وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله- هلم فاتل على ما جاء به. فقرأ عليه صدرًا من:
{كهيعص (1) {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} (1).
فبكى والله النجاشى حتى اخضلت لحيته (2)، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال:
إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة (3) التي جاء بها عيسى، انطلقوا راشدين، ولا والله لا أردهم عليكم، ولا أنعمكم عينًا.
(1) ما بين الأقواس ليس في نص الحديث ،لكن جعفرًا قرأه بالتأكيد وقد ذكرته ليستشعر القارئ ذلك الموقف .. ولم أكمل الآيات لأنه لم يقرأ السورة كاملة ، ثم إنه من المؤكد كما يفيد السياق أنه لم يقرأ ما بعدها. لأن الآيات التي تلي هذه الآيات تتحدث عن وحدانية الله، وعن بشرية عيسى، ولو قرأها لما تكلم عمرو بن العاص فيما بعد.
(2)
تبللت بالدموع.
(3)
الكوة إلى في الجدار يوضع فيها المصباح. أي أنه من المصدر نفسه.
فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا (1) عبد الله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا بما أستأصل به خضراءهم (2) إنهم يزعمون إن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم: عبد. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة:
لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا، ولهم حقًا. فقال عمرو بن العاص: والله لأفعلن. فلما كان من الغد دخل عليه فقال:
أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم رسولًا فاسألهم عنه، فبعث إليهم- ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض:
ماذا تقولون له في عيسى إن هو سالكم عنه؟ فقال:
نقول والله الذي قال الله تعالى فيه، والذي أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه، فدخلوا عليه، وعنده بطارقته، فقال:
ماذا تقول في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر:
نقول عبد الله ورسوله، وكلمته (3)، وروحه (4)، ألقاها إلى مريم العذراء البتول (5)
فدلى النجاشي يده إلى الأرض، وأخذ عويدًا بين إصبعيه، فقال:
ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد (6).
(1) أي أشفق وأرحم.
(2)
أصلهم.
(3)
كلمة الله: أي قول الله كن فيكون، كما قال لآدم كن فكان بلا أب ولا أم.
(4)
روح الله، مثل قولك للكعبة إنها: بيت الله.
(5)
العذراء المنقطعة عن الزواج.
(6)
تصغير كلمة عود. أي أن عيسى هو كما وصفه القرآن الكريم.
فتناخرت بطارقته، فقال:
وإن تناخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم في أرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم -ثلاثًا- ما أحب أن لي دبرًا وأني آذيت رجلًا منكم -والدبر بلسانهم: الذهب- والله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها فاخرجا من بلادي.
فرجعا مقبوحن مردودًا عليهما ما جاءا به. فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزنًا قط كان أشد منه فرقًا من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستغفره للنجاشي، فخرج إليه سائرًا.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض:
من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر ما يكون، فقال الزبير- وكان من أحدثهم سنًا:
أنا. فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي، فجاءنا الزبير يليح علينا بردائه، ويقول:
ألا أبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.
فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعًا إلى مكة وأقام من أقام) (1).
(1) سيأتي تخريجه في نهاية الخبر التالي، فهو جزء منه.
هذه هي قصة النجاشي مع المهاجرين فما هي قصة الرشوة التي تحدث عنها ذلك الملك الطيب .. هدية الحبشة للإسلام .. وما معنى قوله: (ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه)؟
ذلك أمر حدث بين أنهار الحبشة وأدغالها، تحدثنا عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: (إن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ من صلبه اثنا عشر رجلًا، ولم يكن لأبي النجاشى ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها، فقالوا:
إنا إن قتلنا أب النجاشى وملكنا أخاه، فإن له اثني عشر رجلًا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرًا طويلًا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه، فقتلوه، وملكوا أخاه، فدخل النجاشي لعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبًا، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: لقد غلب هذا الغلام أمر عمه، فما نأمن من أن يملكه علينا وقد عرف أنا قد قتلنا أباه، فإن فعل لم يدع منا شريفًا إلا قتله، فكلموه فيه، فلنقتله أو نخرجه من بلادنا فمشوا إليه فقالوا:
قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قد قتلنا أباه، وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن أن تملكه علينا فيقتلنا، فإما أن نقتله، وإما أن تخرجه من بلادنا، فقال: ويحكم قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، بل أخرجه من بلادكم، فخرجوا به، فوقفوه بالسوق، فباعوه من تاجر من التجار، فقذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة درهم .. فانطلق به، فلما كان العشي هاجت سحابة الخريف، فجعل عمه يتمطر تحتها، فأصابته صاعقة، فقتلته،
ففزعوا إلى ولده، فإذا هم محمقين (1) ليس في أحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم لبعض:
تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي (2) بعتم بالغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه حتى أدركوه، فردوه فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سريره، وملكوه، فقال التاجر:
ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي، فقالوا:
لا نعطيك، فقال: إذًا والله أكلمه .. فقالوا: وإن.
فمشى إليه فكلمه فقال:
أيها الملك، إني ابتعت غلامًا فقبضوا مني الذي باعونيه ثمنه، ثم عدموا على غلام، فنزعوه من يدي، ولم يدروا علي مالي، فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال:
لتردون عليه ماله، أو ليجعلن غلامه في يده، فليذهبن به حيث شاء، فقالوا: بل نعطيه ماله. فأعطوه إياها، ولذلك يقول:
ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة منه حيث رد علي ملكي، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه) (3).
(1) الحمق: قلة العقل.
(2)
لا يصلح أمركم غير النجاشى الذي بعتم.
(3)
إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 301) وأحمدُ (الفتح الرباني (20/ 224) حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وهذان الإسنادان صحيحان، الزهري إمام ثقة ثبت معروف، وأبو بكر تابعى ثقة فقيه عابد (التقريب 2/ 398) وعروة تابعى معروف.
ذلك هو النجاشى .. وتلك قصة تتويجه .. تتويج العدالة الحبشية .. ذلك الملك الأسمر نال شهادته من السماء بعد أن عدل بين شعبه .. نال شهادته قبل أن ينصف المسلمين .. لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده) قبل أن يصل أصحابه .. قبل أن يسمعوا عنه .. قبل أن يحكم بالحق. فلتهنأ الحبشة بسبقها .. فلقد أنصفت المسلمين من براثن مشركي قريش .. وآوتهم بعد أن ضاقت عليهم مكة.
في حين كانت يد قريش تمتد في حقد عجيب .. في تسلط حقير لتكمم الأنوف والأفواه .. وتمنع الهواء .. إنها تحسدهم على أرض يمشون عليها .. وتحسدهم على حصير يلقون عليه أجسادهم التي نخرها الترحال والشقاء .. ترى أي قلوب كانت تضمها أجساد المشركين حتى يركضوا خلف الراحلين .. ويدفعوا الرشوة لطرد هؤلاء الضعفة المساكين .. رجلان أرسلتهما قريش: عمرو بن العاص .. وعبد الله بن أبي ربيعة.
دعونا نستمع إلى أحدهما: عمرو بن العاص يقص علينا قصته .. وأثرها في نفسه .. بالطبع هي قصة الوجه البشع .. رسول قريش في تلك الأزمنة العصيبة على الإِسلام .. كيف كان يرى عمرو رحلته .. وماذا تكشف له بعد أن سمع ورأى ما حدث.
يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه:
(لما رأيت جعفرًا وأصحابه آمنين بأرض الحبشة. قلت: لأفعلن بهذا وأصحابه، فأتيت النجاشي، فقلت:
ائذن لعمرو بن العاص. فأذن لي، فدخلت. فقلت:
إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنا والله
إن لمن ترحنا منه وأصحابه، لا أقطع إليك هذه النطفة (1) أبدًا، ولا أحد من أصحابي، فقال:
أين هو؟ فقال عمرو:
إنه يجيء مع رسولك، إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولًا. فوجدناه قاعد بين أصحابه، فدعاه، فجاء، فلما أتيت الباب ناديت: ائذن لعمرو بن العاص. ونادى خلفي:
ائذن لحزب الله عز وجل، فسمع صوته، فأذن له، فدخل ودخلت، فإذا النجاشي على السرير، وجعلته خلف ظهري، وأقعدت بين كل رجلين من أصحابه رجلًا من أصحابي فسكت وسكتنا، وسكت وسكتنا، حتى قلت في نفسي:
العن هذا العبد الحبشي ألا يتكلم .. ثم تكلم، فقال:
نجروا -أي تكلموا. فقلت:
إن ابن عم هذا يزعم إنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك والله إن لم تقتله لا أقطع إليك هذه النطفة أبدًا، أنا ولا أحد من أصحابي. فقال النجاشي:
يا أصحاب عمرو ما تقولون؟ قالوا:
نحن على ما قال عمرو. قال النجاشي:
يا حزب الله نجر.
فتشهد جعفر - والله إنه لأول يوم سمعت فيه التشهد ليومئذ.
(1) النطفة هي الماء الصافي، وربما أراد بها البحر.
قال جعفر:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال النجاشي:
فأنت فما تقول. قال جعفر:
أنا على دينه، فرفع يده ثم وضعها. ثم قال النجاشي:
أناموسٌ كناموس موسى، ما يقول في عيسى؟ قال جعفر بن أبي طالب:
يقول: روح الله وكلمته. فأخذ النجاشي شيئًا من الأرض ثم قال:
ما أخطأ فيه مثل هذه، لولا ملكي لأتبعتكم. اذهب أنت يا عمرو، فوالله ما أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدًا، واذهب أنت يا حزب الله. فأنت آمن، من قتلك قتلته، من سبك غرمته. وقال لآذنه:
انظر هذا فلا تحجبه عني إلا أن أكون مع أهلي، فإن كنت مع أهلى فأخبره، فإن أبى إلا أن تأذن له فأذن له. فلما كان ذا عشية لقيته (1) في السكة، فنظرت خلفه، فلم أرَ خلفه أحد، فأخذت بيده، فقلت:
تعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فغمزني، وقال:
أنت على هذا، فما هو إلا أن أتيت أصحابي كأنما شهدوني وإياه، فما سألوني عن شىء حتى أخذوني فصرعوني، فجعلوا على وجهى قطيفة، وجعلوا يغمونني (2) بها، وجعلت أخرج رأسي أحيانًا حتى أنفلت عريانًا،
(1) أي لقى جعفر بن أبي طالب.
(2)
يغطونني.
ما على قشرة، ولم يدعوا لي شيئًا إلا ذهبوا به، فأخذت قناع امرأة عن رأسها، فوضعته على فرجي، فقالت لي:
كذا. وقلت:
كذا. كأنها تعجبت مني، وأتيت جعفرًا فدخلت عليه بيته، فلما رآني قال:
ما شأنك؟ قلت:
ما هو إلا أن أتيت أصحابي فكأنما شهدوني وإياك، فما سألوني عن شيء حتى طرحوا على وجهي قطيفة، غموني بها أو غمزوني بها، وذهبوا بكل شىء من الدنيا حولي، وما ترى علي إلا قناع حبشية أخذته من رأسها. فقال جعفر:
انطلق. فلما انتهينا إلى باب النجاشي نادى:
ائذن لحزب الله، وجاء آذنه فقال:
إنه مع أهله. فقال جعفر:
استأذن لي عليه، فاستأذن له عليه، فأذن له، فلما دخل. قال جعفر:
إن عمرو قد ترك دينه واتبع ديني، قال النجاشي:
كلا. قال جعفر:
بلى، فدعا آذنه، فقال:
اذهب إلى عمرو، فقال:
إن هذا يزعم إنك تركت دينك واتبعت دينه. فقلت: