الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأورد عليه مسألة ثانية، ففعل المبرّد فيها بنحو فعله في المسألة الأولى حتى والى بين أربع عشرة مسألة، يجيب عن كلّ واحدة منها بما يقنع، ثمّ يفسد الجواب، ثمّ يعود إلى تصحيح القول الأوّل.
فلمّا رأى ذلك الزجّاج قال لأصحابه: عودوا إلى الشيخ، فلست مفارقا هذا الرجل، ولا بدّ لي من ملازمته والأخذ عنه.
فعاتبه أصحابه وقالوا: أتأخذ عن مجهول وتدع من قد شهر علمه؟
فقال: لست أقول بالذكر والخمول، ولكنّي أقول بالعلم والنظر.
فلزم المبرّد. وسأله عن حاله فأعلمه برغبته في النظر وأنّه قد حبس نفسه على ذلك، إلّا ما يسغله من صناعة الزجاج في كلّ خمسة أيّام من الشهر، فيتقوّت بذلك الشهر كلّه. ثمّ أجرى عليه في الشهر ثلاثين درهما.
وأمره المبرّد باطّراح كتب الكوفيين. ولم يزل لازما له وآخذا عنه حتى برع من بين أصحابه، فكان المبرّد لا يقرئ أحدا كتاب سيبويه حتى يقرأه على الزجّاج ويصحّح به كتابه، فكان ذلك أوّل رئاسة الزجّاج.
وروى محمد بن درستويه عن الزجّاج أنّه قال:
كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو فلزمت المبرّد، وكان لا يعلّم إلّا بأجرة، فقال لي: أيّ شيء صناعتك؟
قلت: أخرط الزجاج، وكسبي كلّ يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف. وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك كلّ يوم درهما وألتزم بذلك أبدا إلى أن يفرّق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه.
فكان ينصحني في التعليم حتى استقللت، وأنا أعطيه الدرهم كلّ يوم. فجاءه كتاب من بعض بني مازن (1) من الصراة يلتمسون نحويّا لأولادهم.
فقلت له: «أسمني لهم! » فأسماني. فخرجت وكنت أعلّمهم وأنفذ إليه كلّ شهر ثلاثين درهما وأزيده ما أقدر عليه، ومضت على ذلك مدّة.
فطلب منه عبيد الله بن سليمان [بن وهب] مؤدّبا لابنه القاسم بن عبيد الله (2)، فقال: لا أعرف إلّا رجلا زجّاجا بالصراة مع بني مازن.
[اتصاله بالوزير القاسم بن عبيد الله]:
فكتب إليهم عبيد الله واستنزلهم عنّي فنزلوا له، وأحضرني فأسلم القاسم إليّ فكان ذلك سبب غنائي. وكنت أعطي المبرّد ذلك الدرهم في كلّ يوم إلى أن مات، ولا أخليه من النفقة معه بحسب طاقتي. فكنت اقول للقاسم: إن بلّغك الله مبلغ أبيك ووليت الوزارة، فماذا تصنع بي؟
فيقول: ما أحببت.
فأقول له: تعطيني عشرين ألف دينار- وكانت غاية أمنيتي.
فما مضت إلّا ستّون حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ما كان منّي له، وقد صرت نديمه.
فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد [32 أ] ثمّ هبته.
فلمّا كان في اليوم الثالث من وزارته، قال لي: يا أبا إسحاق، لم أرك أذكرتني بالنذر؟
فقلت له: عوّلت على رعاية الوزير أيّده الله، وأنّه لا يحتاج إلى إذكاره بنذر عليه في أمر خادم واجب الحقّ.
فقال لي: إنّه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني
(1) في بغية الوعاة: بني مارقة.
(2)
عبيد الله بن سليمان (ت 288) ثم ابنه القاسم، وزرا للمعتضد: ابن الأثير (سنة 288).
دفع ذلك كلّه إليك في وقت واحد. ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث. فاسمح لي بأخذه متفرّقا.
فقلت: يا سيّدي، لأفعل.
فقال: اجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار، واستجعل (1) عليها ولا تمتنع من مسألتي شيئا تخاطب فيه، صحيحا كان أو محالا، إلى أن يحصل لك مال النذر.
ففعلت ذلك وكنت أعرض عليه كل يوم رقاعا.
وربّما قال لي: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول:
كذا وكذا. فيقول: غبنت، هذا يساوي كذا وكذا.
فأراجع القوم فلا أزال أماكسهم ويزيدونني حتى أبلغ الحدّ الذي رسمه. فحصل عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها في مديدة.
فقال لي بعد شهور: يا أبا إسحاق، حصل مال النذر؟
قلت: لا.
فسكت. وكنت أعرض عليه فيسألني في كلّ شهر: هل حصل المال؟ فأقول: لا، خوفا من انقطاع الكسب، إلى أن حصل عندي ضعف ذلك المال. وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتّصل، فقلت: حصل ببركة الوزير.
فقال: فرّجت والله عنّي، فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل ذلك.
ثمّ أخذ الدواة فوقّع إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صلة، فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئا.
فلمّا كان من غد جئته وجلست على رسمي. فأومأ إليّ أن هات ما معك- يستدعي منّي الرقاع على الرسم. فقلت: ما أخذت من أحد رقعة، لأنّ النذر قد وقع الوفاء به. ولم أدر كيف أقع من الوزير.
فقال: يا سبحان الله! أتراني كنت أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة، وعلم به الناس، وصارت لك به منزلة عندهم وجاه، وغدوّ على بابك ورواح، ولا يعلم سبب انقطاعه، فيظنّ ذلك لضعف جاهك عندي وتغيّر رتبتك. اعرض على رسمك وخذ بلا حساب.
فقبّلت يده وباكرت من غد بالرقاع، فكنت أعرضها عليه كلّ يوم إلى أن مات رحمه الله.
وكان الزجاج نديما للمكتفي. وروى أبو عليّ الفارسيّ قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجّاج على القاسم بن عبيد الله الوزير. فورد عليه خادم وسارّه بشيء استبشر به، ثمّ تقدّم إلى أبي إسحاق بالمنادمة حتّى يعود، ثمّ نهض. فلم يكن بأسرع من أن عاد وفي وجهه أثر الوجوم. فسأله شيخنا عن ذلك فقال: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى القينات، فسمتها أن تبيعني إيّاها فامتنعت من ذلك. ثمّ أشار عليها أحد من صحبنا بأن تهديها إليّ، رجاء أن أضاعف لها ثمنها. فلمّا وردت، أعلمني الخادم بذلك فنهضت مستبشرا لافتضاضها، فوجدتها قد حاضت فكان منّي ما ترى.
فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب [الرمل]:
فارس ماض بحربته
…
حاذق بالطعن في الظلم
رام أن يرمي فريسته
…
فاتّقته من دم بدم
وقد روي هذا الشعر للخليفة عبد الله بن محمد، المأمون، لمّا زفّت عليه بوران وخلا بها (2).
(1) أي: خذ الجعل: أي الهدية.
(2)
الخبر في الفهرست 68.