الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الحافظ أبو الفرج: قلت: وقد روي أنّ الواثق رجع عن القول بخلق القرآن قبل موته.
فصل في ما جرى للإمام أحمد رضي الله عنه مع الخليفة المتوكّل على الله ابن المعتصم بالله
قال الإمام البيهقيّ: وردّ الله كيد من كاد أبا عبد الله. ثمّ ذكر بسنده إلى الإمام أحمد بن حنبل قال:
ثنا سفيان قال الإفريقيّ لأبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، إنّ عمر بن عبد العزيز كان يقول:
إنّ السلطان سوق فما نفق عنده أتى به. ثمّ ساق بسنده إلى أبي القاسم المنيعي قال: رفع رجل إلى أمير المؤمنين المتوكّل على الله قصّة أنّ أحمد بن حنبل يشتم آباءك وينسبهم إلى الزندقة. (قال) فوقّع المتوكّل: أمّا المأمون فإنّه خلط وأوجد للمقال على نفسه سبيلا. وأمّا أبو إسحاق المعتصم فإنّه كان صاحب حرب ولم يكن له بصر بالكلام. وأمّا هارون- يعني الواثق- فإنّه استحقّ ما قيل فيه. يضرب هذا الرجل- يعني الذي رفع القصّة- مائتي سوط. فجرّده خليفته بالباب، وهو عبد الله بن إسحاق، وضربه خمسمائة سوط. فرفع الخبر إلى المتوكّل فدعاه وقال له: أمرتك أن تضرب رجلا مائتي سوط، فلم ضربته خمسمائة سوط؟ فقال: يا أمير المؤمنين ضربته مائتي سوط لطاعة أمير المؤمنين، ومائتي سوط ابتغاء مرضاة الله، ومائة سوط لما تكلّم [به] في ذلك الشيخ الصالح أحمد بن حنبل. اه كلام البيهقيّ.
وقال الحافظ أبو الفرج، وولي المتوكّل على الله سنة اثنتين وثلاثين ومائتين فأظهر الله به السّنّة، وكشف تلك الغمّة، فشكره الناس على ما فعل.
ثمّ ذكر بسنده إلى محمد بن خلف قال: كان إبراهيم بن محمد التيميّ قاضي البصرة يقول:
الخلفاء ثلاثة: أبو بكر، قاتل أهل الردّة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز ردّ مظالم بني أميّة، والمتوكّل: محا البدع وأظهر السنّة.
ثمّ إنّ المتوكّل على الله في سنة سبع وثلاثين ومائتين بعد مضيّ خمس سنين من ولايته بعث يستزير أبا عبد الله. قال صالح: فوجّه المتوكّل إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بحمل أبي إليه، فوجّه إسحاق إلى أبي فقال له: إنّ أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصك إليه، فتأهّب لذلك. ثمّ قال إسحاق لأبي عبد الله: اجعلني في حلّ من حضوري ضربك.
قلت (1): قد جعلت كلّ من حضر في حلّ. ثمّ قال لأبي عبد الله: أسألك عن القرآن مسألة مسترشد وليكن ذاك عندك مستورا: ما تقول في القرآن؟
قلت: كلام الله غير مخلوق. قال لي: من أين قلت: [6 أ] غير مخلوق؟ فقلت: قال الله عز وجل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ففرّق بين الخلق والأمر. فقال إسحاق: الأمر مخلوق.
فقلت: يا سبحان الله، أمخلوق يخلق مخلوقا؟
فقال: وعن من يحكى أنّه ليس بمخلوق، فقلت:
جعفر بن محمّد قال: ليس بخالق ولا مخلوق.
(قال) فسكت. فلمّا كان في الليلة الثانية وجّه إليّ فقال: ما تقول في الخروج؟ فقلت: ذاك إليك.
(قال صالح) وجاء إلى أبي جماعة من الأنصار والهاشميّين عند ما وجّه المتوكّل في حمله فقالوا له: كلّمه! - يعني الخليفة- في أمرنا. فقال: قد نويت أن أكلّمه في أهله وفي الأنصار والمهاجرين وما فيه مصلحة للمسلمين [فأمر] بردّه من بعض الطريق. (قال صالح) فقلت له: يا أبة، أريد أن تكون خيرة، فقال: لم أزل أدعو الله عز وجل [فعزل] إسحاق بن إبراهيم، وولي مكانه ابنه عبد الله بن إسحاق، فرفع الأعداء إلى المتوكّل أنّ عند أبي عبد الله علويّين. قال المروزيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: قد جاءني أبو عليّ بن خاقان
(1) المنتظر: قال، وكذلك في بقيّة الحوار.
فقال: إنّ كتابا جاء فيه أنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: لو سلم أحد من الناس سلمت أنت. ههنا رجل قد رفع عليك أنّ علويّا توجّه إليك من قبل خراسان وأنك قد بعثت برجل من أصحابك يتلقّاه، وهو محبوس، فإن شئت ضربته وإن شئت بعثت به إليك. قال: فقلت: ما أعرف ممّا قال شيئا، وأرى أن تطلقوه ولا تعرضوا له، فقلت لأبي عبد الله: سفك الله دمه قد أشاط بدمائكم! فقال: ما أراد إلّا استئصالنا، ولكن قلت: لعلّ له والدةأو أخوات أو بنات، أرى أن يخلّوا سبيله ولا يعرضوا له.
ثمّ ورد كتاب عليّ بن الجهم إلى أبي عبد الله مضمونه أنّ أمير المؤمنين قد صحّ عنده براءتك ممّا قذفت به، وقد كان أهل البدع مدّوا أعينهم، فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك. وقد وجّه إليك أمير المؤمنين يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج. فالله الله أن تستعفي أو تردّ المال فيتّسع القول لمن يبغضك! .
فلمّا كان الغد ورد يعقوب فقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد صحّ عندنا براءة ساحتك، وقد أحببت أن آنس بقربك وأن أتبرّك بدعائك، وقد وجّهت إليك نفقة معونة على سفرك- وأخرج بدرة (1) فيها صرّة نحو من مائتي دينار والباقي دراهم صحاح- فلم ينظر إليها وانصرف.
(قال صالح) فجئت بإجّانة خضراء فكببتها على البدرة. فلمّا كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا فصيّره عندك! فأخذته. فلمّا كان السحر إذا أبي ينادي: يا صالح! فقمت فصعدت إليه فقال:
ما نمت ليلتي هذه. فقلت: لم يا أبة؟ فجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم! وقد عزمت على أن أفرّق هذا
الشيء. فلمّا أصبح قال: جئني بالميزان ثمّ قال:
وجّهوا إلى أبناء المهاجرين كذا، وإلى أبناء الأنصار كذا، وإلى فلان كذا، وإلى فلان كذا، ولم يزل كذلك حتى فرّقها كلّها ونفضت الكيس، ونحن في حالة من الاحتياج الله بها عليم.
فكتب صاحب البريد أنّ أبا عبد الله تصدّق بالدراهم كلّها حتى الكيس. فلمّا بلغ الخليفة ذلك قال له علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين، قد علم الناس أن أبا عبد الله قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال، وقوته رغيف؟ فقال: صدقت يا عليّ.
قال صالح: ثمّ سرنا إلى العسكر، فلمّا وصلنا إلى الحنّاطين قال يعقوب: قفوا ههنا! ثمّ وجّه إلى الخليفة يعلمه بقدومنا. (قال صالح) فجاء عليّ بن الجهم وقال لي: قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرّقها أبوك، وأمر أن لا تعلمه بذلك.
ثمّ جاء أحمد بن معاوية فقال: إنّ أمير المؤمنين يكثر ذكرك ويشتهي قربك وتقيم هنا تحدّث الناس، فقال: أنا ضعيف.
ثمّ أرسل الخليفة إلى أبي عبد الله يسأله: ما تقول في بهيمتين انتطحتا فعقرت إحداهما الأخرى فسقطت فذبحت؟ .
فأجاب: إن كانت قد طرفت بعينها ومصعت بذنبها وسال دمها تؤكل.
ثمّ جاء إليه يحيى بن خاقان فقال: قد أمرني أمير المؤمنين أن أقطع لك سوادا وطيلسانا وقلنسوة ونصيّرك في أعلى المراتب، ويصيّر ولده أبا عبد الله في حجرك.
ثمّ أركب أبو عبد الله إلى دار ولد الخليفة، ثمّ جاء إليه يحيى فقال له: إنّ أمير المؤمنين جاء بك ليتبرّك بك ويصيّر ابنه في حجرك. (قال
(1) إشارة في الهامش: عشرة آلاف درهم.
صالح) وأخبرني بعض الخدّام أن المتوكّل كان قاعدا وراء ستر، فلمّا دخل أبي الدار قال المتوكّل لأمّه: يا أمّاه، قد أنارت الدار! ثمّ جاء خادم بمنديل فيه قميص ومبطّنة وقلنسوة، ثم أخذ بيد أبي عبد الله فأقامه وأدخل يده في جيب القميص والمبطنة ثمّ أخرج يده اليمنى واليسرى وهو لا يحرّكها، ثمّ أخذ قلنسوة فوضعها على رأسه وألبسه طيلسانا.
فلمّا عاد إلى الدار نزع الثياب عنه وجعل يبكي ويقول: سلمت من مخالطة هؤلاء منذ ستّين سنة حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم! ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام- يعني ولد الخليفة- فكيف بمن يجب عليّ نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟ ثمّ قال:
يا صالح، وجّه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصدّق بثمنها، ولا يأخذ أحد منكم شيئا منها ولا من ثمنها. فبيعت وفرّق ثمنها.
وكان المتوكّل يرسل إليه المائدة فلا يأكل منها شيئا وكانت توضع في الدهليز حتى لا يراها، وكان يمكث ثلاثا لا يطعم، فإذا كانت الليلة الرابعة أضع بين يديه شيئا من السويق فربّما شربه [6 ب]. وربّما ترك بعضه، ومكث على ذلك خمسة عشر يوما.
(قال) وقبض الخليفة على ابن أبي دواد فكان المتوكّل يرسل عقّابا ويعقوب فيقولان له: أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في ابن أبي دؤاد وفيماله؟ فلا يجيب في ذلك شيئا. ثمّ أصدر ابن أبي دؤاد إلى بغداد بعد أن أشهد عليه ببيع ضياعه، وكان عليّ بن الجهم ويحيى وغيرهما يتردّدون إليه في كلّ يوم ويبلغونه السلام عن المتوكّل.
ثمّ إنّ المتوكّل أمر أن تشترى لنا دار فقال لي أبي: يا صالح إن وافقتهم على شراء دار لتكوننّ القطيعة بيني وبينك! هؤلاء يريدون أن يصيّروا هذا البلد لي مسكنا.
(قال) وجاءه يعقوب قاصد الخليفة فقال له:
يجيئك ابني بين المغرب والعشاء فتحدّثه بحديث أو حديثين؟ فقال: لا، لا يجيء. فلمّا خرج سمعته يقول: ترى لو بلغ أنفه طرف السماء حدّثته؟ أنا أحدّث حتّى يوضع الحبل في عنقي؟
يريدون أن أحدّث فيكون هذا البلد حبسي، وإنّما كان سبب فتنة الذين أقاموا بهذا البلد أنّهم أعطوهم [
…
] فحدثوا.
قال الحافظ أبو الفرج: وبلغني عن أبي الحسين ابن المنادي أنّه قال: امتنع أحمد من الحديث [
…
] بنحو ثمان سنين وذلك أنّ المتوكّل وجّه إليه يقرأ عليه السلام ويسأله أن يجعل المعتزّ في حجره ويعلّمه العلم، فقال للرسول: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأعلمه أنّ عليّ يمينا مقفلة أنّي لا أتمّ حديثا حتّى أموت. وقد كان أمير المؤمنين أعفاني ممّا أكره، وهذا ممّا أكره، فقام الرسول من عنده.
وكان المتوكّل يوجّه إليه في كلّ يوم ويسأله عن حاله ويأمر لنا بالمال فيقول: يوصل إليهم ولا يعلم شيخهم، ويقول: لم يمنع جماعته.
وقال بعض أعدائه للمتوكّل: إنّه لا يأكل من طعامك ولا يجلس على فراشك ويحرّم هذا الشراب الذي تشرب. فقال في الجواب: لو نشر المعتصم- يعني أباه- وقال فيه شيئا لم أقبله! .
قال المروزيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: إنّي لأتمنّى الموت صباحا ومساء، أخاف إن أحيا، أن أفتن بالدنيا. لقد تفكّرت البارحة فقلت: هذه